السياسية: متابعات : صادق سريع

في سنة 1980 كان العسكريون يحكمون 43 دولة إفريقية.

ثم تقلص العدد إلى 9 دول فقط عام 2001.

الآن في نهايات 2021 هناك 18 رئيساً ينتمون إلى الجيوش الإفريقية، أو حركات التمرد المسلحة التي ساعدتهم في الوصول للحكم، من أصل 54 دولة بالقارة.

هناك أكثر من 100 انقلاب ناجح في إفريقيا في العقود الأربعة الماضية.

ووفق تقرير مطول نشره موقع عربي بوست ،وقعت انقلابات في سبع دول إفريقية على الأقل خلال عقد واحد، فانتكست المحاولات الديمقراطية.

وفي تعليقه أمام مجلس الأمن الدولي، على الوضع بالسودان، ذهب أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى الدعوة لضرورة إيجاد “رادع فعال لوباء الانقلابات” التي تشهدها إفريقيا.

هناك قارة لم تغادر دوامة الانقلابات بعد مرور ستة عقود على استقلالها، مما يطرح سؤالاً حول أسباب تكرار الظاهرة وتأثيرها على استقرار دول المنطقة الهش. 

البلد الإفريقي الذي جرت فيه محاولات انقلابية أكثر من غيره، هو السودان، الذي وصل عدد محاولات الانقلاب فيه منذ الاستقلال إلى 15 محاولة، نجحت منها 5 محاولات.

تنجح معظم الانقلابات في إفريقيا لأنها تستغل ضعف وفساد السلطة القائمة، وما دام الأمر خروجاً على القانون فإن الذي يملك السلاح يجد نفسه أولى بالسلطة وخيراتها، فيجازف بالانقلاب حتى رغم إدانة لندن وباريس وواشنطن؛ العراب الأصلي للانقلابات.

لكن السنوات الجديدة أفرزت عراباً آخر، هو فشل الربيع العربي واستسلامه للانقلابات في بعض تجاربه، وتراخي المجتمع الدولي إزاء الجنرالات الذين يقفزون على السلطة بالدبابة. 

الربيع العربي ألهم الشعوب الإفريقية الخروج إلى ميادين الحرية ضد الطغاة والفاسدين.

وانكسار الربيع العربي تحت ضربات الثورة المضادة ألهم جنرالات القارة السمراء فكرة الاستيلاء على السلطة، وإعادة الحالمين إلى زنازين الخوف والصمت.

إفريقيا هي أرض الانقلابات منذ سنوات الاستقلال منتصف القرن الماضي، وسجل عشرات الضباط في تاريخها مغامرات دموية لمصادرة السلطة والثروة والحرية. 

لكن الموجة الأخيرة من الانقلابات تختلف عن سابقاتها في السياقات المحلية والدولية، وأبرز المؤثرات كان صعود وانهيار الربيع العربي، على أيدي مهندسي الثورة المضادة والانقلابات.

تصاعدت موجة الانقلابات في إفريقيا، وأثر الربيع العربي عليها هو موضوع هذا التقرير.

في كوكب الجنرالاتسجل قياسي لإفريقيا في الانقلابات العسكرية منذ الاستقلال لأسباب معظمها موروث من الاستعمار

منذ تأسيس الجمهوريات الإفريقية، واستقلالها عن المستعمرات الأوروبية، في خمسينيات القرن الماضي، شهدت أكثر من 200 انقلاب، نجح ما يقارب نصفها وفشل الباقي. 

ولسنوات ظل معدل الانقلابات في إفريقيا 4 على الأقل كل عام، وانخفض عام 2019، ليقتصر على محاولتين فقط. ثم ارتفع العدد إلى 6 انقلابات في 2021.

القارة الغنية بموارد طبيعية ضخمة تحتاجها الصناعات الثقيلة في أوروبا والصين والولايات المتحدة وآسيا، لا تمنح أبناءها هامشاً من هذه الثروات، ولا تتركهم ينعمون بأي نوع من الاستقرار الأمني أو السياسي أو الاقتصادي.

أكثر من 55% من الإفريقيين تحت خط الفقر.

وشهدت دول مثل السودان وسيراليون وليبيريا ورواندا ومالي حروباً ونزاعات أهلية استمرت عشرات السنوات، وراح ضحيتها أكثر من 13 مليون قتيل وشرد بسببها نحو 33 مليوناً. 

