خالد البوهالي*

أبرمت المتاحف الإسرائيلية اتفاقية شراكة ثقافية مع المتاحف المغربية في العاصمة المغربية الرباط. وبموجبها، يتبادل الطرفان المعارِض والمعلومات المتعلقة بالترميم، وبرامج زيارات مديري المتاحف، والنشر المتبادل للأنشطة في موقع كلا المؤسستين، فضلاً عن تبادل الخبرات في المجال الرقمي، بحسب وسائل إعلام مغربية.

الملاحظة الأساسيّة التي يمكن أن نستشفّها في مسألة التطبيع الصهيوني مع المغرب هي أنّ الكيان الصهيوني بدأ يركز على الجانب الثقافي في الأساس، لأنه يراه الجسر الذي يمكن أن يصل به إلى الشعب المغربي، وهو ما يفسّر سعادة مديرة المتاحف الإسرائيلية سميرة غاس بالاتفاقية.

إذا عدنا إلى تعريف المتحف، لوجدنا أنه مؤسسة تختزن التراث المادي الملموس وحضارات الشعوب القديمة، وتعبر عن إبداعاتها وأصالتها في شتى الميادين. ويتضمَّن المتحف مخطوطات تاريخية وعملات نقدية أثرية تؤرخ للحقب التي تعاقب فيها العديد من الحكام في ذلك البلد، أو منحوتات تقليدية أبدعتها يد الصانع المحلي، تؤرخ للحقب التاريخية والحضارات العريقة، لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: ماذا لدى الكيان الصهيوني ليقدمه كحضارة، وهو الذي عاش مستوطنوه في الدياسبورا موزّعين على عدة دول؟

من المفيد جداً التوضيح أنَّ الكيان الصهيوني لم يقم إلا في 14 أيار/مايو 1948، إثر وعد بلفور المشؤوم – نسبة إلى وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور – الصادر في العام 1917، والقاضي بإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، التي كانت خاضعة للانتداب البريطاني، ما سهَّل على الصّهاينة الهجرة نحوها والإقامة فيها، وإمداد العصابات الصهيونية، مثل الهاغانا والأرغون وشترن، بالمال والسلاح، لإرهاب الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض، وانتزاع أرضه منه عنوةً وتشريده منها وقتله، استناداً إلى نبوءات مزعومة تنهل من “أسفارهم المقدسة” التي تدَّعي أنَّ الرب وعدهم بامتلاك هذه الأرض.

رب قائل إن اليهود كانت لهم حضارة متمثلة بـ”مملكة إسرائيل”، ولكن هذا القول مردودٌ عليه. بالعودة إلى التاريخ القديم، نجد أن تأسيس مملكة “إسرائيل” الموحدة بدأ مع عهد النبي داوود، ثم خلفه ابنه سليمان الحكيم. وما لبث الأخير أن توفي، لتنقسم بعده مملكة “إسرائيل” إلى قسمين؛ الأولى عاصمتها شكيم، والأخرى عاصمتها أورشليم، وكلّها اندثرت بفعل الغزوات الخارجية، عقاباً لسكانها من الله تعالى، لمخالفتهم تعاليمه وكفرهم وقتلهم الأنبياء، كما جاء مفصلاً في القرآن الكريم، وبالتالي أنهى الله وجودهم كأمة.

وإذا تمعّنا في المتاحف الإسرائيلية الموجودة حالياً في الكيان الصهيوني، ومنها متحف القدس الذي تأسس في العام 1965، بتمويل من الصهيوني ديفيد صموئيل غوستمان، نجد أنَّ أغلبها يحتوي موروثات مادية لشعوب وأمم أخرى من خارج الشرق الأوسط، ويزور هذا المتحف نحو مليون زائر سنوياً.

