السياسية:

تمتلك موسكو إمكانية استخدام هذه الأسلحة بشكل لا يعطي أميركا الحجة لاستخدام أسلحتها النووية الاستراتيجية.

تكرر الحديث خلال الأسابيع الأخيرة عن احتمالات استخدام “الأسلحة النووية” خلال المعارك الدائرة حالياً في أوكرانيا، وهو حديث احتوى في مجمله مبالغات عدة، فرضتها الحرب الكلامية والإعلامية التي اندلعت شرارتها قبل أشهر – وربما سنوات – من بدء القتال في أوكرانيا.

وعلى الرغم من أنَّ معظم التقديرات العسكرية الأميركية “المعلنة” تشير بوضوح إلى عدم وجود مؤشرات واضحة على نيات موسكو استخدام السلاح النووي في أوكرانيا، ولكن، في نظرة فاحصة إلى الجانب التسليحي من المواجهة الجارية حالياً في أوكرانيا، سنجد أنَّ احتمالات حدوث هذا ربما تكون موجودة، لكن بصورة مختلفة عما تم الترويج له سابقاً من جانب العواصم الغربية.

أرسلت موسكو عدة مرات خلال العام الجاري إشارات تتعلق بالسلاح النووي، لم يكن بعضها مستجداً، لكن كان لافتاً أنَّ هذه الإشارات كانت متتالية ومركزة، وتضمّنت عدداً من التصريحات التي لوَّحت بشكل شبه صريح إلى إمكانية استخدام السلاح النووي، بدايةً من تصريحات الرئيس الروسي خلال لقائه الرئيس الفرنسي أوائل شباط/فبراير الماضي، حين قال نصّاً: “بالطبع، لا يمكننا مقارنة القدرات العسكرية الروسية مع قدرات دول الناتو مجتمعة، لكننا نفهم أنَّ روسيا قوة نووية تتجاوز الباقين، ولن يكون لديكم حتى الوقت للرد علينا”.

تلا ذلك التصريح تفعيل موسكو أواخر الشهر نفسه حالة الجاهزية القصوى لقوة الردع النووية الخاصة بها، وهي القوة التي تفاخر بها لاحقاً المدير العام لوكالة الفضاء الروسية “روسكوزموس”، ديمتري روجوزين، الذي تحدث عن إمكانية استخدام السلاح النووي لإلحاق أضرار جسيمة بدول حلف الناتو خلال نصف ساعة فقط.

لم تكتفِ موسكو بهذه التصريحات، بل قامت طائراتها الحربية في أوائل آذار/مارس الماضي بالتحليق نحو جزيرة “جوتلاند” السويدية، التي تعتبر مرتكزاً أساسياً يطمح حلف الناتو إلى استغلاله لمراقبة تحركات موسكو في بحر البلطيق، في ظل رغبة السويد في الانضمام إلى الحلف.

ورغم أن مثل هذه التحليقات تعتبر معتادة، إذ دأبت الطائرات الروسية على الإقلاع من إقليم “كالينغراد” بشكل دوري، لاختبار مدى جاهزية الوحدات الجوية التابعة واستجابتها لحلف الناتو والسويد وفنلندا، فإنَّ هذا التحليق كان لافتاً للغاية، إذ اكتشفت السلطات السويدية نهاية الشهر نفسه أن هذا التشكيل الذي تكوَّن من مقاتلتين من نوع “سوخوي-27” وقاذفتين من نوع “سوخوي-24” كان يتضمن ذخائر نووية حملتها القاذفتان الأخيرتان.

وصل الأمر إلى حدّ تناول الإعلام الروسي سيناريوهات تعرض المدن الأوروبية الرئيسية لضربات نووية، كما حدث في إحدى حلقات برنامج “60 دقيقة” الذي تبثه القناة الأولى الروسية، والذي تحدث فيه رئيس حزب “رودينا” ذو التوجه القومي، أليكسي زورافليوف، صراحة عن إمكانية إطلاق صواريخ نووية روسية نحو الأراضي البريطانية.

