السياسية:

“إنتاج الغذاء من الهواء” يبدو أفضل استخدام لهذه الكلمات هو توجيهها كتحذير لشخص يكثر قول الهراء، ولكن هناك مشروع علمي كبير بالفعل ينفذه الجيش الأمريكي لإنتاج الغذاء من الهواء.

وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة “داربا” التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية هي تتبنى مشروع إنتاج الغذاء من الهواء، وهذا يجب أن يجعلك ألا تتعامل مع الأمر باستهتار بالنظر إلى تاريخ هذه الوكالة.

تصف صحيفة The Financial Times البريطانية “داربا” بأنها أروع وكالة حكومية في الولايات المتحدة الأمريكية”.

فهم مخترعو الإنترنت وفأرة الكمبيوتر والتقنية اللاسلكية والمركبات البحرية غير المأهولة في أعماق البحار وطائرات الشبح والأطراف الصناعية الروبوتية، ومئات الأشياء الأخرى التي حوّلت الخيال العلمي إلى حقيقة واقعية.

تضم وكالة “داربا” رجالاً مخضرمين في مجال التقنيات العسكرية والبحوث المتطورة ذات الصلة بدواعي الأمن القومي المعنية بها الوكالة منذ أنشأها الرئيس الأمريكي الأسبق، دوايت أيزنهاور، عام 1958 رداً على الإطلاق السوفييتي للقمر الصناعي “سبوتنك 1” في عام 1957. تضم الوكالة أيضاً مجموعة كبيرة من الشباب جنباً إلى جنب مع العديد من النساء ومجموعة من الشخصيات من غير المتوقع أن تعمل في وزارة الدفاع الأمريكية، من بينهم مولي جان، عالمة النباتات واستشاري المخاطر الزراعية وأستاذة علم المحاصيل الزراعية في جامعة “ويسكونسن” الأمريكية وواحدة من أحدث 12 مديراً للبرامج في مكتب علوم الدفاع التابع لوكالة “داربا”.

تعمل مولي على بلوغ الهدف العام المُتمثّل في إعادة اختراع العملية الكاملة التي يُصنع من خلالها الغذاء.

من أين جاءت فكرة إنتاج الغذاء من الهواء؟
يتمحور التحدي في مشروع مولى جان، الذي يُطلق عليه اسم “Cornucopia”، حول إنشاء نظام غذائي عالمي جديد يلبي احتياجات الإنسان الغذائية على نحو أفضل من النظام الموجود لدينا حالياً.

تسأل مولي، التي تحب طرح الأسئلة البلاغية: “هل يمكننا تبديل نموذجنا الغذائي بالكامل بطرق تضمن الأمن القومي، وتقلل من استخدام الطاقة وتنتج نظاماً غذائياً أكثر صحة؟ هل يمكن لعالم الميكروبات والبكتيريا والفطريات غير المكتشف نسبياً إنتاج العناصر الغذائية في غضون ساعات أو أيام على نحو أسرع بكثير مما تتطلبه زراعة المحاصيل في الحقول وتربية الحيوانات؟ الإجابة: نعم، ثمة أبحاث جارية في هذا الصدد بالفعل في المختبرات حول العالم.

وتضيف مولي: “ماذا لو استطعنا أخذ مفهوم صنع الطعام بعيداً عن الحيوانات أو النباتات، وربطناه بدلاً من ذلك بالميكروبات واستُخدمت لتحقيق اللامركزية في عملية إنتاج الغذاء نفسه؟ ماذا لو استطاع كل شخص إنتاج المكونات الغذائية الأساسية لاحتياجاته المنزلية؟ ماذا لو كان الغذاء أشبه بالهواء، بحيث لا يستطيع أحد التحكّم به بسهولة؟”

وتتابع: “إذا كنا نريد حقاً جعل العالم مكاناً أفضل، ينبغي منح الأفراد مزيداً من السيطرة على سبل توفير طعامهم. ربما ينبغي لكل شخص امتلاك أداة ما تصنع الطعام من لا شيء تقريباً، أداة يمكنها تحويل الهواء والماء إلى مادة غذائية أساسية أو على الأقل أنظمة غذائية احتياطية تدعم الموجودة حالياً عند فشلها”.

فيروس كورونا أظهر أهمية الفكرة
هذه فكرة قد حان وقتها في أعقاب جائحة فيروس كورونا المستجد التي أظهرت لنا مدى ضعف سلاسل التوريد العالمية وكشفت عن الاختلالات الموجودة في صميم نظامنا الغذائي. يعتاد الأمريكيون تحديداً على تناول غذاء غير مُكلّف بكمية وفيرة. أنفقت الأسرة الأمريكية المتوسطة 24.3% من دخلها على الطعام في عام 1930. لكن هذا الرقم تراجع إلى 9.8% بحلول عام 2007؛ وذلك لأنَّ النظام الغذائي في أمريكا، مثل معظم دول العالم، بات يتسم بمزيد من الطابع الاحتكاري والتصنيعي والعولمة خلال تلك الفترة.