وهكذا، فإن ضعف الاقتصادات الإفريقية والبيئة الأمنية المضطربة، إضافة إلى عدم احترام المواثيق الديمقراطية ولجوء العديد من الحكام المدنيين لتمديد فترات حكمهم، جميعها عوامل تثير الغضب الشعبي وتهيئ بيئة الانقلابات العسكرية التي تزيد الأمر تعقيداً.

الانقلابات غالباً ما تكون مدعومة من الخارج

في السابق كان الطموح في الحكم والجاه وربما الثروة، هو ما يقود العسكر للانقلاب.

ولعل العامل الخارجي أصبح حافزاً مهماً في توجه الجيوش الإفريقية الجديد، مما يشجعها على القيام بالانقلابات لأسباب لا علاقة لواقع الشعوب بها على مستوى الشعارات والهتافات. 

“اشتباك مصالح القوى الكبرى” مع دول بعينها أصبح هو المحرك الأساسي للانقلابات العسكرية بدول القارة السمراء، بالنسبة لكثير من المحللين.

هذه الانقلابات تعكس مرحلة جديدة من تسارع وتيرة الصراعات الخفية بين القوى الغربية التقليدية والجديدة على القارة.

إفريقيا التي “ستكون قلب اقتصاد العالم” في غضون العقدين القادمين. 

الكثير من الانقلابات التي وقعت بإفريقيا كانت مدعومة من جهات غربية سياسية أو من مؤسسات اقتصادية هي في الغالب عبارة عن شركات متعددة الجنسيات تحاول السيطرة على ثروات القارة.

وصراع الدول الكبرى الفاعلة على ثروات إفريقيا أصبح بين الأسباب الحاسمة لتدبير انقلاب إفريقي.

وتغيرت المبررات التي كان يرددها قادة الانقلابات.

كانوا يزعمون انحيازهم للمستضعفين والرغبة في رفع المعاناة التي تسببت فيها الحكومة السابقة.

الآن تُقدم الجيوش نفسها على أنها رائدة الإصلاح.

والحريصة على السيادة الوطنية والأمينة على الشعوب ومقدراتها.

والحامية لحدودها.

تتكرر هذه المعاني في خطب زعماء الانقلاب، وفي الأغاني الوطنية الرسمية، مما يُطرب قطاعات واسعة من المواطنين الباحثين عن الأمن والاستقرار. 

كيف نعرف أن ما يحدث انقلاب؟

أحد التعريفات المستخدمة للانقلاب هو أنه محاولة غير قانونية وعلنية من قبل الجيش -أو غيره من المسؤولين المدنيين- لعزل قادة بلد من مناصبهم.

وحددت دراسة أجراها الباحثان الأمريكيان، جوناثان باول وكلايتون ثين، أن أكثر من 200 محاولة من هذا القبيل نفذت في إفريقيا منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي.

أشارت الدراسة إلى أن حوالي نصف هذه الحالات كانت ناجحة، أي أنها استمرت لأكثر من سبعة أيام.

وكانت بوركينا فاسو، الواقعة في غرب إفريقيا، هي الدولة التي شهدت أكبر عدد من الانقلابات الناجحة، حيث فشل انقلاب واحد فقط من بين سبعة محاولات.

وفي بعض الأحيان، ينكر المشاركون في مثل هذا التدخل أن ما يقومون به هو انقلاب.

ففي عام 2017، أدى الانقلاب العسكري في زيمبابوي إلى إنهاء حكم الرئيس، روبرت موغابي، الذي استمر 37 عاماً.

وظهر القائد العسكري، سيبوسيسو مويو، أحد قادة العملية، على شاشة التلفاز في ذلك الوقت، نافياً بشكل قاطع استيلاء الجيش على السلطة.

وفي أبريل/نيسان من هذا العام، وبعد وفاة الزعيم التشادي، إدريس ديبي، نصب الجيش ابنه رئيساً مؤقتاً للبلاد يقود مجلساً عسكرياً انتقالياً. وقد أطلق خصومهم اسم “انقلاب الأسرة الحاكمة” على ما حدث.

وينكر قادة الانقلاب بشكل شبه دائم أن عملهم كان انقلاباً في محاولة لجعله شرعياً.

