يا إلهي إنهم أوروبيون مثلنا..!
الحرب في أوكرانيا تفضح التمييز بين الضحايا الأوروبيين والجنسيات الأخرى "الملونة" حتى في جحيم الحرب والنزوح والموت و يفسح المجال لأصوات عنصرية تتحدث عن معاناة شعب "أكثر مدنية وحضارة" من شعوب الشرق الأوسط
السياسية:
كلنا متساوون، ولكن بعضنا “متساوون” أكثر من الآخرين.
أعادت الحرب التي اندلعت على حدود الاتحاد الأوروبي الحياة .
العبارة الساخرة للأديب جورج أورويل، مع متابعة المواقف الغربية من حرب أوكرانيا على الأرض، وسياسياً.. وإعلامياً.
منذ بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا يتحدث الإعلام الغربي عن نازحين يحاولون الفرار بأرواحهم من الموت، لكنهم لا يشبهون النازحين العاديين .. إنهم أوروبيون.
يتحدث صحفيون وضيوف عن “صدمتهم” لرؤية ما اعتادوا حدوثه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يحدث لأشخاص “يشبهونهم”.
يقول المراسلون: نحن لا نتحدث هنا عن سوريين أو عراقيين أو غيرهم من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، نتحدث عن أوروبيين يشبهوننا.
ويتحدث عرب وهنود وأفارقة عن تعرضهم لممارسات عنصرية عند الحدود.
ويثير الأمر غضباً ليس بين العرب فقط، وإنما حول العالم.
أكثر من 12 ألف طالب أجنبي في رحلة هروبهم من أوكرانيا إلى البلدان الحدودية واجهوا سلوكاً غير متوقع من الأوروبيين، إزاء هاربين بأرواحهم من جحيم الحرب.
على الأرض منحت أوروبا الأولوية لاستقبال الأوكرانيين.
أوروبا نفسها التي لم يرِقّ قلبها لاستقبال الفارّين من جحيم القصف الروسي في سوريا.
أو من نار الحرب في ليبيا.
أو حتى لاستقبال اللاجئين الأفارقة.
وفي الإعلام تابعنا تغطية صحفية معيبة وغير مهنية، تُميز بين ضحايا الحرب في أوكرانيا وضحاياها في مجاهل الصحاري، وغَيابات القرون الوسطى، هنا في العالم الموازي.
انفعل المذيعون، واضطربت ملامح الضيوف تعاطفاً مع شعب “متحضر” يعاني ويلات الحرب والقصف، ويبحث عن ملاذ آمن في المنافي.
لكن العالم لم يشاهد هذه “القيم الإنسانية والتعاطف” مع المشرّدين على الحدود اليونانية مع تركيا، وعلى الحدود مع بيلاروسيا أو في ضفة المتوسط الشمالية. هناك حيث فقد لاجئون من الشرق الأوسط وإفريقيا إنسانيتهم تحت لهيب الصيف أو ثلوج الشتاء.
لم يتعاطف إعلام الغرب بالدرجة نفسها مع أبناء سوريا واليمن والعراق في رحلة شتات بدأت قبل أكثر من 10 سنوات، ولا تريد أن تنتهي.
الإعلام الذي يشيد بالبطولة الخارقة لأبناء أوكرانيا وهم يتصدون للغزو الروسي هو الذي وصف مقاومة الاحتلال في فلسطين أو الغزو في العراق بأنه إرهاب متشدد.
في هذا التقرير نرصد الفارق بين رد الفعل الغربي على حرب تقع على الأراضي الأوروبية، و”الحروب الأخرى التي تحدث بعيداً”.
كما نرصد التناول “العنصري” لحرب أوكرانيا في الإعلام، حرب يسقط فيها ضحايا يختلفون عن الآخرين في اللون والثقافة والدين.. وفي المستوى الحضاري.