وعلى الرغم من تعزيز الثروة الحيوانية وزيادة الانتاجية الزراعية- إذ ضاعف المزارعون الأمريكيون إنتاجية الفدان الواحد ثلاث مرات تقريباً على مدار الـ70 عاماً الماضية- كانت تكاليف هذه الكفاءة مختبئة عن أنظار الجميع حتى كشفتها جائحة فيروس كورونا، من بينها ممارسات العمل المروّعة في صناعة تعليب اللحوم، حيث يتعيَّن على بعض العمال تقطيع لحوم الحيوانات بسرعة كبيرة لدرجة لم يكن لديهم وقت لتغطية أفواههم وقت السعال، الأمر الذي أسفر عن خضوع صناعة اللحوم لمزيد من التدقيق منذ أن كتب الصحفي والروائي الأمريكي، أبتون سنكلير، روايته “The Jungle” في عام 1906، والتي تصوّر ظروف العمل القاسية للمهاجرين في الولايات المتحدة والممارسات غير الصحية في صناعة تعبئة اللحوم.

الصين تستولي على إنتاج العالم من لحوم الخنازير
ومع ذلك، فإنَّ حجم ونطاق النظام الغذائي التقليدي القائم على الزراعة وتربية الحيوانات يجعل التغيير صعباً للغاية. لكن مولي جان معروفة بأنَّه كلما كانت المشكلة معقدة ومتعددة الأوجه، زاد اهتمامها بها.

لاقت أفكار مولي، حول المخاطر التي تتعرض لها صناعة الغذاء، اهتمام شركات التأمين على صناعة الغذاء، التي عملت معها لفترة، ولكن باتت الكيانات الأمنية في الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا ونيوزيلندا ودول أخرى أيضاً مهتمة بعمل عالمة النباتات، مولي جان.

بالحديث إليهم، أصبحت مولي مقتنعة بأنَّ وزارات الدفاع قد تكون دعامة رئيسية أخرى للتغيير، قائلة: “ثمة علاقة بين وزارة الدفاع والأمن الغذائي والأزمات الإنسانية في جميع أنحاء العالم”، مشيرة إلى حدوث انتشار بدرجة ما للجيش الأمريكي في حوالي 80% من تلك الأزمات المتعلّقة بظواهر مناخية حادة تهدد أمن الأنظمة الغذائية.

التقت مولي جان، منذ عام 2016، بعدد من المسؤولين العسكريين والسياسيين القلقين من أنَّ يصبح الطعام سلاحاً في أي صراع مستقبلي. ولعل ما كان يمكن أن يبدو لغة حديث مبالغ فيها إلى حدٍ ما في عام 2019 يبدو الآن حديثاً نافذ البصيرة مع اقتراب عام 2022؛ إذ أصبح الغذاء نقطة محورية حول فك الارتباط بين الولايات المتحدة والصين وإنهاء العولمة على نطاق واسع فيما يخص سلاسل التوريد.

إنتاج الغذاء من الهواء

لماذا ارتفعت أسعار لحم الخنزير بعد تفشي كوفيد-19؟ لأنَّ أكبر منتج لحم الخنزير في الولايات المتحدة، شركة “سميثفيلد فودز”، مملوك لتكتل تجاري له علاقات مباشرة مع الحكومة الصينية، التي أرادت لحم الخنزير المتاح لإطعام شعبها. اشترت الصين أيضاً، على مدى السنوات العديدة الماضية، موانئ وأراضي زراعية وبنوك بذور وشركات كبرى متخصّصة في التقنية الزراعية في جميع أنحاء العالم.

بات تأمين الغذاء تحت أي ظروف أمراً أساسياً لأوجه الدفاع باعتباره جزءاً من الطبيعة المتغيرة للحرب، والتي قد تكون أقل اعتماداً على الصواريخ وأكثر اعتماداً على مرونة الأنظمة المتصلة عالية التقنية، مثل الزراعة.

إنتاج الغذاء من الميكروبات سيؤدي إلى تقليل أضرار الزراعة على المناخ
كل هذا يقود إلى وكالة “داربا”؛ حيث أعلنت مولي جان مؤخراً إطلاق برنامج الأمن الغذائي بهدف تغيير طريقة إنتاج العناصر الغذائية. إذا نجحت الوكالة في هذا المسعى، فلن يتحسن الأمن الغذائي تحسناً كبيراً فحسب، بل قد تنخفض البصمة الكربونية للزراعة لدرجة أقل كثيراً مما هي عليه اليوم.