أما متحف فاد ياشيم الشهير، الموجود في القدس المحتلة، فهو يتضمن وقائع وأحداثاً وأفلاماً وشهادات لضحايا ما يُسمى “الهولوكوست”، الذي يتحدث عن مزاعم إبادة اقترفها الزعيم النازي أدولف هتلر بحقّ اليهود الأوروبيين، والذي ما زال محل دراسة العديد من المؤرخين والباحثين في هذا الشأن.

في المقابل، نجد أنَّ المغرب يضرب بجذوره في التاريخ. وقد تعاقبت عليه العديد من الحضارات قبل مجيء الإسلام، مثل الممالك الأمازيغية القديمة التي حكمته باعتبارها شعوباً أصيلة، فضلاً عما خلفته دولة الرومان والوندال والبيزنطيين من العديد من المآثر التاريخية والتحف الأثرية الشاهدة على عراقة المغرب، والتي تزين المتاحف المغربية.

وتُضاف إليها الدول التي تعاقبت على حكمه بعد مجيء الإسلام وما خلفته من موروثات مادية، بدءاً من دولة الأدارسة، مروراً بالمرابطين والموحدين والمرينيين والوطاسيين الأمازيغ والسعديين، وانتهاءً بالعلويين، ما أغنى ماضي المغرب التليد الَّذي يشهد على عراقة هذا البلد المتوسطي – الأطلسي.

إذاً، يتبيَّن التفاوت الحضاري والتاريخي الشاسع بين المغرب والكيان الصهيوني، ما يطرح السؤال عن الغاية التي يسعى إليها من وراء هذه الاتفاقية.

باستثناء مسألة الترميم وخلافه، التي تبقى مسألة تقنية بحثة، فإن ما يهم الكيان الصهيوني من الاتفاقية هو تنظيم المعارض في كل ربوع المغرب، للترويج لمزاعمه بوصفه “دولة ذات تاريخ”، رغم الشواهد التاريخية والأنثروبولوجية التي تنفي ذلك، باستثناء ما ذكر أعلاه، بهدف الترويج لبعض المخطوطات والوثائق التي تؤرخ لقضية الهولوكوست، لأنها الورقة الرابحة التي تعتمد عليها “إسرائيل” لاستقطاب الجمهور المغربي من زوار معارضها مستقبلاً، لاستدرار عاطفتهم، وبالتالي التأثير في عقولهم، كي تصبح عقيدة راسخة عندهم، والادعاء بأن لليهود حقاً في فلسطين، وأن الفلسطينيين ليسوا سوى مغتصبي هذه الأرض.

إنَّ التراث المادي للشعوب ينطلق من أصالتها وارتباطها بالهوية والأرض، التي تبني من خلالها حضارتها، وتشهد على عظمتها، وهو ما يفتقده الكيان الصهيوني الذي قام على معادلة الحديد والدم والنار بدعم إمبريالي، على حساب جماجم أبناء الشعب الفلسطيني، مثل ما قامت به أميركا من جرائم ضد الإنسانية بحقّ سكان أميركا الأصليين، لأنَّ مثل هذه الكيانات لا يمكنها أن تصنع حضارة، وهي لا تتورّع عن تدمير أي دولة ذات حضارة، وخير مثال على ذلك سوريا والعراق.

لكنْ تبقى هناك حقيقة لا يمكن إنكارها، تتمثل بأنَّ اليهود ساهموا في بناء الحضارة الإنسانيّة، لكن انطلاقاً من المجتمعات التي انتسبوا إليها وحملوا هويتها، باعتبارهم مواطني الدول التي عاشوا ودرسوا فيها، ولكنهم لم يبنوا دولة ذات إرث حضاري عريق.

ختاماً، إنَّ الكيان الصهيوني يحاول من خلال اتفاقيات التطبيع الثقافي في المغرب الوصول إلى الشعب المغربي، عبر تزييف الحقائق التاريخية التي يجيدها، لتحييده عن قضية المسلمين الأولى فلسطين، لكن هذا الشعب عصي عليه، مهما فعل.

* نقلا عن :الميادين نت