الانقلاب هو تغيير نظام الحكم، أما الطريقة أو الأداة التي تستخدم في هذا التغيير فهي في أغلب الحالات هي القوات المسلحة. وهناك أدوات أخرى في نظرية الانقلابات، منها الغزو الأجنبي، ومنها استخدام المرتزقة، ومنها انقلاب القصر، لكن تغيير النظام في 70% من الانقلابات كان يتم باستخدام الجيش.

انتفاضات شعبية قد تُفضي إلى انقلابات

في العقود الأربعة بين عامي 1960 و2000، ظل العدد الإجمالي لمحاولات الانقلاب في إفريقيا ثابتاً بشكل ملحوظ بمتوسط بلغ حوالي أربع محاولات سنوياً.

ومنذ ذلك الحين، أي في العقدين منذ 2000 وحتى 2019، انخفض ذلك إلى حوالي محاولتين كل عام.

ويقول جوناثان باول إن هذا ليس مفاجئاً بالنظر إلى عدم الاستقرار الذي شهدته البلدان الإفريقية في السنوات التي أعقبت الاستقلال.

ويضيف: “البلدان الإفريقية لديها ظروف مشتركة للانقلابات، مثل الفقر وسوء الأداء الاقتصادي. وعندما يشهد بلد ما انقلاباً، فإن هذا غالباً ما يكون نذيراً لمزيد من الانقلابات”.

يقول إندوبويسي كريستيان أني، من جامعة كوازولو ناتال، إن الانتفاضات الشعبية ضد الحكام المستبدين الذين خدموا لفترة طويلة وفرت فرصة لعودة الانقلابات في إفريقيا.

ويضيف: “في حين أن الانتفاضات الشعبية شرعية ويقودها الناس، إلا أن نجاحها غالباً ما يتحدد بقرار الجيش”.

هكذا زرع الميراث الاستعماري فكرة الانقلاب العسكري

نقطة البداية البسيطة لأسباب وكيفية تدخل الجيوش الإفريقية بشكل معتاد في المسائل الاقتصادية والسياسية تكمن في التاريخ الاستعماري للقارة. 

خلال الحقبة الاستعمارية كانت الجيوش أداة لتحقيق هيمنة القوى الاستعمارية؛ حيث استُخْدِمَتْ كأداة في ديناميات “السياسة الداخلية” في كل المستعمرات.

لذلك غرست التجربة الاستعمارية ثقافة عسكرية تؤمن بحق التدخل في السياسة، وهو ما يتعارض مع المعايير الديمقراطية التي تؤكد على حيادية ومهنية الجيوش. 

الجيوش الإفريقية تأسست على مخلفات الجيوش الاستعمارية، وورثت بذور التحيز العرقي التي زرعها المستعمرون. 

في العادة، شكلت الأقليات العرقية الجزء الأكبر من القوات المسلحة الاستعمارية من أجل موازنة العرقيات الأقوى تاريخياً.

وبالنظر إلى ضعف وهشاشة الدولة الإفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال، وفشلها في تحقيق أحلام شعوبيها في التحديث والتنمية، قد يشعر الجيش بضرورة التدخل باعتباره حامي حمى الديار والقَيِّم على البلاد والعباد.

ارتباط هذه الانقلابات بإفريقيا ناتج عن ارتباط النخب العسكرية فيها بالخارج، من خلال العمل مع الدول المستعمرة أو من خلال فترة استغلال وجود عملاء داخل الدول الإفريقية لهم ارتباطات خارجية، وبالتالي، تكون هذه النخب تحت التأثير الخارجي.

كما أن الاستعمار أسّس في كل بلد بنية ذات طبيعة عسكرية، يحكمها الاحتلال بالسلاح والقمع، ويصبح الآخر الإفريقي خاضعاً.

بمعنى أن تكون الكلمة للقوة العسكرية، لأن الإرث الاستعماري الذي حكم القارة سلطوي، قائم على البطش والسيطرة بالقوة العسكرية.

فضلاً عن أن النظم السياسية التي حكمت القارة بعد الاستعمار جاءت عبر كفاح مسلح بمسمى حركات التحرر المناهضة للاستعمار، وهي أشبه بالنظم العسكرية، وبالتالي، لم تعد النظم المدنية محل ثقة، وسرعان ما تجهضها انقلابات عسكرية.

أثر الفراشة العربيةنجاح الجولات الأولى من الربيع العربي ألهم شعوباً في إفريقيا ونجاح الثورة المضادة ألهم الانقلابيين

إلى جانب العناصر السابقة، يذهب كثير من المحللين إلى أن موجة الانقلابات المتصاعدة في القارة هي بنت الإخفاق الكبير للربيع العربي.

منذ عقد من الزمن، كانت الشعوب العربية تحتفل بسقوط الطغاة، لكنها الآن تحتفل بسقوط الديمقراطية.

هذه الانتكاسة التي تعرضت لها الحرية السياسية في الشرق الأوسط لها دلالات دولية، كما ذهب مقال بصحيفة فاينانشال تايمز. ويرجح الرئيس الأمريكي جو بايدن أن المعركة بين الاستبداد والديمقراطية سوف تكون سمة هذا العصر. 

الطغاة في الزمن القديم كانوا يشترون بعض الشرعية بمواد غذائية ومنتجات طاقة مدعومة من الحكومات، لكن هذا الخيار أصبح رفاهية بالنسبة للطغاة الجدد في الشرق الأوسط، إذ أصبحت حكوماتهم غارقة في الديون.

ومتورطة في حكم الشعوب بالحديد والنار.

والنموذج أصبح منتشراً ومضمون النجاح بعد النهايات “غير السعيدة” لمغامرات الربيع العربي. 

والجنرالات في إفريقيا تأثروا كثيراً بالنموذج.

بدأت ماكينة الربيع في الدوران أولاً مع أحلام وأمانيّ الشعوب، فأسقطت في مدّها العالي بعضاً من أولئك “الحكام الأبديين” في القارة السمراء.

سقط بن علي وحسني مبارك والقذافي تحت الأقدام الهادرة بالهتاف التاريخي: ارحل!

بعد 3 أعوام وبالطريقة نفسها، أطاحت مظاهرات عارمة بالرئيس بليز كومباوريه في بوركينا فاسو.

ثم بدأت ماكينة التاريخ تسير عكس ما تريده الشعوب.

صعد الجيش إلى الحكم في عدة بلدان، أولها وأكثرها تأثيراً هي مصر.

وشهدت “الانتكاسة” انقلاباً عسكرياً ضد رئيس جاء من الجيش عبر انقلاب عسكري.. هذا ما فعله البرهان ضد عمر البشير في السودان.

في فجر الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2021، كانت دبابات الفريق أول عبد الفتاح البرهان قائد الجيش ورئيس المجلس السيادي للحكم الانتقالي في السودان، لتبسط سيطرتها على المواقع الاستراتيجية في العاصمة الخرطوم وتطيح بمؤسسات الحكم المدني في البلاد وتعتقل رئيس الوزراء وعدداً من أعضاء حكومته.

ثم واصل البرهان انقلابه على شريكه المدني في الحكومة الانتقالية، ليصبح “انقلاباً كاملاً”، على الجنرال السجين عمر البشير، وعلى ممثلي الشعب المدنيين في الحكم.

المحاولات الانقلابية التي شهدتها القارة الإفريقية خلال العام الحالي بلغت ستة، فشلت منها محاولة في السودان وأخرى في النيجر، بينما نجح الجيش في الاستيلاء على السلطة في أربع حالات: مرتين في مالي ومرة في غينيا والأخيرة في السودان.

إفريقيا تأثرت بربيع الشعوب.. ثم بانقلابات ثوراتها المضادة

تأثرت إفريقيا كثيراً بما يجري في ميادين الثورة العربية.

نظر معظم القادة الأفارقة لهذه الثورات باعتبارها أحد التهديدات لأنظمتهم الحاكمة، التي استمر بعضها لأكثر من عقدين من الزمن دون تغيير، لذلك أعلن بعض القادة رفضهم للتغيير الثوري وفقاً للنمط المصري، مثل الرئيس الأوغندي يوري موسيفني، الذي تولى السلطة في بلاده منذ عام 1986، وحظرت السلطات في إريتريا نشر أخبار الثورتين التونسية والمصرية في وسائل الإعلام الرسمية؛ تفادياً لاندلاع ثورة مماثلة.

وتحكي الباحثة السياسية د. أميرة عبد الحليم أن رئيس زيمبابوي روبرت موغابي، الذي يحكم منذ عام 1980، اعتقل ما يقرب من 45 ناشطاً واتَّهمهم بالخيانة ومحاولة قلب نظام الحكم، لأنهم كانوا يشاهدون أشرطة فيديو حول الثورة المصرية، ويبحثون المعاني الضمنية لهذه الأحداث. 

