السياسية:

تتواصل عملية نشر وسائل إعلام فرنسية لتفاصيل قيام شركات متخصصة في الأسلحة والتكنولوجيا بتوفير نظام مراقبة شامل يستخدمه النظام المصري في التجسس على المدنيين، تحت ذريعة محاربة الإرهاب، بموافقة الرئيس ماكرون.

وقبل أيام كشف موقع استقصائي فرنسي عن تفاصيل صادمة تتعلق باستخدام “مصر معلومات استخباراتية زوّدتها بها فرنسا مخصصة لمكافحة الإرهاب، في قصف المهربين على الحدود مع ليبيا، مما أدى إلى سقوط مدنيين يحتمل أنهم أبرياء”.

وحصل الموقع الفرنسي على مئات من وثائق “الدفاع السرية” تتعلق بمهمة تسمى “سيرلي” هدفها التعاون بين باريس والقاهرة في مكافحة “الإرهاب” في المنطقة الحدودية بين مصر وليبيا، لكن تلك الوثائق كشفت عن انتهاكات خطيرة شهدتها العملية العسكرية السرية التي تنفذها فرنسا في مصر، إضافة إلى ما قال الموقع إنه تواطؤ من الدولة الفرنسية في قصف المدنيين بالمهمة السرية التي بدأت قبل سنوات بين البلدين.

تجسس “صناعة فرنسية”

لكن الواضح أن “التعاون الأمني بين باريس والقاهرة” ليس مقصوراً فقط على الشق العسكري أو “مكافحة الإرهاب”؛ إذ كشف تقرير آخر لموقع Disclose الاستقصائي الفرنسي عن شق آخر يتعلق بجمع المعلومات، وضع له عنوان “رقابةٌ صُنِعَت في فرنسا”، رصد تفاصيل قيام شركات فرنسية بنصب شبكة تجسس متكاملة لخدمة الأجهزة المصرية.

إذ باعت شركة Dassault Systèmes الفرنسية العملاقة للأسلحة، التابعة لشركة Thales وشركة Nexa Technologies، نظام مراقبة جماعية للنظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي، وبمباركة الدولة الفرنسية، بحسب الموقع الفرنسي.

وعلى مدار السنوات الخمس الماضية، يتعرَّض المعارضون السياسيون والصحفيون وقادة المنظمات غير الحكومية وكلُّ الذين لا يفكِّرون أو يعيشون وفقاً لمبادئ النظام العسكري لخطر السجن، ويُقال إن نحو 65 ألف معارض يقبع في سجون النظام، في حين “اختفى” 3 آلاف آخرون بعد اعتقالهم، بحسب وزارة الخارجية الأمريكية.

قمعٌ غير مسبوق للمجتمع المدني المصري سهَّله نظام مراقبة سيبراني ضخم أقامته ثلاث شركات فرنسية، بموافقةٍ ضمنية من السلطات الفرنسية. الشركة الأولى هي Nexa Technologies، يديرها مؤسِّسو Amesys، وهي شركة مُتَّهَمة بتوريد معدَّات مراقبة إلى ديكتاتورية القذافي في ليبيا.

والشركة الثانية هي Ercom-Suneris، التابعة لشركة Thales منذ عام 2019، والمعروفة بأنها مسؤولةٌ عن أمن أحد الهواتف المحمولة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. أما الشركة الثالثة، فهي Dassault Systèmes، الفرع التكنولوجي لشركة صناعة الأسلحة الفرنسية الثقيلة التي تصنِّع طائرات الرافال. عند الاتصال، لم تُجِب الشركتان الثانية والثالثة على أسئلة موقع Disclose.

متى بدأ بناء شبكة التجسس على المصريين؟

وفقاً لتحقيق الموقع، بالشراكة مع مجلة Télérama، اجتمعت الشركات التكنولوجية الثلاث معاً في العام 2014 حول مشروعٍ لرصد السكَّان خارج الحدود العادية. كانت شركة Nexa مسؤولةً عن تثبيت برنامج مراقبة الإنترنت Cerebro، أما شركة Ercom-Suneris فكانت مسؤولةً عن جهازٍ للتنصُّت على الهاتف وتحديد الموقع الجغرافي يسمَّى Cortex vortex.

