استعادة “النكبة”.. الكارثة متواصلة في الوجود والوعي
علينا إعادة فتح ملف النكبة جدياً، من حيث التسمية ودلالاتها، ككارثة تطهير عرقي، ومن حيث العلاقات السببية بين الذاتي والموضوعي.
السياسية – رصد :
إذا كانت الأمور الآنية عاجزة عن استكتابنا إلا في سياق الضّرورات، فإنَّ بعض الأمور والقضايا التي تتجاوز الأبعاد الآنية إلى ما قبل الراهن وما بعده تدفعنا دفعاً إلى تأملها وتناولها في سياق خيارات العقل والحياة والحرية.
وعلى الرغم من إشكاليات أدوات العقل، وما تحمله من نسقية ومحدودية في التحليل والاستنتاجات، وما فيها من مؤثّرات انفعالية وعاطفية جرّاء “الانتماءات والهويّات”، فإنَّ من الممكن، في اعتقادي، إعمال العقل وتفعيل أدواته بما يتجاوز العقل نفسه، بمعنى أنه يمكن تقليص مساحة المؤثّرات الجانبية أو الهامشية، كالعاطفة والانفعال والموروث والمنقول، وحتى الانتماء أو الهوية أو الذاكرة، في التعامل مع شؤون تتطلب منّا أقصى درجات الجرأة والعمق والتجرّد، في سبيل صناعة المستقبل عبر فهم الماضي وإدراك الحاضر.
إنها انطلاقة واضحة وبسيطة، وإن بدت مركّبة، أضف إليها أنّ “الاعتدال” في التفكير هو خيانة للعقل وتبرير الضعيف لغياب إرادته، أي أننا يمكننا أن نتصرف “باعتدال”، لكن يجب أن نفكر بمنطق العقل ومعاييره التي لا حدود لها، ومن ثمّ التحرّك وفقاً لمقتضيات الصّراع والواقع، على أن نسعى دائماً لتوسيع حيّز “الممكن”، وتقليص مساحة “المستحيل”، فكلما اتّسع الممكن ضاق ما يبدو مستحيلاً.
استناداً إلى هذه الذهنية، أتناول هنا، والآن مرةً أخرى، قضية نكبة الشعب الفلسطيني في ذكرى مرور 74 عاماً على “بداياتها”، من جوانب تجعل فعل الكتابة عملاً ديونيسياً مجيداً، من خلال رسائل سريعة عابرة للجغرافيا والزمان وحدود الكلمات ولانهائية.
وأشير هنا أيضاً إلى أنني كنت قد نشرت مقالاً حول هذه المسألة بالروحية والمضمون نفسيهما قبل أكثر من عقد من الزمان، من دون التعرّض للموضوع من باب الاستعراض المعرفي والمعلوماتي، والذي بات ممجوجاً بتفاصيله الدراماتيكية وخطوطه السيزيفية المكوّنة للمشهد، ولا سيّما أن المعرفة المعلوماتية لا تصنع بالضرورة تفكيراً، إذا لم تتدفّق في حركة نهر التأمل والتفكّر والنقد والنقد الذاتي والعمل، لأن ركود المعرفة يحوّلها إلى مجرد مستنقع آسن.
ثمّة مواقف يمكن الاتفاق عليها وقراءات يمكن الموافقة عليها، فقد نتّفق على أن النكبة حدث مؤسّس للقضية الفلسطينية، وأن إزالة آثار هذا “الحدث” وإسقاطاته شرط ضروري يترتب عليه تحقيق أي شكل من أشكال “السلام” العادل أو النسبي، كحلٍّ لهذه القضية. معنى ذلك أن فعل العودة إلى الوطن يجسّد ذلك الشرط الضروري “للسلام” أو أبرز تجلّياته، وليس التمسّك بمجرد “حق العودة”، فالمشروع الأساس هو العودة كحق، وليس أحقية العودة.
ويمكننا أن نتفق على أننا أمام هذه الذكرى من “النكبة”، أي أنّ حقيقة ديمومة النكبة واستمراريتها لا ريب فيها. وبهذا المعنى، إن النكبة ترافق الشعب الفلسطيني، ليس في ماضيه فحسب، وليس كذاكرة جماعية وفردية فحسب، إنما في حاضره أيضاً.