هذه الأداة، التي تصنع الغذاء من لا شيء، هي بالضبط التي لجأ إليها طاقم المركبة الفضائية الخيالية ” Starship Enterprise” لإطعام أنفسهم وكانت هذه الفكرة الواعدة تبدو غير محتملة، حتى وفقاً لمعيار الخيال العلمي في ستينيات القرن الماضي. تعمل بالفعل عدة شركات في أجزاء مختلفة من العالم على تحويل هذه الفكرة إلى واقع ملموس، مع برامج نموذجية أولية تستخدم الحد الأدنى من الطاقة لإنتاج الغذاء من الميكروبات.

الجيش الأمريكي يريد أن يكون لديه القدرة على إنتاج الغذاء في أي مكان وأي وقت
تناول الميكروبات ليس بالأمر الجديد. يأكل البشر تريليونات الميكروبات كل يوم – تحتوي أجسامنا على كيلوغرامات من الكتلة الحيوية الميكروبية.

إذ توجد الميكروبات في كل مكان حولنا ويدخل تريليونات منها إلى جهازنا الهضمي كل يوم. يهدف برنامج مولي جان، الذي يطلق عليه اسم “Cornucopia”، إلى تحديد التقنية والعلوم اللازمة لتمكين القوات الأمريكية، على سبيل المثال، من إطعام نفسها في الظروف القصوى التي لا يستطيعون فيها الاعتماد على أي شيء سوى مولد الطاقة الخاص بهم والهواء والماء.

لتحقيق ذلك، تجمع مولي جان بعض الجهود التجارية الحالية مع باحثين آخرين من القطاعين العام والخاص وأكاديميين وعاملين في مجال الدفاع. تعمل مولي وفريقها، باستخدام تقنيات الهندسة الكيميائية وعلم الأحياء التركيبي، على تقسيم الماء والهواء إلى العناصر المكونة لهما ومن ثم يعيدون ربطهم لإنتاج أنواع جديدة من الميكروبات يمكن استخدامها في نهاية المطاف لإنتاج أنواع مختلفة من الطعام تحل محل وجبات الطعام الجاهزة التقليدية للجنود.

تصف وكالة DARPA على موقعها الرسمي Cornucopia، بأنه برنامج يسعى إلى تمكين إنتاج الغذاء عند الطلب وفي الموقع، وهو تقدم يمكن أن يقلل بشكل كبير من العبء اللوجستي لنقل الأغذية ويمكّن من القوات لفترة غير محددة من الوقت بشرط وجود ما يكفي من الماء والطاقة.

كيف سيتم إيجاد الميكروبات المنتجة للغذاء؟
في السنوات الأخيرة، أظهر عدد من الشركات القدرة على إنتاج أغذية معينة من أصل جرثومي- منتجات قائمة على البروتين بشكل أساسي- من مدخلات قليلة بهدف تقليل استهلاك الأراضي من زراعة المحاصيل وتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

سيبني مشروع “Cornucopia” أو مشروع إنتاج الغذاء من الهواء على هذه التقنيات التجارية، لكن الجهود الحالية وحدها ليست كافية لتلبية احتياجات وزارة الدفاع الأمريكية لأنها تركز بشكل حصري تقريباً على البروتينات وتعتمد على البنية التحتية الصناعية غير المتنقلة.

سيحول نظام Cornucopia الكهرباء والهواء والماء إلى جزيئات بسيطة يمكن استخدامها كمصادر للطاقة لتحويل الكربون والنيتروجين والهيدروجين والأكسجين من الهواء والماء إلى المزيد من الميكروبات التي تنتج جزيئات الطعام- بما في ذلك البروتينات والدهون والكربوهيدرات والألياف الغذائية- على شكل أغذية آمنة ومقبولة بنكهات وقوام مختلفة.

قالت جان: “إن التطورات الحديثة في علم الأحياء الدقيقة، والتسلسل الجيني، والمواد الهجينة النشطة بيولوجيًا، والتركيبات الكهروكيميائية لثلاثية الكربون أو أكثر، أوصلتنا إلى مكان يمكننا فيه محاولة تحقيق هذه القفزة الجريئة”. فالاختراقات في الكيمياء الكهربائية والمواد تبشر بالاستغناء عن الضغط المرتفع للغاية والتفاعلات المكثفة لالتقاط ثاني أكسيد الكربون أو تصنيع الأمونيا، والقيام بذلك في درجة حرارة الغرفة وضغطها”.

تقول مولي: “نريد أن نكون قادرين على إنتاج نكهات وأنواع مختلفة من الطعام”.

تقول صحيفة The Financial Times: “إذا يبدو ذلك بالنسبة لك بعيد المنال، فقط تذكر أنَّ أبحاث الحمض النووي الريبي المرسال (mRNA ) كانت كذلك عندما استثمرت فيها وكالة “داربا” قبل سنوات عديدة”.

عربي بوست