* ما جرى على الحدود
الأوكراني لاجئ متحضر.. أما اللاجئون المسلمون فهم “غُزاة” يحومون حول حدود أوروبا لتهديد استقرارها وأمنها
في أوقات الحرب يُسارع الجميع بتقديم يد العون للمتضررين والضحايا، دون النظر لأعراقهم أو دينهم أو لونهم.
لكن ما حدث تجاه ضحايا الحرب في أوكرانيا كان مروّعاً.
تعرّض “الملوّنون” للتمييز في المعاملة داخل البلد وهو يهمون بالخروج منها، ثم على الحدود عند محاولة الخروج، وفي بعض الدول التي استقلوا منها طائرات العودة لبلادهم.
وقالت إنه تم منع عشرات المهاجرين الأفارقة في أوكرانيا من الفرار إلى بر الأمان مع استمرار الهجمات الروسية في تدمير البلاد، حسبما قال أولئك الذين يحاولون عبور الحدود لصحيفة The Independent البريطانية.
الإفريقي أوسارومين، وهو أب لثلاثة أطفال، قال إن السلطات البولندية طلبت من أفراد أسرته ومهاجرين آخرين النزول من حافلة كانت على وشك عبور الحدود، وقيل لهم: “لا للسود”.
وتم طردهم من السيارة.
وفي تقاريرهم أكد ناشطون وصحفيون على مواقع التواصل الاجتماعي أن تمييزاً وقع ضد المدنيين أصحاب البشرة السمراء والأقليات، القادمين على حدود أوكرانيا مع بولندا.
وقالت مراسلة “بي بي سي” الصحفية ستيفاني هيرغاتي، إن “حرس الحدود البولندي طلب من المدنيين ذوي البشرة السوداء العودة إلى مؤخرة طابور النازحين إلى بولندا”.
الأولوية للبشرة الفاتحة عندما يتعلق الأمر بإنقاذ الأرواح.
اعتذار وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا، نهاية فبراير/شباط 2022، عن التمييز الذي حدث على الحدود، دليل على دقة الشهادات والتقارير، لكنه اعتذار لم يغير شيئاً في الأسابيع التالية.
طلاب هنود وأفارقة تحدثوا عن تعرضهم للتمييز وغيره من الصعوبات عند محاولتهم الفرار من أوكرانيا.
وتحدث أجانب ملونون لـ بي بي سي عن رفض السماح لهم بصعود القطارات واحتجازهم، بينما يتم السماح للأوكرانيين بالمرور أولاً.
كما أن الصحفي في جريدة “إنفورماسيون” مارتن غوتكسا اضطر إلى السير مسافة 30 كيلومتراً مع أفارقة وآسيويين نحو حدود بولندا، ليكتب حقائق مروّعة:
لم يُظهر الجنود الأوكرانيون أي رحمة مع الأفارقة والجنوب آسيويين.
استخدموا بنادق وهراوات لتقسيم اللاجئين الفارين من الحرب بين بيض وملونين.
منعوا بالقوة ركوب السود عبر لكمهم وصفعهم وركلهم بوحشية.
واعتبر الصحفي في شهادته أن عنصرية أوروبا هذه المرة ترتبط بضيق النظرة العرقية لتصنيف البشر بناءً على اللون، حتى في أوقات الحرب العصيبة.
بدأت العنصرية باتجاه أبناء الجنوب، أي إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، لكنها اتّسعت لتشمل مواطنين روساً عاديين، بعضهم طلاب في جامعات أوروبية.
ما جرى على الأرض يقدم صورة واضحة عن الوجه الآخر لإنسانية القارة الأوروبية، الذي يحتاج إلى إعادة قراءة ومواجهة جريئة.
جذور العنصرية تتجاوز حدود أوكرانيا إلى فضاء أوروبي أوسع.