وما أكمَلَ هذا البناء التجسُّسي الهائل كان مُحرِّكاً للبحث فائق القوة صنعته شركة Dassault Système. وفقاً لمعلومات موقع Disclose، فإن مُحرِّك Exalead للبحث الفائق مكَّنَ من ربط قواعد البيانات المختلفة معاً نيابةً عن جهاز المخابرات العسكرية الغامض للنظام المصري.

وبغرض تعزيز السلطة التي حازها بالقوة في يوليو/تموز 2013، اعتمد عبد الفتاح السيسي على حليفين مهمين. من ناحيةٍ، كانت الدولة الفرنسية، أحد شركائه الرئيسيين، تقدِّم الدعم الدبلوماسي والعسكري والتجاري. ومن ناحيةٍ أخرى، كانت هناك الإمارات، التي قدَّمَت 150 مليون يورو للنظام في 2013 لتزويد السيسي بالعنصر المفقود لترسانته القمعية، ألا وهو التجسُّس الرقمي.

ضمَّت الدولة الخليجية شركةً تابعةً لشركة “اعتماد”، الرائدة في مجال الدفاع السيبراني. وكان هذا الشريك هو الذي قدَّم للمراقبة السيبرانية “المصنوعة في فرنسا” فرصةً للوصول إلى قلب السلطة، وزارة الدفاع المصرية. أكَّدَت شركة Nexa Technologies، وهي أول من شارَكَ في هذا الأمر، كتابةً: “جاء الطلب من الحكومة المصرية إلينا من خلال شركةٍ إماراتية اتصلت بنا وأخبرتنا بالمُتطلَّبات”.

العاصمة المصرية القاهرة – رويترز

تتمتَّع هذه الشركة الفرنسية بميزةٍ كبيرة، فمنذ العام 2012 كان لديها ذراعٌ تجاري مقره الإمارات، وهو شركة Advanced Middle East Systems. وأكَّدت شركة Nexa Technologies في مراسلتها: “جرى هذا الإنشاء بأكبر قدرٍ من الشفافية للمعلومات مع الخدمات الفرنسية.”

وفي 24 مارس/آذار 2014، حصل مديرا الشركة، ستيفان ساليس وأليفييه بوهبوت، على عقدٍ قيمته 11.4 مليون يورو لتثبيت البرنامج الرائد للشركة، وهو Cerebro، في القاهرة.

الجميع أهداف محتملة لشبكة التجسس

ووفقاً لوثيقةٍ سرية حصل عليها موقع Disclose، يُقال إن هذا البرنامج قادرٌ على “تحليل البيانات لفهم علاقات وسلوك المُشتَبَه بهم، والعودة بالزمن للعثور على المعلومات ذات الصلة في مليارات المحادثات المُسجَّلة”. وكان العقد يُسمَّى “توبليرون”، نسبةً للشوكولاتة السويسرية التي تتَّخِذ شكل هرم.

وأجرى الموقع الفرنسي مقابلة مع أحمد علاء، أحد الشباب المصريين الذين ألقي القبض عليهم باستخدام شبكة المراقبة التي صنعتها الشركات الفرنسية. وكانت تهاني “عيد ميلاد سعيد” تتدفَّق على هاتف أحمد علاء. في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، وهو جالسٌ في المقعد الخلفي لسيارة أجرة في محافظة دمياط المصرية، كان الطالب الذي بلغ لتوِّه 22 عاماً يرسل رموزاً تعبيرية ورسائل نصية إلى أصدقائه.

وفجأة، قَرَعَ رجلٌ نافذة السيارة، طالباً بطاقة الهوية. أحاط شرطيون يرتدون ملابس مدنية بالسيارة، وأجهزة اللاسلكي في أيديهم، ثم أخرجوه منها بخشونةٍ وأخذوه في شاحنتهم. لم تكن وجهتهم معروفة. قال علاء لموقع Disclose الفرنسي: “لبرهةٍ اعتقدت أنها مزحة. لم أكن أعتقد أنه من الممكن أن أُختَطَف بهذه الطريقة من قارعة الطريق”. ثم سُجِنَ علاء دون أيِّ شكلٍ من أشكال المحاكمة. 

في ذلك الوقت، اتَّهَمَه النظام بنشر صورة له على الإنترنت تحت علم قوس قزح، رمز مجتمع الميم، في حفلٍ لموسيقى الروك في القاهرة في 22 سبتمبر/أيلول. أدَّت الصورة التي انتشرت على الإنترنت في مصر إلى اتِّهام الشاب بـ”الفجور”، والانتماء إلى “جماعة غير مشروعة”.

وبعد 80 يوماً من الاعتقال، أُطلِقَ سراحه دون مزيدٍ من التوضيح، وكان متأذياً بدنياً ونفسياً. حَزَمَ حقائبه وفرَّ من البلاد إلى تورنتو، كندا، حيث التقى به موقع Disclose لإجراء حديثٍ مُطوَّل معه. 

يتذكَّر علاء الأحداث وهو جالسٌ في غرفة المعيشة مع أصدقاءٍ لاجئين مثله. بثَّت وسائل الإعلام الرسمية وجهه مراراً على شاشات التلفزيون، ثم بدأت تظهر التهديدات على وسائل التواصل الاجتماعي، ثم بعد ذلك جاءت الأيام القليلة التي اختبأ فيها في بلدةٍ صغيرة بعيدة عن القاهرة، حيث كان يعتقد أنه بأمان.

يقول علاء للموقع الفرنسي: “عندما اعتقلتني الشرطة، سرعان ما أدركت أن هاتفي كان يجري التنصُّت عليه، وأن نشاطي على الشبكات الاجتماعية كان يخضع للمراقبة. لا أحد يستطيع الهروب منهم”.

أفلام التجسس على أرض الواقع

ويستطرد الموقع الفرنسي في كشفه تفاصيل تلك الشبكة؛ إذ نَصَحَ ستيفان ساليس، الرئيس التنفيذي لشركة Nexa Technologies، الإماراتيين بجلب شركة Ercom-Suneris أيضاً. وفي صيف عام 2014، وقَّع بيير مايول بدير، الرئيس التنفيذي لشركة Ercom، عقداً بقيمة 15 مليون يورو تقريباً للتجسُّس على الهواتف في مصر. وكان الجيش مهتماً بشكلٍ أساسي بميزةٍ واحدة، وهي تحديد المواقع الجغرافية لأهدافه في الوقت الفعلي، باستخدام برنامج Cortex Vortex لشركة Ercom.

يوضِّح مهندسٌ سابق في شركة Ercom، تحدَّثَ للموقع الفرنسي شريطة عدم الكشف عن هويته، قائلاً: “إنه مثل فيلم تجسُّس. يمكنك تحديد الموقع الجغرافي لأيِّ شخصٍ عن طريق تحديد موقع المحطات الرئيسية التي يتَّصِل بها هاتفه، حتى بدون إجراء أيِّ مكالمات”. وهو برنامج أكثر تدخُّلاً حتى من برنامج شركة Nexa.

وفقاً لمعلومات موقع Disclose، شاركت شركة Dassault في المشروع في نفس الوقت مع نظيرتها. وبصفتها مالكة محرِّك بحث Exalead، كانت المجموعة على ما يبدو الشريك المثالي لمركزة ملايين المعلومات التي جمعتها الشركات الفرنسية والنظام، مِمَّا جَعَلَ قاعدة البيانات الرقمية لبطاقات الهوية المصرية وجوازات السفر متاحة لها.

ووفقاً لمعلومات الموقع، سافَرَ موظّفو المجموعة إلى القاهرة خمس مرات بين أكتوبر/تشرين الأول 2015 ونهاية عام 2016 للإشراف على تركيب Exalead، وقد دُرِّبَ ضباط المخابرات المصرية في باريس.

ولضمان قيام النظام بعمله على أكمل وجه، لم يبخل النظام المصري برئاسة السيسي في توفير المعدَّات؛ حيث مراكز البيانات الجديدة تماماً، وأحدث جيلٍ من أجهزة كمبيوتر Dell، والخوادم الضخمة من شركة DDN الأمريكية في الإسكندرية، وكان للجيش أيضاً مكوِّناتٌ إلكترونية مُثبَّتة على الكابلات البحرية التي تربط مصر بشبكة الإنترنت، من أجل مراقبة أفضل.

أما مركز قيادة هذا الجهاز الأمني القومي المصري المستقبلي، فقد كان يقبع في القاهرة، في قاعدة ألماظة العسكرية، على بُعدِ 10 كيلومترات من القصر الرئاسي.

عربي بوست