هذا الأمر لا يتبدّى كواقعٍ في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس حصراً، فإذا كانت النكبة تعني الكارثة الوطنية ذات الطابع القومي، أو التطهير العرقي بتعبير أدقّ، فإنَّ ذلك “المشروع الصهيوني” كمشروعٍ استعماريّ كولونياليّ، وليس احتلاليّاً فحسب، متواصل، ويجري تنفيذه يومياً في النقب والمدن الساحلية، وفي المثلث والجليل، من دون أدنى شك.
هذا “المشروع” يتمظهر بأشكال وأدوات وتشريعات متعدّدة الأطياف، لكنها تصبّ في النهاية في المشروع ذاته، وللغايات عينها، فالنكبة إذاً تعني كارثة وجودية وطنية وقومية للشعب العربي الفلسطيني، تجلّت بتطهير عرقي فجّ في العام 1948، لكنها بدأت نظرياً وعملياً قبل هذا التاريخ، عبر مقدّمات ودلالات عدّة، ولم تتوقف عند ذلك التاريخ في إطار هذا التعريف.
التطهير العرقي هنا يعني ارتكاب جرائم القتل والإبادة والتدمير والتهجير القسريّ من الوطن، وجوهر المشروع المتواصل هو تهويد الأرض – المكان وأسرلة الفلسطيني – الإنسان.
إنَّ أسرلة من بقوا في وطنهم لا يعني تهويدهم طبعاً، ولا يعني جعلهم مواطنين إسرائيليين، بل مسخ شخصيتهم ومصادرة هُويتهم الوطنية وتحويلهم إلى كائنات هلاميّة وآميبية لا مواطنية لديها، تفكّر وتسلك بعقلية وذهنية إسرائيلية، ولا سيّما أن جهوزيتنا البنيوية للتأقلم مع الواقع المفروض والأسرلة والدونية، لا حدود لها، على الرغم مما أنجزناه من بقاء وصمود وتطوّر نسبيّ في الوجود والوعي.
وفي هذا المفصل من القول، دعونا نتفق على ما قد نختلف عليه أو حوله، أو ما قد نتباين في توصيفه وفي استشرافه، ودعونا نمنح الأشياء معناها وقيمتها، بعيداً عن الانفعال، ومن دون الإفراط في التشاؤم الكافكوي، الذي يعتبر أكثر تفاؤلاً من الواقعية الخضوعية أو العقلانية الوهمية، فليس ما ندّعيه هنا إمعاناً في جلد الذات الجماعية، أو إلصاقاً للهزيمة والضعف بالذات، إنما هو إصرار على التمرّد العقليّ والإرادي على واقع تريدنا شروطه أن نراوح على حالنا.
إنَّ كارثة الشعب الفلسطيني بدأت قبل العام 1948، ولكن ما حدث من تطهير عرقي جماعي هو الأكبر في هذا العام يسمّى جزافاً بالنكبة. ولا بد من الإشارة هنا إلى قدرتنا “غير الطبيعية” على تقبّل الأشياء والمصطلحات والمسمّيات المنقولة والموروثة كما هي، من دون التمعّن فيها ونقدها وتفكيكها عند الحاجة، وإعادتها إلى جذورها المؤسّسة. وما أقصده هنا أبعد من المعنى اللّغوي والفيلولوجي للكلمات والمصطلحات، فنوعية استخدام المفاهيم تدلّ على عقليتنا والطريقة التي نفكّر فيها، وكيفما تفكّرون تكونون.
لقد كان من أوائل من أطلق اسم النكبة على تلك الكارثة وأبرزهم المؤرّخ والمفكر القومي العلماني قسطنطين زريق، كما جاء في كتابه “معنى النكبة”. وقد امتاز زريق بكونه من روّاد المدرسة النقدية العربية، ومن الداعين إلى إعمال العقل في المجتمعات العربية والنضال ضد الأوهام في سبيل الحرية والتحرّر.
وللمفارقة أدّعي أنَّ زريق (وغيره من الباحثين والمؤرّخين والمفكرين إلى يومنا هذا) لم يعمل عقله جيداً في هذه الحالة، أي في إطلاق تسمية النكبة، ومن ثمّ ترسيخها في الذهنية العربية، كما جاء في كتابه الآخر “معنى النكبة مجدّداً”.