وتضمّنت هذه الحلقة أيضاً عرضاً لرسوم بيانية عن المسار المتوقع ومدة التحليق اللازمة لوصول الصواريخ النووية إلى بريطانيا وفرنسا وألمانيا، في حالة إطلاقها من إقليم كالينغراد. وقد أشارت هذه الرسوم إلى أنَّ الحيز الزمني المتوقع لوصول هذه الصواريخ إلى أهدافها لا يزيد على 200 ثانية فقط.

بطبيعة الحال، يبدو مستبعداً لجوء موسكو إلى استخدام قدراتها النووية الاستراتيجية ذات القدرة التدميرية العالية، لكن التلميحات الروسية الأخيرة حول السلاح النووي تجعل احتمال استخدام هذا السلاح “بشكل تكتيكي محدود” مطروحاً على طاولة الخيارات التسليحية المتوفرة لدى موسكو في هذه المرحلة، وخصوصاً أنَّ أحد أهم المسارات البحثية التي سلكتها موسكو في عمليات تحديث ترسانتها العسكرية كان اللجوء إلى تطوير قدرات صاروخية تكتيكية تعمل بمحركات نووية.

هذا الأمر اتَّضح بشكل ضمني بعد إعلان وزارة الدفاع الروسية في تموز/يوليو 2018 عن 5 أنواع جديدة من الأسلحة، من بينها 3 أنواع ذات طبيعة نووية، هي الصاروخ العابر للقارات “سارمات”، والطوربيد النووي “بوسايدون”، وصواريخ “كينزال” الجوية.

اللافت بعد هذا الإعلان بشهر واحد، أنَّ الشمال الروسي شهد حادثاً إشعاعياً اتضح أنه طرأ خلال تجربة على محرك صاروخي يعمل بالنظائر المشعة. هذا التوجه كان مقدِّمة لما يمكن أن نعتبره “تلاشي كامل” المسافة التي كانت موجودة سابقاً بين الأسلحة النووية والأسلحة التكتيكية، إذ لم يعد السلاح النووي – بالضرورة – ذا تدمير شامل أو ذا حجم كبير.

تمتلك موسكو، بحسب أحدث التقديرات، نحو 4477 رأساً نووياً، منها 1500 رأس كانت في طور التجهيز لإتلافها، و2889 رأساً مخزنة، و1588 رأساً موضوعاً في المناوبة القتالية الفعلية. الرؤوس المخزنة يمكن استخدامها – نظرياً – عبر وسائط قتالية تقليدية، وهو ما يمكن الإشارة إليه بمصطلح “الأسلحة النووية التكتيكية”.

يشير هذا المصطلح إلى الأسلحة النووية القصيرة المدى، بما في ذلك الصواريخ والذخائر والوسائط التي يقل مداها عن 500 كم. تتّسم أغلب الأسلحة التي تنضوي تحت هذا التصنيف في أن وسائط إطلاقها تستخدم في الأساس لتنفيذ هجمات بذخائر تقليدية غير نووية.

المفارقة هنا أنَّ الميدان الأوكراني شهد فعلياً استخدام وسائط قتالية تستطيع إطلاق ذخائر وشحنات نووية، وهو ما يجعل إمكانية استخدام السلاح النووي التكتيكي في أوكرانيا رهناً بتغيير الذخائر المستخدمة من تقليدية إلى نووية فقط. المثال الأول من أمثلة هذه الوسائط هو مدفعية الميدان، فقد استخدمت موسكو وكييف خلال العمليات العسكرية 3 أنواع من المدفعية التي تمتلك القدرة على إطلاق قذائف ذات شحنة نووية تكتيكية تتراوح قدرتها بين 2 و4 كيلو طنّ؛ النوع الأول هو المدفعية الثقيلة ذاتية الحركة من عيار 203 ملم “مالكا”.

هذا النوع يعدّ نسخة مطورة ظهرت في منتصف ثمانينيات القرن الماضي من المدفع الذاتي الحركة “بايون”، ويقترب مداها الأقصى من 50 كيلومتراً، وتعد من أكبر أنواع المدفعية الذاتية الحركة من حيث المدى في الترسانة الروسية. هذا النوع من المدافع البعيدة المدى كان نتيجة مساعٍ سوفياتية لإنتاج مدافع قادرة على إطلاق قذائف نووية تكتيكية. وقد تم تحديث الترسانة الروسية من هذه المدافع بحلول العام 2019، وهي تستطيع إطلاق قذائف نووية من نوع “ثري بي في تو”، يصل مداها الأقصى إلى 30 كيلومتراً.

النوع الثاني هو مدفع الهاون الثقيل الذاتي الحركة من عيار 240 ملم “توليبان”، والذي بدأ إنتاجه أيضاً في منتصف سبعينيات القرن الماضي، ويتراوح مداه الأقصى بين 10 و20 كيلومتراً، بحسب الذخيرة المستخدمة، ويمتلك القدرة أيضاً على إطلاق القذائف النووية التكتيكية، إذ خُصصت له قذائف هاون من نوع “ثري بي في فور”، يصل مداها الأقصى إلى 18 كيلومتراً.

أما النوع الثالث، فهو مدفع الهاون الثقيل الذاتي الحركة من عيار 152 ملم “جيات سينت”، والذي بدأ تصنيعه أيضاً في سبعينيات القرن الماضي، ويستطيع إطلاق قذائف نووية من نوع “ثير بي في ثري”، تبلغ قدرتها 1 كيلو طنّ، ويصل مداها إلى 18 كيلومتراً.

والجدير بالذكر أن هذا النوع من القذائف يصلح أيضاً للإطلاق من مدافع الميدان والمدافع الذاتية الحركة الروسية الأخرى، من عيار 152 ملم، مثل مدفع “دي-20” ومدفع “ميستا” الذاتي الحركة. وقد تم استخدام هذه الأنواع أيضاً في الميدان الأوكراني.

المثال الثاني من أمثلة الأسلحة التي يمكن استخدامها في مهام نووية تكتيكية، هي الصواريخ البالستية القصيرة المدى. استخدم الجيش الروسي خلال العمليات العسكرية الحالية نوعين من أنواع الصواريخ البالستية التكتيكية القادرة على حمل رؤوس نووية؛ الأول هو الصواريخ التكتيكية “توشكا” – التي استخدمتها أوكرانيا أيضاً – وهي صواريخ يمكن تزويدها برأس نووي تبلغ قدرته 100 كيلو طنّ، ويمكن إيصاله إلى مدى يصل إلى 200 كيلومتر.

النوع الثاني استخدمه الجيش الروسي حصراً، وهو الصاروخ التكتيكي “إسكندر-إم”، الذي يصل مداه إلى 500 كم، وتصل سرعته إلى 7 أضعاف سرعة الصوت، ويمكن تحميله برأس حربي نووي تتراوح زنته بين 5 و50 كيلو طن. استخدمت موسكو كلا النوعين انطلاقاً من غرب روسيا، وهي تحتفظ أيضاً في إقليم “كالينغراد” بعدة بطاريات من صواريخ “إسكندر – إم”.

المثال الثالث يتعلَّق بسلاح الجو، فقد استخدم الجيش الروسي خلال العمليات في أوكرانيا عدة أنواع من الطائرات القادرة على تنفيذ ضربات نووية تكتيكية، مثل القاذفات الاستراتيجية “تي يو-22″، وقاذفات “سوخوي-24″ و”سوخوي 34”.

وتستطيع هذه الأنواع إطلاق عدد من أنواع الصواريخ التي توجد منها نسخ ذات رؤوس نووية، منها الصاروخ المضاد للسفن “KH-22″، الذي تم تسجيل استخدامه في المعارك الحالية في أوكرانيا بنسخته التقليدية. تم تصنيع نسختين من هذا الصاروخ تحملان قدرات نووية؛ الأولى تمت تسميتها “KH-22N”، زودت برأس نووي زنته تتراوح بين 350 و1000 كيلو طن، والثانية هي الأحدث، وسميت “KH-32″، وهي مزودة في الأساس برأس حربي تقليدي، لكن يمكن استبدال رأس حربي نووي به. ويبلغ مدى هذا الصاروخ الذي يمكن إطلاقه من قاذفات “تي يو-22” نحو 1000 كيلومتر، وتصل سرعته إلى 5 أضعاف سرعة الصوت.

ثمة نوع آخر هو الصاروخ المضاد للسفن “KH-35″، الذي يمكن إطلاقه من القاذفات أو من منظومات الدفاع الساحلي “بال”. وقد تمّ رصد استخدام النسخة التقليدية منه التي يصل مداها إلى 300 كيلومتر في أوكرانيا. يوجد من هذا النوع نسخة ذات رأس حربي نووي تُسمى “KH-37”. الصاروخ الجوال ذو الرأس النووي “KH-102” يعد أحد تطويرات صواريخ “KH-55” الجوالة.

وقد دخل هذا التطوير الخدمة في العام 2012، وهو يتسلَّح عادة برأس حربي تقليدي زنته 450 كيلوغراماً، لكن يمكن تزويده برأس حربي نووي قدرته التدميرية تصل إلى 250 كيلو طنّ. والجدير بالذكر أن النسخة التقليدية من هذا الصاروخ – المسماة “KH-101” تم تسجيل استخدامها في أوكرانيا.

يُضاف إلى ما سبق استخدام الجيش الروسي نوعين من أحدث أنواع الصواريخ التي يمتلكها في ترسانته؛ الأول هو أحد أهم الصواريخ التي تم استخدامها في أوكرانيا حتى الآن، وهو الصاروخ الجوال “Kalibr”، الذي يطلق من كل المنصات جوا وبحراً وبراً. يُعتقد أن النسخة الأحدث منه “SS-N-30A” يمكن أن تحمل رأساً نووياً تتراوح زنته بين 400 و500 كيلو طن، ويصل مداها إلى 2500 كيلومتر.

النوع الثاني هو صواريخ “كينزال” الفرط صوتية، والتي دخلت الخدمة في أواخر عام 2017، وتم استخدامها قتالياً في أوكرانيا للمرة الأولى في آذار/مارس الماضي. يبلغ مدى هذا النوع من الصواريخ 2000 كيلومتر، وتصل سرعتها القصوى إلى 10 ماخ، وتمتلك القدرة على حمل رؤوس نووية تتراوح زنتها بين 100 و500 كيلو طنّ.

خلاصة القول أنَّ موسكو تمتلك عدة وسائط جاهزة وسهلة يمكن من خلالها استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، بشكل لا يعطي الولايات المتحدة الأميركية الفرصة أو الحجّة لاستخدام أسلحتها النووية الاستراتيجية، ونحو 150 قنبلة نووية من نوع “B61″، مخزنة في مطارات دول حلف الناتو مثل بلجيكا وهولندا وإيطاليا.

رغم هذا الواقع، فإنَّ استخدام مثل هذه الأسلحة في نطاق قريب من الحدود الروسية، وفي ظل وجود الوحدات العسكرية الروسية في شرق أوكرانيا وجنوبها، ينطوي على مخاطر عدة في حال استخدام سلاح نووي تكتيكي، ناهيك بعدم وجود حاجة ميدانية عاجلة لاستخدام هذا النوع من الأسلحة.

بغضِّ النظر عن هذا الأمر، يمكن القول إنَّ الميدان الأوكراني دشن مرحلة “الأسلحة النووية التكتيكية” التي توجد حالياً في إقليم كالينغراد، وتقع وسائط إطلاقها بكثافة في عدة جبهات أوكرانية. وربما تغري تكلفة هذه الأسلحة الزهيدة – مقارنة بالأسلحة النووية الاستراتيجية – موسكو في أن تنشر مثل هذه الأسلحة التكتيكية في دول أخرى، مثل فنزويلا أو حتى كوبا، وهو ما يدخل التسليح النووي حول العالم في مرحلة جديدة كلياً.

بقلم : محمد منصور
المصدر: الميادين نت ـ المادة الصحفية تعبر عن وجهة نظر الكاتب