السياسية:

شكل تكليف مجلس السيادة الانتقالي السوداني عضو المجلس مالك عقار بملف الانتخابات بداية فعلية لتحريك هذا الملف الجدلي على الساحة السياسية منذ نجاح ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2019 وحتى اليوم، بسبب تحفظات كثير من القوى السياسية السودانية ومخاوفها في ظل تأكيدات رئيس مجلس السيادة المتكررة بعدم تسليم السلطة في البلاد إلا لحكومة توافق وطني أو حكومة منتخبة من الشعب.

ومنذ البداية اعتبرت معظم القوى السياسية الإعلان الأول من المجلس العسكري الانتقالي عقب إطاحة نظام عمر البشير مباشرة بإجراء انتخابات عامة خلال ستة أشهر، مدة قصيرة وغير كافية، لكن لاحقاً تحددت الفترة الانتقالية من خلال الشراكة السياسية بين المكون العسكري وقوى الحرية والتغيير بـ 39 شهراً تبدأ من تاريخ التوقيع على الوثيقة الدستورية في 17 أغسطس (آب) 2019، مع استبعاد حزب المؤتمر الوطني من أي دور في الحياة السياسية خلال هذه الفترة، قبل أن تؤجل بدايتها إلى نحو عام آخر من تاريخ التوقيع على الاتفاق في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، بناء على رغبة الحركات المسلحة هذه المرة، ليصبح بذلك تاريخ الاستحقاق الانتخابي في يوليو (تموز) 2023.

وعلى الرغم مما أحدثته سنوات حكم الرئيس المخلوع البشير من تغيير في التركيبة السياسية السودانية وبعض الاعتبارات التغييرات الديموغرافية، لكن ظلت هواجس القوى السياسية قائمة، غير أن فجوة الثقة بين المكونين المدني والعسكري اتسعت بعد الإجراءات التي اتخذها قائد الجيش الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان بفض الشراكة وحل المؤسسات الانتقالية في 25 أكتوبر 2021، بينما ازدادت تحفظات القوى السياسية انتظاراً لتهيئة بيئة داخلية تعتبرها غير ملائمة لإجراء الانتخابات.

وطوال تلك المراحل ظلت القوى السياسية تبرر رغبتها في تأجيل الانتخابات بحجة استئصال التركة المثقلة التي خلفها النظام السابق، وإصلاح ما أفسدته ثلاثة عقود من الحكم الاستبدادي، والانتخابات هي تتويج للتحول الديمقراطي بنهاية الفترة الانتقالية، لكنها توقفت وباتت أداة من أدوات الصراع، فما أساس وحقيقية مخاوف القوى السياسية وتوجسها من الدعوة إلى انتخابات مبكرة؟

مراقبين

في السياق، اعتبر رئيس حزب الأمة مبارك الفاضل المهدي موضوع المخاوف من التزوير وعدم النزاهة مجرد شماعة تستخدمها تلك الأحزاب، إذ إن الصحيح والأصل في الأمور أن تعمل القوى السياسية على تشكيل مفوضية مستقلة للانتخابات، وتتابع حركة تسجيل الناخبين التي هي روح العملية الانتخابية، كما يمكنها المطالبة بمراقبين دوليين، بخاصة والسودان له إرث انتخابي كبير منذ أعوام (53 و58 و65 و68 وحتى 1986)، وكانت سودانية خالصة، واعترف الجميع بنزاهتها على الرغم من أنها كانت من دون أي مراقبين.

وأوضح أنه بعد ثورة أبريل (نيسان) 1985 كان هناك 60 حزباً في الساحة السياسية، لكن لم يخض معظمها الانتخابات لأنها أحزاب صفوة ليست لديها قاعدة اجتماعية انتخابية، وفازت ستة أحزاب فقط من كل ذلك العدد، هي بحسب ترتيب حجم مقاعدها، الأمة القومي، الاتحادي الديمقراطي، الجبهة الإسلامية القومية، الحزب القومي السوداني، الحزب الشيوعي، ومؤتمر “البجا”، أما بقية الأحزاب، بحسب الفاضل المهدي، فقد اختفت من الساحة بما فيها حزب البعث العربي الذي ترشح في 67 دائرة بتمويل مباشر من الرئيس العراقي وقتذاك صدام حسين.

الثورة السودانية وخيار الاستئناف
ويقول رئيس حزب الأمة إن “الواقع الحالي قريب من ذلك، لأن الأحزاب والحركات المسلحة التي شكلت السلطة الانتقالية ليست لديها قواعد اجتماعية، وبالتالي لن تكون لها حظوظ انتخابية، لذلك عمدت كل من أحزاب البعث العربي والحزب الشيوعي وتجمع المهنيين والحركات المسلحة إلى تمديد الفترة الانتقالية وما زالت، وقد صارحوا العسكريين بذلك في محاولة لإغرائهم قبل أن يختلفوا بتمديد الفترة الانتقالية إلى 10 سنوات، لذلك نرى العسكريين يخوفونهم بالانتخابات لأنهم يعلمون أنهم لا يريدونها”.

ويستطرد الفاضل المهدي، “هذا الحديث ينطبق أيضاً علي قيادات حزب الأمة القومي لأنها تعلم ألا مستقبل لها كأفراد في العودة للمواقع القيادية في الحزب، ناهيك عن خوض الانتخابات بعد رحيل الإمام الصادق المهدي الزعيم التاريخي للحزب “.

لا نخشاها ولكن!

في المقابل، نفى رئيس لجنة الانتخابات العامة بحزب المؤتمر السوداني طارق منصور أي خشية من الانتخابات، بل بالعكس تماماً، القوى السياسية لا تخشى الانتخابات بطبيعة الحال، وذلك كون الأحزاب “الديمقراطية” في الأساس تكتسب فاعليتها وتأثيرها من العمليات السياسية المتنوعة المرتبطة بالانتخابات. ورأى منصور أن هناك مشكلة كبيرة مصاحبة لأي دعوة للانتخابات في الظرف الحالي تتمثل في عنصر الثقة الذي يعتبر أهم العناصر التي تدفع الأحزاب للدخول في العمليات الانتخابية، مضيفاً، “أقصد هنا غياب الثقة تجاه هذا النظام الانقلابي في قدرته على الإشراف على انتخابات شفافة وحرة ونزيهة، إضافة الي غياب كل الجوانب الفنية واللوجستية التي تساعد في إنجاح الانتخابات واستدامتها، خصوصاً في ظل الاضطرابات السياسية الحالية وتوقف كل المنظمات وبيوت الخبرة عن تقديم الدعم الفني والمالي المطلوب لإنجاح الانتقال”.

ولفت رئيس لجنة الانتخابات بالمؤتمر السوداني إلى أنه يضاف إلى كل ذلك الجو العام الاجتماعي الذي تغلب فيه أدوات القمع وغياب العدالة وحريات التعبير والتنظيم وحالة العنف اليومية، مشيراً في الوقت نفسه إلى وجود كثير من التعقيدات التي تنظر إليها الأحزاب وتضعها في الاعتبار، ولا يمكن أن نصفها بالخشية أو الخوف بقدر ما يمكن أن نقول إنها بمثابة ضمانات أساس تستوجب منا جميعاً مشاركتها وصولاً إلى التحول الديمقراطي المطلوب. وقال إن العسكريين يريدون إتاحة حق التصويت للناس، وفي الوقت نفسه يحرمونهم من أساسات الديمقراطية عبر قانون انتخابات يضمن لهم فصلاً جديداً من فصول الاستبداد في السودان.

المخاوف الحزبية

من جانبه، رأى رئيس منبر الحوار بين قادة القوى السياسية (2003 – 2005) عصام صديق أن الحزبية أصلاً تسعى إلى السلطة بأقل الكلف، ومن جانب آخر فإن كلفة الانتخابات عالية واحتمال الفشل فيها كبير، فضلاً عن المخاوف الحزبية من عودة المؤتمر الوطني مجدداً عبر المال، وقال إنه في أي انتخابات حزبية قد يتهم الخاسر فيها الفائز بالتزوير.

وأضاف صديق، “الواضح أن الأحزاب الكبيرة مثل حزب الأمة القومي، قد لا تخشى حتى الانتخابات البرلمانية، وقد أبدى الحزب أكثر من مرة استعداده لانتخابات تقام قبل الموعد المحدد، أما الأحزاب الصغيرة فيبدو أنها تريد الوصول إلى السلطة من دون انتخابات، كما فعل الإخوان المسلمون طوال 30 عاماً، بخاصة اليسار الذي يرغب على الأقل في فترة انتقالية 10 أعوام على غرار ليس هناك أحد أفضل من الآخر”، وقال إننا نجد أن الأحزاب عموماً تتحاشى الانتخابات، بخاصة في بلادنا، لأن طريق الانقلابات كان الأسهل والأسرع، بل والمجرب بالنسبة إليها على مدى تاريخ السودان في أعوام 58 و69 و89 وحتى 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2022.

واقترح رئيس منبر الحوار حلاً وسطاً يتمثل في اللجوء إلى انتخابات رئاسية مبكرة خلال ثلاثة أشهر تفرز رئيساً منتخباً، وتشكيل مجلس تشريعي غير منتخب بنظام المحاصصة (التعيين) خلال ما تبقى من الفترة الانتقالية، مشيراً إلى أن من شأن هذا الأمر حقن دماء الثوار، كما أنه يرضي الأحزاب الكبيرة، وتكون دورة الرئيس المنتخب أربع سنوات مما قد يرضي الأحزاب الصغيرة، ورأى صديق ضمن اقتراحه أن يتزامن مع الدعوة إلى الانتخابات تشكيل مجلس سيادي بديل، على أن تتم الدعوة إلى مائدة مستديرة بواسطة منظمة أسر الشهداء ومشاركة كل القوى السياسية، ويتعهد المجلس السيادي بتنفيذ مقرراتها باستثناء حزب المؤتمر الوطني المحلول، أما في حال فشل المائدة المستديرة فلن يكون هناك مجال إلا الدعوة إلى انتخابات مبكرة، مما يضع الأحزاب السياسية أمام خيارين، إما الجلوس حول المائدة المستديرة مضطرة أو القبول بالانتخابات.

تحريك الملف

وكان عضو مجلس السيادة الانتقالي ومسؤول ملف الانتخابات مالك عقار تسلم ملفاً متكاملاً عن الانتخابات في السودان منذ تاريخ إجراء أول عملية انتخابية حتى آخر انتخابات شهدها العام 2015.

وفي سياق تحريك مجلس السيادة ملف الانتخابات، توقف عقار مع وفد المفوضية القومية للانتخابات برئاسة الأمين العام للمفوضية القومية للانتخابات السر أحمد المك عند أهم مقتضيات الانتخابات المقبلة، بما في ذلك تحديد الخطوات التي تسبق العملية الانتخابية ووضع قانون ينظمها. وأوضح الأمين العام للمفوضية أن مطلوبات العملية الانتخابية ستقدمها المفوضية الحالية التي تملك أصول وإمكانات مقدرة للانتخابات المقبلة، مشيراً إلى أن القانون الحالي للانتخابات يعود للعام 2018، وأوضح المك أنه يمكن النظر في تشكيل لجنة لإعداد القانون الجديد، كونه يمثل الإطار القانوني للعملية الانتخابية المحدد للنظام الانتخابي ومراحل العملية كافة.

وأشار الأمين العام للمفوضية إلى أن الاجتماع أمن على دعوة مركز الإحصاء السكاني لما له من أهمية خاصة للعملية الانتخابية، لاعتماد تقسيم وتوزيع الدوائر الجغرافية لأغراض التحضير للانتخابات المقرر إجراؤها في يوليو 2023 والتي ستجرى بحسب المعايير الدولية ووفقاً لقانون حاكم يضمن لكل الأحزاب السياسية المشاركة الفاعلة للوصول إلى نظام سياسي منتخب، هو الأمثل للتداول السلمي للسلطة في البلاد.

تجديد الدعوة

وكان رئيس مجلس السيادة الانتقالي والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان دعا القوى السياسية إلى التوافق الوطني للعبور بالبلاد إلى بر الأمان، مشيراً إلى التحديات والتهديدات التي تحدق بالوطن ويمر بها خلال هذه المرحلة الحرجة، مجدداً التأكيد على أن القوات المسلحة ستظل على العهد ولن تسلم البلاد ومقدراتها إلا لحكومة تأتي في ظل توافق وطني أو انتخابات شفافة.

وحث البرهان خلال زيارته منتصف الأسبوع الماضي منطقة الشجرة العسكرية كل مكونات المجتمع السوداني على التعاون مع القوات النظامية لحفظ أمن البلاد، كما دعا الأفراد إلى تحمل الإساءات وحملات التشويه الممنهجة ضد القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى التي تهدف إلى تشتيت وحدتهم وزعزعة إيمانهم بالوطن.

وحيا القائد العام للجيش في إطار زياراته التفقدية للمناطق والتشكيلات والوحدات العسكرية بحضور رئيس هيئة الأركان ونوابه وقادة القوات الرئيسة، شهداء البلاد، مؤكداً أن القوات المسلحة بوتقة تتجسد فيها كل معاني القومية والوحدة الوطنية.

*المصدر: اندبندنت عربية