ومما يجدر الانتباه إليه أنَّ زريق، كما يقول، اعتكف بعيد النكبة في بيروت لتدوين أفكاره وانفعالاته. وفي مدة لم تتجاوز الأسبوع، كتب كتابه “معنى النكبة”. وهنا، تتجلّى المؤثرات الانفعالية الغاضبة في إطلاق تسمية “النكبة”، والتسرّع في استخدام المصطلحات والتسميات التي لا تتماثل مع هول الحدث وحقائقه وخلفياته المؤسّسة.
وعلى الرغم من أنَّ مضمون الكتاب المذكور عقلي ونقدي، وخصوصاً للذات الجماعية، فإنَّ التسمية حملت من المخاطر والكارثية ما لا يحتمله العقل، وما لا يتناغم مع بعض مضامين الكتاب؛ فالنكبة تحمل في تركيبتها اللّغوية وفي إيحاء معناها بعداً قدرياً ثيولوجياً، وكأنها ضربة ربّانية أو كارثة طبيعية.
وقد أسهب الباحث والمؤرّخ إيلان بابه في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين” في إثبات عكس ذلك. وامتداداً إلى استنتاجات بابه وآخرين من غير العرب، فإنَّ مصطلح النكبة لا يعكس حقيقة ما جرى، ولا يستحقّ تسميةً لتلك الكارثة، مهما حاول بعض “المجتهدين” الادّعاء أننا، على الرغم من صحة ذلك، “حمّلنا مفهوم النكبة أبعاداً سياسية ووطنية وقومية وإنسانية عبر مسيرتنا النضالية ما يتجاوز الأبعاد القدرية”.
أعتقد أنّ الله لم يشارك في النكبة، ولكن تمّ استحضاره واستخدامه، وقد استخدمه الجاني والضحية على حدٍ سواء، ولكن في اتجاهات معاكسة. يُضاف إلى ذلك أنَّ النكبة بمعناها الحقيقي والجذري، فكرياً وسياسياً، تحمل في طيّاتها إعفاء الفاعل والجاني والمجرم من تحمّل المسؤولية وتبعاتها، وبالتالي التحرّر من عبء الإدانة وما يترتب عليها، وهو الأمر الأخطر.
كما أنَّ التسمية تعفي، ضمناً، الضحية من المسؤولية أيضاً، وتخرج الذات الجماعية من حقيقة الفعل الإرادي واللاإرادي الممهّد ثقافياً وسياسياً ومجتمعيا لما حدث في العام 1948. هذا الأمر لا يقل خطورة إذا ما أردنا فعلاً إيقاف نزيف “النكبة”.
إذاً، علينا إعادة فتح ملف النكبة جدياً، من حيث التسمية ودلالاتها، ككارثة وجريمة تطهير عرقي، ومن حيث العلاقات السببية بين الذاتي والموضوعي، وعدم التردّد في قراءة وفهم واستيعاب العوامل الداخلية والخارجية للحدث؛ هذه العوامل التي ما زالت في جوهرها، لا في شكلها فحسب، ماثلة فينا وأمامنا ومن حولنا، فأفول العقل في الوعي وغياب الإرادة في العمل يشكّلان العنصرين الأساسيين، وليسا الوحيدين، في تشكيل الوعي الجمعيّ والفرديّ الذي لم يرتقِ إلى مستوى الصراع والتحديات.
ولا يجوز أن نرهن الحاضر والمستقبل في زنزانة الماضي، حتى لو كان هذا الماضي زاهياً، فكيف إذ كان “نكبوياً”! كما أن الماضي ليس مادة معرفية وحدثية مجردة، إنما مادة للإدراك وطاقة لشحن الحاضر نحو المستقبل، فمن يتطلع نحو المستقبل لا يراوح في الماضي، بما يحمله من ذكرى وذكريات وذاكرة، بل يسعى لتجاوزه وتجاوز إسقاطاته.
وفي هذا السياق، لا بد من بعض الإشارات السريعة إلى عدد من القضايا المرتبطة بالموضوع، أهمها، في اعتقادي، أن عودة المهجّرين واللّاجئين إلى وطنهم، كحق، أكثر أهمية وتأسيساً في هذه القضية الوطنية، رغم أبعادها القومية والإنسانية، من القدس والأقصى، على أهميتهما الرّمزية والتاريخية والوطنية والعقائدية، وأكثر أهمية من مجرّد إقامة “الدولة”، لأن الوطن أوسع وأعمق من الدولة.