آسيا، طالبة طب من الصومال تدرس في كييف، قالت إن الأفارقة مُنعوا من العبور على مدى 6 ساعات، رغم أنه كان يسمح لحافلات تحمل نساء أوكرانيات وأطفالهن باجتياز المعبر. “تمكنا أخيراً من العبور، ثم أخبرونا بأن غرف الفندق متاحة للأوكرانيين فقط”.
قف هنا من فضلك.. الأولوية للأوكرانيين
وفي التغطية الإعلامية للحرب، وردت تقارير عن تعرض أشخاص من جنسيات مختلفة، من غير الأوكرانيين، إلى التمييز.
انتشرت تدوينات ومقاطع مصورة لعرب وأفارقة وهنود وغيرهم يقولون إنهم مُنعوا من العبور، وقيل لهم إن “الأولوية للأوكرانيين”.
* أوروبا تعاقب القطط الروسية وترفض مقاطعة العدو الإسرائيلي
انتفض الاتحاد الدولي للقطط بعد غزو روسيا لأوكرانيا، وقرر منع القطط الروسية من المشاركة في مسابقاته الدولية.
“لا يجوز دخول أي قط ينتمي إلى عارضين يعيشون في روسيا في أي معرض FIFe خارج روسيا، بغض النظر عن المنظمة التي يحمل هؤلاء العارضون عضويتهم فيها”، كما ورد في البيان القاسي.
الاتحاد، الذي يعتبر نفسه “الأمم المتحدة لاتحادات القطط في 40 دولة” قال إنه “مصدوم ومروع”، لأن القوات الروسية غزت أوكرانيا، وإن المسؤولين لا يمكنهم “مشاهدة هذه الفظائع دون أن يفعلوا شيئاً”، كما نقلت Washington Post عن البيان.
لكن أمام سياسة العدو الإسرائيلية الاستيطانية ضد الشعب الفلسطيني المستمرة منذ 74 عاماً، وسِجل الضحايا الذي بلغ 500 طفل في حرب 2014 وحدها، تتَّخذ البلدان الغربية مواقف نقيضة.
* لا تفرض عقوبات.
ولا تسمح بحملات مقاطعة الدولة التي تحتل وتقتل وتنفذ سياسات استيطان وحشية على أرض شعب آخر.
بل يجري التضييق على حركات مقاطعة الكيان الإسرائيلي BDS، وتوصف بـ”معاداة السامية”، وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سنة 2017، قبل توليه الرئاسة، إن قوانين بلاده تدين مقاطعة دولة الكيان، وليس هناك داع لمناقشة هذا الموضوع.
هذا فضلاً عن الملاحقات القضائية ضد النشطاء المناهضين للتطبيع مع العدو.
* كيف يمكن التمييز بين ضحية وأخرى؟
وحتى لو أقلقهم تقدم آلاف اللاجئين غير الأوكرانيين، فلا شيء يبرر اللجوء إلى التمييز. كان يمكنهم أن يشملوا الأجانب بقانون السماح بالبقاء 3 سنوات بلا لجوء، الذي اتفقت بعض الدول على تطبيقه، دون إطلاق أحاديث عنصرية عن التشابه السخيف في الهيئة والملامح.
هكذا كتب الخبير في سياسة الهجرة الأوروبية الدنماركي سفيند غراوسغورد، أن “صورة أوروبا ملطخة منذ أن تدفق اللاجئون إليها عام 2015”.
هل هي صدمة للعالم أن يشاهد صناع القرار الأوروبيين وهم أسرى الانحياز المطلق للعرق الأبيض؟
عالمة النفس السويدية ستينا هولمكفيست، التي تطوعت لمساعدة اللاجئين، ترى أن “الحالة النفسية التي يعيشها بعض السياسيين الأوروبيين هي نتيجة لارتباك المشهد منذ الأزمة السابقة للاجئين عام 2015. الإشارات الأوروبية لم تكن موفقة على الإطلاق، والتخويف من تدفق اللاجئين محا الفوارق بين التطرف في مواقف رئيس وزراء المجر اليميني المتشدد فيكتور أوربان وقادة أوروبيين آخرين”.