كما حذَّر رئيس وزراء زيمبابوي، مورغان تسفانجيراي، من أن بلاده قد تشهد احتجاجات حاشدة أيضاً على غرار الثورة المصرية.

خاف الطغاة في إفريقيا هذا اللَّهب المقدس الذي أشعله الربيع العربي، لكن الشعوب الإفريقية تأثرت به كثيراً.

انتقلت عدوى الانتفاضات الشعبية سريعاً إلى دول كثيرة في القارة الإفريقية.

وحاول المواطنون في هذه الدول إسقاط أنظمتهم الحاكمة كنوع من المحاكاة لثورات الربيع العربي، فاندلعت احتجاجات استخدم فيها المتظاهرون شعاراتٍ مشابهة لشعارات الانتفاضات العربية، خاصةً في تونس ومصر.

كما تميَّزت مظاهرات معارضي النظام في السنغال بتبنِّي لمحات ورموز اتسمت بها ثورتا تونس ومصر.

أطلق مالك مؤسسة “والفجر” الإعلامية اسم “ميدان التحرير” على ساحة الاستقلال، وسط العاصمة داكار، التي اختارها هو ورفاقه من أنصار المعارضة كمكان للتظاهر، وكانت داكار قد شهدت سلسلة من عمليات الانتحار حرقاً أمام القصر الرئاسي، على غرار التونسي بوعزيز.

واختار المتظاهرون والناشطون ساحات عامة للتمركز والتعبير عن مطالبهم، والبقاء فيها حتى تحقيق هذه المطالب.

فشهدت ساحة الاستقلال مظاهرةً تحت اسم “خميس الغضب”.

وناشد المتظاهرون الجيشَ تحمل مسؤولياته خلال الثورة كما حدث في مصر، فحَمَل أفراد “الحركة الشبابية من أجل الديمقراطية والاشتراكية” لافتاتٍ خلال المظاهرات، كُتب عليها “الجيش مع الشعب”.

ومثلما حدث في بعض بلدان الربيع العربي، لم تكن كل الجيوش الإفريقية مع شعوبها، بل كانت تستعد للقفز على غضب الشارع بالدبابة، والاستيلاء على السلطة.

الانقلابات ترسل الناشطين من الميادين إلى الزنازين

في أوائل فبراير/شباط 2011، كان علاء عبد الفتاح يقف في ميدان التحرير في العاصمة المصرية، يوثِّق أحداث الثورة الوليدة المؤيدة للديمقراطية، ويشارك فيها، وقد أطاحت الثورة بالحكومة وأحدثت تحولاً في مصر والمنطقة برمتها.

اليوم، يقبع علاء خلف القضبان، بسبب اتهامه بمناهضة الدولة ونشر أخبار كاذبة. 

وفي أواخر سنة 2020 كان علاء واحداً من بين 27 صحفياً محتجزاً في السجون المصرية، وبهذا العدد من الصحفيين المحتجزين باتت مصر إحدى البلدان التي تسجن أكبر عدد من الصحفيين في العالم، حسب إحصاء للصحفيين السجناء أجرته لجنة حماية الصحفيين.

اتّبعت بلدان عديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المسار الذي اتّبعته مصر. 

فبعد عشر سنوات من انطلاق ثورات الربيع العربي، لم تُثمر الثورات التي طالبت بإصلاحات ديمقراطية إلا عن مزيد من القمع الحكومي في البحرين والجزائر والمغرب وبلدان أخرى. 

وفي غضون ذلك، احتدمت نيران الحروب الأهلية في سوريا واليمن، وحتى سنة 2017، في العراق. 

لكن الجيوش في بعض دول إفريقيا كانت تنظر انحسار الربيع العربي، الذي ألهم شعوبها الثورة، لتسير على خطى الجيوش التي ألهمت الجنرالات كيفية الاستيلاء على السلطة.. والثروة.

على خطى الثورات العربية المضادة

الجنرالات، الذين دبّروا انقلاب السودان الأخير، استفادوا من الانقسامات بين القوى الكبرى في المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة.

استفادوا من دول الثورات المضادة العربية، بشأن الإجراءات الحاسمة لاستعادة السيطرة على البلاد، بانقلاب عسكري صريح أو مستتر.