أضف إلى ذلك تحذيراً استراتيجياً من ارتكاب خطايا خطرة أو مواصلة ارتكابها، من دون إدراك أو دراية، وهي أنه لا يجوز البتّة اختزال فلسطين بالقدس، ولا يجوز اختزال القدس بالأماكن “المقدّسة”، ولا يجوز اختزال “الأماكن المقدسة” بالأقصى، ولا يجوز “تديين الصّراع”، كما أنَّ حرّية “المعبد” أهم من “حرية العبادة”، فحرية المعبد تضمن حرية العبادة، لكن حرّية العبادة لا تضمن حرية المعبد بالضّرورة، حتى لا نقع في الفخّ التاريخي ذاته مرة أخرى على المستوى الوطني والسياسي والاستراتيجي والإنساني.
ولم يجر التوقّف كفايةً عند إحدى أهم المحطات التاريخية للجماهير العربية الفلسطينية، الباقية في وطنها، عندما أخرجت الخطاب الجماعي لرواية “النكبة وحق العودة “من قمقم الوعي، حين أحيت للمرة الأولى الذكرى الخمسين للنكبة في العام 1998، عبر مسيرة العودة الأولى إلى قرية صفورية الجليلية المهجّرة، وأفرجت بذلك عن الرواية وعن المصطلح، من دون أن يعني ذلك أن تلك الرواية لم تكن حاضرة في الوعي ما قبل هذا التاريخ.
وفي الجانب الراهن من الحالة “النكبوية” المتواصلة، إنَّ الشعوب والأمم التي تقرّر أن “السلام” هو خيارها الاستراتيجي والوحيد، ليس في السياق الإسرائيلي حصراً، فإنَّها تدعو ضمناً إلى الانتحار الجماعي، من دون أن تفقه أبجديات الحياة وديناميكية التطور ومعنى الوجود وطبيعة الصراعات الوجودية وقوانينها، والتي تتجاوز الحقوقية.
وفي نهاية تلك الإشارات العاجلة حالياً، والتي يتطلب كل منها وقفة منفصلة ومتّصلة، أرغب في تأكيد عددٍ من الاستنتاجات والنتائج، ومن أهمها أنَّ الحقّ وحده لا يضمن لصاحبه الانتصار بالضرورة، لا في الحرب ولا في السّلم، وأنَّ الحتمية التاريخية وهم في غياب إعمال العقل وتفعيل الإرادة المؤثرة في صناعة التاريخ والفعل الإنساني، وأنَّ تحرير الأوطان يتطلب حرية الإنسان أولاً وأساساً، فما لم يكن الإنسان حرّاً، سيكون مجرّد شيء، ولا يستطيع تحرير الأوطان سوى الأحرار.
إنَّ الحرية والتحرّر يشترطان وجود أحياء كي يتحقّقا، والشعوب الحيّة، كما الأفراد الأحياء، لا بدّ لها من أن تكون سّيدة نفسها، وأن تعتمد على ذاتها أولاً وأخيراً، بمعزل عن أي دعم أو تضامن “خارجي”، وأن تقاوم الواقع والظروف وتصنع ما يبدو مستحيلاً، من خلال توسيع الممكن بأدوات واقعية علمية وعملية، وإدارة الصّراعات برؤية إدارة الصّراعات وذهنيتها وأدواتها، وعبر مقاومة حقيقية منهجية شاملة، علمية وتراكمية وتصاعدية، من دون ارتجالية وعشوائية، وليس بذهنية إدارة الأزمات.
ونستحضر هنا مقولة أينشتاين، كلازمة، عندما قال إن من الغباء أن تعيد وتكرّر التجربة نفسها، والأدوات نفسها، وأن تتوقع نتائج مختلفة. وأخيراً، حين يكون الفكر خارج إدراك الضرورات يفقد مبرّرات وجوده واستمراريته، والفكر الذي لا يهدم لا يعرف البناء، وما أرمي إليه هنا ليس هدماً، كما يبدو في الشكل، إنما محاولة لبناء جديد ومختلف، في الجوهر، ينبلج من ركام الماضي وبؤس الحاضر نحو مستقبل محتمل وممكن.
* المصدر :الميادين نت
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع