السياسية: خالد الحداء

 

دون اكتراث إلى مطالب الشعب السوداني في تحقيق أهداف ثورة ديسمبر 2019 في “الحرية والسلام والعدالة” يمضي العسكر في البحث عن حلول من وراء الحدود، قد تعزز من سيطرتهم على مفاصل الحكم، في بلد يشهد حراك شعبي غير مسبوق، يطالب بتسليم السلطة للمدنيين وخروج العسكر من الحياة السياسية بصورة نهائية.

 

استرضاء الخارج في هذه المرحلة من قبل الفريق عبدالفتاح البرهان ومجلسه يبدو أنه الرهان الأكبر، للحيلولة دون سقوط النظام الحاكم، خاصة مع تصاعد حدة الأزمة وغياب أي افق للحل بعد انقلاب أكتوبر وفشل اتفاق “البرهان حمدوك” واستقالة الأخير وخروجه من المشهد السوداني.

 

تعقيدات المشهد الداخلي وعدم قدرة العسكر على فرض سيطرتهم على السلطة، دفعهم باتجاه البحث عن داعمين على المستويين الاقليمي والدولي؛ من أجل تثبيت سلطتهم، وأن كان ذلك على حساب الشعب السوداني ومصالحه العليا، ولم يكن مفاجئ في إطار هذا التوجه أن تتسارع الزيارات واللقاءات مع بعض الأطراف لاسيما السعودية والإمارات والكيان الإسرائيلي المحتل، تحت مبررات وحجج مختلفة.

 

وعند الحديث عن بداية العلاقة ما بين المجلس العسكري في الخرطوم ودولة الاحتلال الإسرائيلي، يمكن القول أن مصلحة كلا الطرفان كانت وراء تقاربهما خاصة خلال العامين الماضيين، وعلى الرغم من التأكيد المستمر من الجانب السوداني أن اللقاءات تحمل طابع التنسيق الأمني والاستخباراتي مع الكيان، إلا أن تفاصيل العلاقة القائمة بين الطرفان تحمل الكثير ولا سيما من قبل المجلس العسكري الباحث من خلال ابراز تطبيعه مع الكيان الصهيوني والاستفادة من ذلك في اقناع المجتمع الدولي: أن الفريق عبدالفتاح البرهان ومن معه أكثر قدرة من الأطراف السودانية الأخرى على تحقيق المصالح الدولية والغربية في ما يسمى مكافحة الإرهاب، وبأن الخرطوم سوف تكون جزء من التحالفات الدولية في هذا الحرب، إضافة إلى التأكيد أن السلطات الحالية في السودان أبعد ما تكون عن تحالفاتها السابقة في محور الممانعة للتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبأن السودان اليوم أكثر جهوزية للانضمام للمحور الأمريكي الغربي لمواجهة التمدد الصيني الروسي في منطقة الشرق الأوسط.

 

وما يجب أن يقال أن التطبيع مع الاحتلال لم يكن وليد المرحلة الأخيرة، ولكنه مسار مخطط بدأ منذ استيلاء العسكر على السلطة بعد الاطاحة بنظام الرئيس عمر البشير في الحادي عشر من شهر ابريل 2019، وأن الشراكة ما بين القوى المدنية وما بين العسكر لم يكن لها أن تمنع أو تعرقل قرار الذهاب باتجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني.

 

بمعنى أخر، أن حالة الجدل التي شهدها السودان بعد التسريبات عن لقاء رئيس المجلس السيادي مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني في مدينة “عنتيبي” الأوغندية في فبراير 2020، ما بين المؤيد لتلك الخطوة أو معارضاً لها، كانت تسريبات مقصودة الهدف منها جس النبض في المرحلة الأول، وفي المرحلة التالية تهيئة الشعب والنخب السياسية المختلفة على حتمية تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، تحت مبرر أن رفع اسم السودان كدولة راعية للإرهاب، مرتبط بموافقة السودان على التطبيع مع الكيان واقامة علاقات دبلوماسية رسمية.

 

ومع مرور الوقت، تسارعت الخطى باتجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني وساهم في ذلك اتساع رقعة الخلافات ما بين مختلف الأطراف السياسية المدنية، بشأن التطبيع وتوقيته، خاصة أن الوثيقة الدستورية التي تم تشكيل المجلس السيادي بموجبها لا تعطي الحق في الخوض في القضايا المصيرية وأن بنود الوثيقة أعطت الحكومة قيادة المرحلة الانتقالية في البلد والمجلس السيادي أعطي دور إشرافي واستشاري فقط، إلا أن مسار الأحداث خلال الأشهر التالية كشفت أن اتفاق تقاسم السلطة لم يكن سوى التفاف على مطالب الثورة، وأن أغلب الملفات الحيوية بما فيها سلطة اتخاذ القرارات المهمة والمصيرية والتي تعنى بحاضر ومستقبل السودان يهيمن عليها المكون العسكري في السلطة الانتقالية.

 

وأمام هذا الواقع لم يكن مستغرباً أن يجيز النظام الحاكم في الخرطوم في أبريل 2020 مشروع قانون إلغاء “قانون مقاطعة إسرائيل”، خلال اجتماع ضم مجلسي السيادة والوزراء، والقائم منذ عام 1958، وأوضح وزير العدل السوداني نصر الدين عبدالباري بقوله “أن المجلسين صادقا على المشروع خلال اجتماع مشترك”، وأضاف “أجزنا في اجتماع مشترك لمجلسي السيادة والوزراء مشروع قانون إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل”.

 

ويشير عدد من المراقبين السودانيين إلى أن السلطة الانتقالية خلال تلك المرحلة سعت إلى استغلال عدم تشكيل مجلس تشريعي انتقالي من أجل إجازة القوانين المختلفة من خلال اجتماع مشترك لمجلسي السيادة والوزراء، وبالتالي فإن إجازة مشروع قانون الإلغاء نهائي وليس بحاجة إلى مصادقة من أي أطرف أخرى، وأصبح إلغاء قانون مقاطعة إسرائيل ساري ونهائي.

 

يمكن القول أن قانون إلغاء قانون مقاطعة “إسرائيل” كشف حقيقة أن العسكر أصحاب القرار الفعلي والمتحكم بزمام الأمور، وأن الحديث عن أن تقاسم السلطة في حقيقته لم يكن سوى تنفيذاً لسياسة “ذر الرماد في العيون”، وأن ما حدث يعكس سيطرة المكون العسكري على القرار داخل البلد وفي العلاقات مع الخارج، وليس أدل على ذلك استمرار التورط العسكري السوداني في الحرب على اليمن وفي الصراع الليبي، دون مبررات مقبولة.

 

ويبدو واضحاً أن خطوات التطبيع مع الكيان الصهيوني مستمرة ولن تقف عند قانون إلغاء مقاطعة الكيان الصهيوني، وهناك رهان كبير من قبل قادة الكيان إلى جانب الانظمة العربية المطبعة على التطبيع الكامل مع السودان استباقاً لأي تطورات قد تأتي بنظام سياسي مغاير، قد يوقف مسار التطبيع بكل ما له من فوائد للكيان الصهيوني وفي مقدمتها:-

 

– التنسيق الأمني والاستخباراتي مع السلطات في الخرطوم بشأن الأنشطة المعادية للكيان “الداعمة للمقاومة الفلسطينية” التي كانت فعالة بصورة كبيرة وذات روابط قوية مع أطراف سودانية مختلفة خلال العقود الماضية، وهو ما يساعد كما يعتقد لدى ساسة الكيان في تقليص التهديدات على المصالح الصهيونية.

– يعتقد في “إسرائيل” أن التطبيع سوف يُسهم في الحد من إمداد المقاومة في قطاع غزة بالسلاح، لا سيما وأن المعلومات الاستخباراتية كانت تشير إلى ان النظام السوداني السابق كان يتغاضى عن عمليات نقل السلاح إلى فلسطين المحتلة من خلال أراضيه.

– التطبيع سوف يخرج عاصمة “اللاءات الثلاث: لا للسلام مع إسرائيل، ولا للاعتراف بإسرائيل، ولا للمفاوضات مع إسرائيل” من دائرة المواجهة مع الكيان الصهيوني في الحاضر والمستقبل، وبشكل نهائي.

– التطبيع المباشر وإقامة علاقات مع الخرطوم سوف يسمح للكيان استخدام اراضيه “ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة” للتوغل بصورة أكبر في شرق ووسط القارة الافريقية.

-اقامة علاقات دبلوماسية ما بين الطرفان سوف يعزز من تدخل الكيان الصهيوني في القضايا والملفات الرئيسية داخل القارة الافريقية.

يضاف إلى ما سبق أن لدى الكيان الصهيوني مكاسب اقتصادية وسياسية وعسكرية وأمنية لا حصر لها سوف تحقق في حال تطبيع العلاقات مع السودان.

 

بالمقابل يعتقد النظام العسكري الحاكم في السودان أن البقاء في مسار التطبيع سوف يسمح له في الانخراط وبصورة أكبر في لعبة المحاور (ما بين  محوري المقاومة والاعتدال القائم في منطقة الشرق الأوسط) للحيلولة دون تصاعد الضغوط الخارجية المطالبة بعودة الحكم المدني في السودان، ولن يمانع العسكر في إظهار الحرص على التطبيع مع الكيان الصهيوني في سبيل كسب ود الساسة في الولايات المتحدة، القادرة أكثر من غيرها، على تجنيب الخرطوم العقوبات الدولية المحتملة مستقبلاً.

سبأ – مركز البحوث والمعلومات