الجيش السوداني استفاد أيضاً من ردّ فعل الاتحاد الإفريقي الفاتر على الفوضى التي أصابت المرحلة الانتقالية.

هكذا كتب الصحفي الكيني أجري موتامبو Aggrey Mutambo، يبلور النتيجة: يبدو أن الجنرالات قد شجعهم دعم مصر ودول الخليج التي لم تكن بعيدة أيضاً عمّا يحدث في تونس.

واعتبر مجدي الجزولي، المحلل السياسي السوداني في معهد ريفت فالي Rift Valley Institute، أن البرهان بوسعه أن ينجح بدعم من حلفاء آخرين، وهم مصر والسعودية والإمارات. 

إنه الثلاثي الذي استخدم السلاح والمال والتحالفات لقتل فكرة الربيع العربي في مصر وليبيا واليمن وغيرها. 

الثلاثي الذي هتف أيضاً لمناورة سعيد ضد حزب النهضة الإسلامي، الذي أكسبه انتماؤه التاريخي للإخوان المسلمين عداوة المناهضين للإسلاميين في السلطة في القاهرة، إلى أبوظبي، مروراً بالرياض.

السخاء الملكي الخليجي عزَّز بالفعل الجيش السوداني في مناوراته بعد سقوط البشير. كتب الباحث السوداني جان بابتيست جالوبين، أن الدعم المالي من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة منح الجنرالات مجالاً حاسماً لمقاومة المطالب الشعبية بالحكم المدني. 

والآن، يجادل الخبراء بأن أي أمل في استعادة الآفاق الديمقراطية في السودان قد يتطلب ممارسة الضغط على هذه القوى العربية.

وهكذا فهم الجنرالات إشارات الثورة المضادة

ذهب قادة بعض الجيوش الإفريقية بعيداً في ركوب الموجة المضادة.

منحهم النموذج المصري والسوداني وغيرهما فكرة أن يحمي الجيش البلاد بدعوى إنقاذها.

ويسيطر على اقتصادها بالكامل.

ويقمع المعارضة بدعوى تآمرها وتورطها مع أعداء الوطن.

يرى المفكر الأمريكي صامويل هنتنغتون أن التدخل العسكري في الشؤون الحكومية مشكلة سياسية أكثر منها عسكرية. ويبدو أن القاعدة تنطبق على إفريقيا كثيراً.

في ظل غياب القواعد الراسخة والمؤسسات القوية التي تنظم العمليات السياسية، تشتعل منافسة سياسية للسيطرة على السلطة، تشارك فيها النقابات العمالية والطلاب، ورجال الدين، ومجموعات الضغط، والعسكريون.

صبغت هذه الحقيقة البيئة السياسية ما بعد الاستقلال في العديد من البلدان الإفريقية. ونظراً لحجمها وتأثيرها المتوارث، أصبحت الجيوش في إفريقيا من اللاعبين الرئيسيين على الساحة السياسية وتمسكت بهذه الصلاحية.

أصبح تسلل الجيوش إلى المجال الاقتصادي أكثر انتشاراً وتعقيداً.

في أنغولا، على سبيل المثال، يشارك أفراد الجيش في مفاوضات العقود مع الشركات الأجنبية، ويجلسون في مجالس إدارة الشركات، ويمثلون أغلبية المساهمين في شركات الاتصالات البعيدة. 

وكانت مختلف الإدارات العسكرية التي تحكم نيجيريا فاعلة في كل شبكات المجال الاقتصادي. 

الانقسامات الدولية تشجع على الانقلابات

جرت العادة أن هذه الانقلابات يُرتبها الخارج، كما كتب عبد الله الأشعل، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

لم يحدث أن وقع انقلاب داخلي محض، وكانت هذه الانقلابات عادة انتقاماً من بعض القوى من خصومها، ولكنها تعكس هشاشة الوضع السياسي وعدم انضباط وعدم مهنية رجال القوات المسلحة في الدولة.

يتذرّع القادة العسكريون الأفارقة بثلاثية “الفساد وسوء الإدارة والفقر” للقيام بالانقلابات العسكرية، وهو ما حصل في غينيا ومالي والسودان.

لكن هذه ليست الأسباب الرئيسية.

هناك الانقسامات داخل المجتمع الدولي، تجاه تحركات العسكريين في البلدان الإفريقية، ما يشجع العسكر على مواصلة المغامرة.

على سبيل المثال، أخفق مجلس الأمن الدولي في الخروج ببيان مشترك لمناقشة الوضع في السودان، وأحجمت الصين وروسيا عن وصف الأحداث في السودان بـ”الانقلاب”.

في انقلاب تشاد، في الوقت الذي رفضته أغلب القوى العالمية، رحّبت به فرنسا، وشارك رئيسها إيمانويل ماكرون حفل تنصيب الرئيس الجديد المنقلب على دستور بلاده.

مصالح الدول الإقليمية تفرض نفسها.

وكل دولة تنظر لما يحصل في الدول الإفريقية وفق مصالحها، فإن كان المنقلب يخدم مصالحها فستدعمه، وإن كان ضد توجهاتها فسوف تقف ضده وتفرض عليه عقوبات.

والهشاشة المحلية تكفي لصنع الأزمات

تشترك كافة الانقلابات العسكرية في القارة السمراء في حدوثها على العامل المشترك بين الانقلابات العسكرية في إفريقيا، وهو حدوثها بأنظمة سياسية هشة وضعيفة.

وعادة ما تكون مدفوعة بتذمر شعبي من الأوضاع بشكل عام.

لا ينتهي أمر أي انقلاب على السلطة بالاستقرار، فبعضها يشهد خلافات حادة بين شركاء المؤامرة، تؤدي في الغالب إلى اشتعال نزاعات دموية. أو تكون بمثابة الشرارة الأولى لحروب أهلية بين أعراق أو قوميات مختلفة، خاصة أن مسألة الانتماء العرقي أو القَبَلي تتسيّد أنحاء كثيرة من القارة الإفريقية.

ترتفع غواية الانقلاب لدى الجنرالات وهم يعاينون ضعف المؤسسات الوطنية، وعدم الاهتمام بتنمية وترسيخ مفاهيم الحكم الديمقراطي. 

الدول التي تتبنى أنظمة ديمقراطية وحكماً رشيداً، نادراً ما تتعرض لانقلابات عسكرية؛ حيث يكون المفهوم العام فيها أن الوظيفة الوحيدة للجيش هي الدفاع عن الدولة وخوض حروبها الخارجية وحماية النظام الديمقراطي فيها.

وليس الوصول إلى السلطة وممارستها على الشعوب بحد السيف.

الضوء الأخضر للانقلابات كان عربياً

الانقلاب العسكري الأخير في السودان على الشركاء المدنيين، ومن قبله الانقلاب السياسي في تونس على مؤسسات الدولة (الحكومة والبرلمان)، هما جزء من موجة انقلابات إفريقية جديدة.

موجة تلقت الضوء الأخضر من قبول القوى الكبرى للانقلاب العسكري في مصر صيف 2013، في رأي الصحفي المصري قطب العربي.

والأجواء الإقليمية والدولية تبدو عاملاً محفِّزاً لتمرير أي انقلاب محتمل في إفريقيا.

الولايات المتحدة مشغولة بأزماتها الداخلية والخارجية، والضغوط التي يتعرّض لها بايدن وإدارته بسبب الانسحاب من أفغانستان.

والاتحاد الإفريقي لم يعد قادراً على مقاطعة الانقلابيين كما تنص مواثيقه وأدبياته الجديدة.

والأمم المتحدة تكتفي بمناشدة العالم الوقوف في وجه “وباء الانقلابات” في إفريقيا.

تبقى تهمة “قارة الانقلابات” وصمةً في جبين إفريقيا، بسبب تكرار تغيير السلطة بالقوة، من قِبل ضباط الجيش، ووأد التجارب الديمقراطية في أكثر من دولة. 

وعودة الانقلابات العسكرية والاستبداد تعد مؤشراً على تدهور الوضع السياسي والاجتماعي في إفريقيا. 

والدليل على ذلك أن الجنرالات يلعبون على هذا الوتر، ويتعهدون بتحسين الحياة، وتخفيف الفقر، ومنح البشر فرصة حقيقية للحياة.

لكن البشر لا يستفيدون من الانقلابات شيئاً.

المستفيد الأول هم القادة، الذين يرسلون ثروات البلاد إلى حسابات سرية بالخارج، في رحلة سفر بلا عودة.