أصبحوا جميعاً متشككين في اللاجئ الجنوبي، وغير مرحبين به مهما كانت درجة معاناته.
وهنا يقترب الموقف الأوروبي العنصري من جريمة غير مباشرة ضد إنسانية اللاجئ المطارَد بالموت أو المنفى.
“الآثار النفسية عند ضحايا العنصرية لن تُمحى بسرعة، ولن تُداوى عبر تصريحات دبلوماسية، بل من خلال ممارسات عملية تهدف إلى الاعتذار عمّا جرى، وهو ما لم نره حتى الآن. والأخطر أن الأخبار تنقل أن الأوروبيين متفقون على استقبال اللاجئين من أوكرانيا، لكن ليس مواطني الطرف الثالث”. هكذا تضيف عالمة النفس السويدية.
هناك إجماع بين المحللين والمتابعين على أن “انتشار رهاب روسيا، والعداء الصارخ لكل ما هو روسي هو أيضا سلوك عنصريّ وتعميميّ، يتم بطريقة تشبه وصم المسلمين جميعهم بصفة إرهابيين”.
والدعم لأوكرانيا من السفير البريطاني في اليمن الذي مزقته الحرب
دول الغرب طبقت معيارين مختلفين حين اندفعت لمساعدة الأوكرانيين ضد الغزو الروسي، في وقت لا توجد فيه “بعثات رحمة” إلى اليمن أو غزة أو سوريا أو ميانمار في هذا الصدد.
ثم يصدر تصريح عن ريتشارد أوبنهايم، السفير البريطاني في اليمن، يعلن عن وقوف المملكة المتحدة مع شعب أوكرانيا في وجه الهجوم الروسي غير المبرر على الحرية والديمقراطية.
أوبنهايم يحمل لقب سفير بريطانيا في اليمن، ولكنه في الواقع غير موجود في اليمن على الإطلاق، بل في العاصمة السعودية الرياض. ومهمته الرئيسية هي تكرار ما يصدر عن السعوديين من تصريحات حول “حربهم البشعة والوحشية على الشعب اليمني”، كما كتب بيتر أوبورن في مقاله بموقع Middle East Eye.
وينقل الموقع عن كريس دويل، مدير مجلس التفاهم الإنجليزي العربي قوله: “يلاحظ الفلسطينيون في حالة روسيا أن العالم هبّ لفرض العقوبات عليهم وطردهم من كل المناسبات الثقافية، وسحب الاستثمارات من بلادهم في مواجهة الاحتلال.
لكن حينما يدعو الفلسطينيون إلى المقاطعة وسحب الاستثمارات في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي فإنهم يوصمون بمعاداة السامية، لدرجة أن الحكومة البريطانية تسعى لتجريم ذلك”.
* السياسة ممنوعة في الملاعب إلا إذا كان الضحايا أوروبيين
أعلن العالم الرياضي بأكمله انتفاضة تاريخية، فور بدء الغزو الروسي لأوكرانيا.
قررت كل الأجهزة الرياضية الرسمية في الغرب التضامن مع أوكرانيا وعقاب الرياضيين الروس بجميع اللعبات تقريباً.
علّق “الفيفا” مشاركة المنتخبات الروسية والأندية المحلية في كافة المنافسات الدولية والأوروبية بشكل رسمي، وقرر الاتحاد الأوروبي لكرة القدم UEFA إنهاء شراكته مع شركة النفط الروسية غازبروم في جميع المسابقات.
وتم حرمان روسيا من المشاركة في منافسات كرة السلة وألعاب القوى والتزلُّج على الجليد والتزحلق في الجبال والهوكي، بالإضافة إلى إلغاء الرئاسة الشرفية التي كان يحظى بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لاتحاد رياضة الجودو.
لكن اتحاد الجودو الدولي هو نفسه قرر في 2021 إيقاف الرياضي الجزائري فتحي نورين ومدرَّبه عمَّار يخلف عشر سنوات كاملة، أي إنهاء مسيرته الرياضية، لمجرَّد رفضه مواجهة الخصم الإسرائيلي في دورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت في طوكيو.
والاتحاد الأوروبي لكرة القدم الذي عاقب روسيا ومنعها من رفع نشيدها الوطني ومن استخدام اسم المنتخب الروسي، هو نفسه الذي عاقب نادي سيلتيك الاسكتلندي لمجرَّد وجود أعلام فلسطينيَّة في المدرَّجات تعبيراً عن الحق الفلسطيني عام 2016.
وحين رفع النجم المصري محمد أبو تريكة رسالته التضامنية الشهيرة، الداعمة لقطاع غزة وفلسطين بوجه العدوان الإسرائيلي، وتعرّض لانتقادات واسعة وعقوبات، واتهم بإقحام السياسة بالرياضة.
ونشر لاعب أياكس أمستردام، المغربي نصير مزراوي على “إنستغرام” رسماً لطفل فلسطيني يقف في وجه جندي من جنود الاحتلال، وكتب عليه “الحرية لفلسطين”، فقامت القيامة في هولندا.
* تدوينة مزراوي على إنستغرام
على الفور طالب أنصار أياكس بفسخ عقد اللاعب نصير مزراوي، وباقي اللاعبين المتضامنين مع الشعب الفلسطيني ومعاقبتهم.
تعرض مهاجم نادي إشبيلية السابق، النجم المالي فريدريك عمر كانوتيه، لعقوبة من الاتحاد الإسباني لكرة القدم عام 2009، عندما عبر عن تضامنه بجميع اللغات مع فلسطين.
إنها ازدواجية المعايير في مجال الرياضة وكرة القدم في أوروبا والعالم.
وعندما فرضت أوروبا على لاعبي الكرة كتابة شعارات مناهضة للحرب على القمصان، كان هناك لاعب واحد رفض ذلك.
إنه اللاعب التركي آيكوت ديمير، الذي يرى أن آلاف الناس يموتون كل يوم في الشرق الأوسط، ولا أحد يهتم.
وقال إن “أمر التضامن عندما يتعلق بأوروبا تجد الجميع بلا استثناء يقدمون الدعم اللازم، ولكن عندما تتحول أنظارهم نحو الشرق الأوسط فلا تجد أي نوع من الدعم يُقدم لملايين قُتلوا وآخرين أصيبوا وتشردوا بسبب هذه الحرب”.
* رجال السياسة في أوروبا لا يخفون عنصريتهم
في التصريحات الرسمية والمداخلات البرلمانية تكررت العبارة: هناك فرق.
فرق بين اللاجئ الأبيض، المسيحي، القوقازي، المتحضر.. وآخر يأتي من بيئة ثقافية ومستوى حضاري أقل.
في ساحة البرلمان الإسباني قالها رئيس حزب فوكس اليميني المتطرف، سانتياغو أباسكال.
أما اللاجئون المسلمون بنظره فهم “غُزاة”، يتشكلون غالبيتهم من مقاتلين في سنّ الحرب، وتم رميهم على حدود أوروبا لتهديد استقرارها وأمنها.
* ما جرى في التغطية الإعلامية
تشبيهات مُهينة لشعوب سوريا والعراق وأفغانستان وتعاطف مع لاجئ متحضر.. وأوروبي مثلنا
من اليوم الأول للحرب امتلأت التغطية الإعلامية بالتشبيهات العنصرية المبطَّنة، من خلال المداخلات الصحفية والتحليلات في استوديوهات القنوات الإعلامية.
أضفى الإعلام الغربي على أبناء أوكرانيا كل الصفات الملائكية والحضارية، وبدون مناسبة قارن النازحين الأوكرانيين “المتحضرين والمتعلمين” بلاجئي الشرق الأوسط وإفريقيا، القادمين من المجهول.
