ليزا جاردنر *

حلمت بصباح أعرفه ويشبهني…! حلمت أني كتبت سيناريو هذا الصباح وحِكْتُهُ بخيوط ذهبية كأشعّة الشمس…

…في صباحي هذا لمحت نفسي أطوف حول الحارة العتيقة، أمشي على أرضها وأشتمّ رائحة ترابها، دخلت شارعا كان اسفلته محطما امتلأ حفرا نتيجة الأمطار الغزيرة وعجلات السيارات التي تمرّ بسرعة جنونيّة…! هذا الشارع كلما خرُب وتهشّم بلاطه تأتي شركة هندسة الطرق لإصلاحه من جديد وتملأ حفره بالزفت الحار الأسود فتنبعث منه تلك الرائحة القاتلة التي تضر بالأطفال والشيوخ وكل من يدبوا عليه ويمرّ حذوه ساعة إصلاح الحفر ..! ثم بعد فترة وجيزة تبرز الحفر من جديد فاضحة الإصلاحات المغشوشة.

لمحت وأنا أشق ذاك الطريق كمًّا هائلاً من الصراصير كأنها جيش يهرب نحو الاتجاه الآخر من الشارع، وسارعت جيوش الصراصير إلى فتحة المجاري و بدأت في الغوص داخلها بينما أحد الصراصير يصرخ ويقول “بسرعة أيها الحمقى إنه موطن جديد لكنه غير دائم لأننا سنرجع إلى موطننا الاصلي في القريب.
هناك في الضفّة الأخرى أشجار شبه يابسة ترقص فوقها العصافير وهي تغني مرحة بقدوم الصباح وبمداعبة أشعة الشمس لريشها. بينما كان صوت أمي ينادي الأطفال ويقول “هيا استيقظوا ها هو يوم جديد فلنستقْبله معا ونعدّ له العدة …

لصباح أمي سرّ البهجة ونغم الموسيقى الممزوجة بتغريد الحمام الزاجل و غناء الطيور الأخرى التي تنافس صوت المؤذن مُبشِّرة كلها ببدء يومٍ جديدٍ ومتخلِّلةً وجدان البشر وهم يستعدون لآداء الصلاة …يوم مفعمٍ بالنشاط والحب والسعي إلى طلب الرزق في حركيّة يُرافقها نباح الكلاب و صياح الديكة و أصوات الأطفال الذين لا يفارقهم الخوف من الصواريخ… و يرغبون في تناول قليلا من الحليب و البيض، سمعت ابنة جارتنا و هي تصرخ في وجه أمها و تقول اريد أن اتذوق البيض في السندويتش يا ماما إنه فقط بصل و طماطم انا أشتَم رائحة البيض يا ليتني أذوق طعمه…!

وضعت يدي على قلبي من وجع الفقر، وانتابني شعور مزدوج من الألم ومصداقية الفقير العميقة و الحزينة..! صدق كلمات هذه الفتاة البسيطة التي تكاد تقتل السامع رغم كون وجع العوز والفقر والحاجة لدى الجميع أعنف، لكن الأم أحست وهي تسمع رغبة ابنتها وكأنها أصيبت بجلطة صدرية من شدّة دقات قلبها التي هزّت صدرها…

حين عادت أمي من الخارج سمعتها تقول لا حول ولا قوة إلاّ بالله …لقد مررت ببيت جارتنا حميدة و معي نصيبا من الخبز و ١٠ بيضات و قليلا من الجبنة، حميدة جارتنا تعيش أوضاعا مزية فهي لم تجد عملا و كما تعلمين لديها ٣ بنات و أب سكّير لا يهمه شيء غير شرب هذا السّم القاتل.

في سماء حارتنا تتبعثر الأحرف وتتداخل فقد يجلس حرف فوق مشارف النّوافذ، أو أمام باب البيت وقد تسمع لها أصواتا من هنا أو هناك فتحدث ضجيجا يجعلني أجتهد وأنا أشق الحارة أجمع الحروف التي تعترضني وأرميها في حقيبتي المدرسية علّها تصلح لحياكة نص أو رسم قصّة…! خاصّة وأن هذه الأحرف ترافقني يوميا جيئة وذهابا حتى أصبحنا أصدقاء ويتربع حرف “الحاء” و”الباء” لتهب لقلوبنا ألوانا مزدانة وألحانا رنّانة تُشبه في عمقها نكهة قلوب سكان حارتنا ونقاء بياضها….

في المزرعة المجاورة لحارتنا لمحتُ المزارع وهو منكب على توضيب أشجاره المثمرة والعناية بها بكل حنّيّة وعطف ومحبّة تشاركه فيها أشعّة الشمس التي أخذت من شروقها تداعب الثمار وتضفي عليها بهاء وجمالا خلاّبا يتناغم مع رقصات الطيور وغنائها في سمفونيّة ساحرة لا يُدركها إلا من كان يعرف سرَّ جمال الطبيعة وسمع همساتها الرقيقة عن الحب والهوى…!

هذه المزرعة التي ارتدت منذ الصباح الباكر ثوبها من القماش الأخضر المعتق وتزيّنت بحليِّ العقيق اليماني الأخضر وامتدّت على أرضها المزدانة بأشجار التُّفاح المثمرة، و بالورود الحمراء و الصفراء والبيضاء الفوّاحة و بالريحان المعتق كمذاق الخمر المعتقة. زَرع هذه النباتات والأزهار والأشجار أجدادُنا من قبلنا وكبرت مع سكان الحي وحَضُنت أبناءه وبناته وتتالت عليها السنين والأحقاب وتعرفت عليها الأجيال تلو الأجيال إلى أن واجهت في هذا الزمن أبشع حالات الخوف تحت قصف الطائرات ودويّ الدبابات وأصوات الصواريخ المُفزعة…! فتبًّا للتكنولوجيات الحربيّة الحديثة وتبّا لنيرانها المقيتة والمخيفة.

وأنا في غفوة من حلمي سمعت صوت الزهور الفواحة التي تعيش حزننا لحظة بلحظة يقول: “إن شاء الله اليوم يوم خير وبركة وسلام، وقد نسمع اخبارا تُدخل البهجة والأمل للجميع فيسعد الكل، نبات وشجر وبشر…! فنبات وزهور وأشجار المزرعة هي جزء منّا تفرح لأفراحنا بكل ما فيها من تفاصيل وهي نمَتْ وكبرت مع العمال، والأدباء والطلبة والرجال والنساء والأطفال ذكورا وإناثا كلّنا كيان واحد وجسم واحد يسهر على سلامته طبيب الحي الذي تخرّج من جامعة صنعاء القديمة، كان إنسانا ذا طيبة فائقة يعالج أهل الحيّ المساكين مجانا ولم يكن أبدا مصاص الدماء كدراكولا! كان يمقت الفقر والحاجة مثل أشجار المزرعة التي تربى تحت ظلّها ولعب حولها وبقربها وكانت شاهدة على مراجعاته وقت الدراسة وأحلامه فترة شبابه.

وذاك الطفل الذي أصبح الآن معلما يدرّس الأطفال ويدربهم على التفكير الواضح النقديّ ويغرس فيهم قيم الخير والفضيلة وحبّ الوطن… كل صباح قبل بداية الدرس كان يحرص أن ينشد طلاّبه أنشودة الوطن ذاكرين متذكرين القيم الجميلة كقيم المحبّة والعلم والمعرفة والكفاح من أجل الانعتاق والتحرر من كل غاصب مستعمر جائر… لنكافح من اجل اليمن ونتعلم لنبني دولتنا ونعيد أمجاد التاريخ.

مُهنّد أحد متساكنيّ الحي. متفوق في دراسته من الابتدائي إلى الثانوي إلى الجامعي أصبح مهندسا بارعا… تمكّن في مشواره المهني من رسم تصاميم عدة لينهض ببلده ويعيد بناء ما دمّرته الحرب وما أحرقته نيرانها! مع إعادة ترميم ذلك الحي القديم الذي بناه الأجداد باليد والساعد وسقوه بعرقهم … وهو الآن مُوكل للشباب الذين لا همّ لهم سوى المحافظة على التراث فكل ركن منه يهمس بقصص وحكايات أصحابها…

حدث في حلمي وفي حيّنا مشهد لاحت فيه امرأة عجوز حين كانت تجوب الحي بحثا عن كسرة خبز وقليلا من الحليب، عثرت على قطع نقديّة قديمة تسمّى ” الفرانصي”، وهي عبارة عن الريال النمساوي (ريال ماريا تريزا) ويُذكر أن هذه العملة التجاريّة كانت متداولة إلى ما بعد منتصف القرن العشرين في كثير من دول العالم لقوتها ومتانة مركزها المالي ومن ضمنها اليمن شمالا وجنوبا الريال النمساوي (ريال ماريا تريز Maria Theresa)

وقد قامت هذه العجوز طوال حياتها بالتسول وادخار كل نقودها وتخبئتها تحت الفراش لتجدها وقت الحاجة وحدث أن توفيت هذه السيدة وكانت المفاجأة كبيرة حين عثر أولادها على هذا الكنز من العملة القديمة التي لم تعد لها قيمة مالية لكن لها قيمة تاريخية حضارية وكأن هذه العجوز دون وعي منها خلفت لنا حضارة أجدادنا التي تعبر بوضوح عن المعاملات التجارية والثقافية العاكسة لهذه الآثار التي إن دلّت على شيء فهي تدلّ بوضوح على قناعة ذاك الشاب الطبيب وذاك المعلم وذاك المهندس … وقناعة كل يمني أن “من لا ماضي له لا مستقبل له” وأن كل اليمنيين يجمعهم تاريخ واحد وحضارة واحدة وهم كالبنيان المرصوص شيبه بذاك الجدار القديم المبنيّ بتلك الحجارة الحمراء المسماة “بالياجور” والذي كان حصنا منيعا لليمنيين في مواجهتهم للعدوان فكان يحميهم من النيران ويصدّ عنهم الموت والفناء.

في أوج هذا الحماس الجداري بدأت أشعر في نومي وحلمي بأشعة شمس الغروب الحمراء تغادر الحيّ ليختفي وراءها المنازل والجبال والبساتين تاركة البشر وأيامهم وعاداتهم حالمة بإشراقة يوم جديد مفعم بالمحبة والتفاؤل والنضال المستمر حتى تحقيق النصر.

* المصدر : موقع الإبداع الفكري والأدبي بتصرف