استُخدمت تشبيهات مُهينة لشعوب سوريا والعراق وأفغانستان.
هنا تعود الأفكار الاستعمارية القديمة، ومعها الحديث عن الأوروبي ذي الشعر الأشقر والعيون الزرق، وبذلك تصبح درجة التعاطف الإنساني مرتبطة بصورة مباشرة بلون العيون والجلد والشعر.
فيديو لأحد الضيوف يتحدث بالفرنسية: لا نتحدث عن سوريين يهربون من قصف النظام السوري، وليس قصف بوتين. نتحدث عن أوربيين يهرعون بالسيارات أو بدونها للنجاة بأرواحهم، هذا أمر مهم لأوروبا.
* العنصرية في تغطية الحرب وصمة عار لا تزول .. إنها قبلية.
هكذا لخصت صحيفة Telegraph سلوك الأوروبيين “التمييزي” ضد غير الأوروبيين في السلم والحرب.
تشير هذه التعليقات إلى عنصرية خبيثة تتغلغل في تغطية حرب اليوم وتتسرب إلى نسيجها مثل وصمة عار لا تزول.
المعنى الضمني واضح: الحرب حالة طبيعية للأشخاص الملونين، بينما ينجذب البيض بشكل طبيعي نحو السلام.
في أزمة أوكرانيا تحول المدنيُّون الذين يحملون السلاح ضد الغزو الروسي إلى “مدافعين عن وطنهم دفاعاً شرعياً”.
واحتفى الإعلام الغربي بنماذج طالب الجامعة الذي قرَّر ترك مقاعد الدراسة وإعداد قنابل المولوتوف.
أو عارضة الأزياء وملكة الجمال التي تقرر رفع السلاح ضد المحتلِّين.
هؤلاء المدنيون “السوبر” الخارقون، الذين يقدمون أغلى التضحيات للوطن.
أما المدنيون في العراق حين يقاومون الغزو الأمريكي فهم إرهابيون ومارقون ومنشقون dissidents.
وفي حرب أوكرانيا لم تمانع الحكومات الغربية من انضمام مواطنيها للقتال إلى جانب الأوكرانيين، بل إن وزيرة الخارجية البريطانية عبَّرت عن دعمها للبريطانيين “المتطوِّعين” للقتال في أوكرانيا، التي استقبلت 16 ألف متطوّع أوروبي.
وللمرء أن يتخيَّل رد فعل الإعلام الغربي تجاه “حركة تطوُّع مقاتلين” مماثلة في العالم العربي والإسلامي ضد الغزو الأمريكي للعراق.
أو الاحتلال الإسرائيلي الذي يتمدد كل يوم على الأرض الفلسطينية.
أول رد فعل من الإعلام الغربي سيكون وصمهم باتهامات كبيرة مثل “الإرهاب والبربرية والتمرُّد”.
ازدواج المعايير الإعلامية عند التعامل مع “حروب إفريقيا”
اهتم الإعلام بكل تفصيلة ممكنة عن الحرب في أوكرانيا، وعن معاناة النازحين، والأوضاع الإنسانية الصعبة لمن يعيشون تحت النار.
لكن حروباً أخرى تجري في أنحاء العالم لا تتم تغطيتها إعلامياً بالكثافة والدقة والتماهي مع آلام الضحايا.
ففي إثيوبيا مثلاً كانت الأشهر الـ16 الأخيرة عبارة عن جحيم.
شمالي البلاد، ونتيجة للصراع في إقليم تيغراي، أُجبر أكثر من مليونين من البشر على الفرار من مساكنهم.
يواجه مئات الآلاف شبح المجاعة، بينما يتهم كثيرون الحكومة الإثيوبية بمنع إيصال المعونات الأساسية والضرورية.
هناك أدلة تشير إلى ارتكاب جانبي الصراع جرائم حرب، بما في ذلك جرائم قتل جماعي واستخدام الاغتصاب كسلاح في الصراع، فهل هناك جرائم أخرى أكثر جاذبية لإعلام الغرب؟
الإعلام الغربي الذي تابع نهائيات كأس إفريقيا لكرة القدم من الكاميرون، لم يلاحظ أن هناك حرباً أهلية، وأرواحاً تصعد لبارئها كل يوم تقريباً، في صراع انفصالي طويل الأمد.
لكن مدى انفعال العقل الجمعي في الغرب بالحروب يتوقف على موقعها الجغرافي.
في تغطيته للحرب لصالح قناة “سي بي إس” الأمريكية، وصف الصحفي شارلي داغاتا الحرب في أوكرانيا بأنها مختلفة عن الحروب التي نعرفها في العقود الأخيرة… لأنها تجري بعيداً عن مركز العالم، وهو أوروبا وأمريكا.
* العنصرية.. هل أصبحت ثقافة الشارع الأوروبي ضد الأجانب؟
اعتاد العالم على رؤية الشرطة تواجه لاجئي الجنوب بالعنف، لكن اللاجئين هذه المرة من أبناء الشمال.
رأينا بالأمس اعتداءات الضرب والنبذ في العراء وإطلاق الرصاص نحو اللاجئين من إفريقيا وآسيا، لكننا نرى اليوم الشرطة ذاتها تفتح الطريق وتحمل الأمتعة وتوزع الماء والوجبات على الفارين من الحرب الروسية على أوكرانيا.
المعيار هنا ليس الموقف الأخلاقي الذي يقضي بمد يد العون لضحايا العدوان، إنما الموقف النفسي والثقافي من الضحية ذاتها، بعد الموقف السياسي تجاه هذه الحرب وأطرافها ومسبباتها.
التعاطي الرسمي في بولندا مع النازحين ليس معزولاً عن ثقافة الشارع العامة في أوروبا.
وفي التغطية الإعلامية لم يكن التركيز على قسوة الحرب وفظاعة اللجوء، وهي لغة عالمية يفهمها جميع الناس.
بل كان التركيز على الخصوصية الماثلة في صدمة الإنسان الأبيض من تعرّضه لتجربتي الحرب واللجوء في الألفية الجديدة، وبدا وكأن العالم الذي يتحدثون عنه غير العالم المليء بضحايا الحرب والإبادة والتهجير.
الإنسان الأبيض هو مركز الكون والميزان الوحيد للصواب والخطأ.
يرى نفسه متفوقاً في تاريخه وثقافته ودوره الحضاري، ويرى كل آخر غريباً عنه، وخارج دائرة التأثير والاهتمام.
سطوة المركزية الغربية أصبحت مشروعاً سياسياً واجتماعياً شاملاً يسعى إلى تطبيق حلم تجانس البشر وقمع اختلافاتهم، ومحاولة سحق حضارات عريقة وحتى إبادة شعوب بأسرها كما في تأسيس الولايات المتحدة وأستراليا.
هي عنصرية تصب في صالح المنافسة الشرسة على النفوذ والمصالح الاقتصادية، في مواجهة قوى صاعدة، مثل روسيا والصين، وضد بقية العالم “غير المتحضر”.
وهكذا تحولت مجموعات المركزية الغربية والتفوق الأبيض إلى تيارات سياسية واجتماعية تنشط في الولايات المتحدة وأوروبا، وتصنّف من تيار اليمين المتشدد الذي لا يحظى بتأييد جميع الغربيين.
ما شاهدناه من مقاطع و”زلات لسان” رسمية وصحفية ما هي إلا نتيجة لهذه العملية غير الواعية لترسيخ التفوق الأبيض، وفي الوقت نفسه هي إضافة جديدة تضمن إعادة إنتاجها.
* المصدر: عربي بوست
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع