السياسية: متابعات : صادق سريع

قبل أيام قليلة من موعد تسلّم المدنيين السلطة في السودان، وفقاً لاتفاق 2019، انتفض قادة الجيش، وأطاحوا بالمكون المدني في شريكهم في السلطة.

حدث كل شيء بسرعة في السودان.

يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، اعتقل قادة الجيش عدداً من الوزراء والمسؤولين المدنيين، من بينهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك.

ثم أعلن رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان حالة الطوارئ، وحلّ مجلس السيادة العسكري – المدني ومجلس الوزراء.

شعر السودانيون أنه يريد إعادتهم إلى نقطة الصفر! 

سارع الآلاف إلى الشوارع مجدداً، للتعبير عن اعتراضهم على انقلاب الجيش على السلطة المدنية. 

وللدفاع عن أحلامهم بوطن أفضل.. أحلامهم التي قالوها بصوت مرتفعٍ وواضح في ثورة 2019 الشعبية، والتي امتدّت بلا كلل أو ملل لستة شهور.

أزاح الانقلاب الستار عن حجم الخلاف بين شركاء الفترة الانتقالية، من المدنيين والعسكريين.

بحسب تقرير مطول نشره موقع عربي بوست ،هذه الأزمة المكتومة بين المدنيين والعسكريين تتعلق بانتقال الرئاسة للمدنيين. يريد الجنرالات أن يطيلوا أمد جلوسهم على مقاعد القرار. 

وإصرار الجانب المدني على تجريد الجيش من شركاته التي تعمل خارج قطاع الصناعات العسكرية.

هذه الأزمة التي كشفت ضعف وهشاشة المكون المدنيّ على الجانب الآخر.

وعن غياب السلطة المركزية للدولة، التي يتنازعها قادة الجيش والميليشيات القبلية والتوازنات المناطقية، ولا معارض سوى بعض الأحزاب الهشة.. والناشطين!

فهم البعض أن ما جرى ليس محاولة انقلاب حقيقية، بل رفع عصا من قبل العسكر. 

لكن الانقلاب الحقيقي هو محاولة المكون العسكري التشبث بتمديد رئاسته للمجلس السيادي، لاعباً على خلافات قوى “الحرية والتغيير”، شريكه المدني.

بعيداً عما تسفر عنه كرة اللهب التي اندلعت في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، يبدو السودان بلداً مختلفاً عن الجميع، بتكوينه الاجتماعي والعشائري، ودور جيشه المسيطر منذ الاستقلال تقريباً، وأحزابه التي أصبح وجودها شرفياً في المشهد السياسي.

هذا التقرير يحاول قراءة الخريطة السياسية المعقدة لبلد كان اسمه السودان قبل أن يفقد جنوبه على يد الجنرال السابق عمر البشير. وما زال اسمه السودان وهو محل نزاع بين الجنرال التالي، عبد الفتاح البرهان، وبين جموع القوى المدنية.. والشعب.

الثورة ليست لمَن يُشعلها الاتفاق بين المدنيين والعسكريين بعد سقوط البشير كان محاطاً بالشكوك المتبادلة من اللحظة الأولى

بدأت مظاهرات 19 كانون الأول/ديسمبر في عطبرة، المدينة المشهورة بحسها النقابي والمناهضة للاستعمار، وهي أول من انتفض ضد ارتفاع الأسعار. 

امتدت الاحتجاجات إلى المدن الأخرى، وقمعها نظام البشير بقسوة، لكن مع اليأس من الجوع وغلاء المعيشة، امتلك السودانيون عزيمة قوية للاستمرار في الاحتجاجات.

امتلك تجمع المهنيين السودانيين، وهو اتحاد بين أكثر من نقابة، زمام المبادرة، وجمع الأحزاب والقوى السياسية الأخرى لتوقيع إعلان الحرية والتغيير في الأول من يناير/كانون الثاني 2019.

بعد خمسة أيام تجمع المتظاهرون في مقر الجيش، وأعلنوا عن اعتصام القيادة العامة المفتوح، وهو أمر لم تتوقعه الحكومة مطلقاً. وفي مساء ذلك اليوم زاد عدد المتظاهرين في القيادة العامة عن 3 ملايين معتصم.

إذن انتهى عصر البشير.

وقام الجيش نفسه باعتقال الرئيس في 11 نيسان/أبريل 2019.

تصوروا أن البشير أصيب بالجنون، ولم يعد يدرك ما يجري في الواقع، فأطاحوا بالرجل، وشكلوا مجلساً عسكرياً انتقالياً برئاسة الفريق عوض بن عوف.

على الفور أصدرت قوى إعلان الحرية والتغيير بياناً يدين انفراد العسكريين بإدارة البلاد بعد البشير، ويدعو إلى تسليم السلطة إلى المدنيين، وبدأوا العصيان المدني لمدة ثلاثة أيام في جميع أنحاء السودان.

وبعد نحو 7 أشهر من بدء الاحتجاجات الشعبية في السودان، جرى توقيع الاتفاق بين العسكريين والمدنيين في 17 يوليو/تموز 2019، بحضور رؤساء دول وحكومات وشخصيات من دول عدة، ووقع الاتفاق أحمد ربيع عن قوى الحرية والتغيير، ومحمد حمدان دقلو عن المجلس العسكري الانتقالي.

كان يفترض، بحسب الاتفاق الذي ينظم المرحلة الانتقالية، أن تبدأ في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، قيادة المكوّن المدني للسلطة المشتركة، بعدما قادها العسكريون مذاك برئاسة الجنرال البرهان. بعد إعلانه حال الطوارئ، سارع البرهان لتقديم وعد بإجراء انتخابات في تمّوز/يوليو عام 2023، يتم على إثرها، حسب قوله، “تسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة”.

لكن الشكوك طبعت العلاقة بين المكوّنْين، المدني والعسكري، منذ البداية، في ضوء مَيل العسكريين إلى التمسّك بالسلطة، خصوصاً أن اتفاق آب/أغسطس 2019 حول المرحلة الانتقالية لم يكن ليحصل، لولا ضغط الشارع.

تجمع المهنيين السودانيين: البحث عن حل سلمي

شبكة الصحفيين السودانيين بدأت هذا الكيان الجديد في عالم السياسة بالسودان.

اعتبرت الشبكة أنها ليست قويّةً بما فيه الكفاية للتأثير في قرارات الحكومة. فقرّرت في عام 2012 الانضمام إلى لجنة أطباء السودان وتحالف المحامين الديمقراطيين. 

بحلول 2014؛ اندمجت التشكيلات الثلاثة تحتَ لواء تجمع المهنيين السودانيين وبدأت التخطيط للقيام بحملات لرفع الأجور وتحسين ظروف العمل. 

في تشرين الأول/أكتوبر 2016؛ تأسَّس تحالفٌ رسميّ بين اللجان الثلاث بعد التوقيع على ميثاقٍ مكتوب يشرحُ نظام تجمع المهنيين وطريقة عمله وكذا الهدف من وجوده. وكان أول ظهور سياسي للتجمع مشاركته في احتجاجات عطبرة نهاية 2018؛ بتظاهرات تدعو إلى زيادة الحد الأدنى للأجور.

تطوّر الأمر وتوحدت مطالب الجميع في إسقاط النظام بالكامل.

ونجحت المغامرة السياسية الأولى للتجمع.

لكن المغامرة الثانية كانت ضد المجلس العسكري المشارك في الفترة الانتقالية، عندما وقعت مجزرة القيادة العامة في 3 حزيران/يونيو 2019. وقتها دعا تجمّع المهنيين إلى العصيان المدني الكامل والإضراب السياسي المفتوح. واتهمَ المجلس العسكري بالوقوفِ وراء عمليّات القتل الجماعي والنهب والاغتصاب والقمع العنيف للمتظاهرين. 

وأصبح وجود تجمّع المهنيين في الاحتجاجات الشعبية ذا أثر كبير، بفضلِ إيمانهِ بالبحث عن حل سلمي في جميع التظاهرات المطالبة بالتغيير.

النقابات والشارع هذه المرّة.. وليس الأحزاب

اختلفت ثورة 2019 عن الانتفاضات الشعبية السابقة، من حيث طبيعة القوى السياسية التى أشعلت شرارة الثورة وقادتها حتى النصر.

هذه المرة غابت القوى السابقة التي قادت ثورة أكتوبر 1964، وانتفاضة أبريل 1985.

وكان تحالف الأحزاب مع النقابات أداة الثورة في المرات السابقة، لكن هذه المرة كان حشد الشارع عفوياً تقريباً مع جهود لجان الأحياء والمقاومة فى تنظيم الجماهير، ودفعها إلى الشوارع واختيار الشعارات والهتافات.

ثورة ديسمبر هى ثورة القوى الحديثة بطليعة شبابية. 

انضمت لها قوى نقابية مثل تجمع المهنيين. 

وكان دور الأحزاب التقليدية بالذات محدوداً. 

ولاحقاً، وهذا قد يكون عاملاً معوقاً لتطور عملية الانتقال الديمقراطى. عندما يحتاج المسار الديمقراطي الجديد إلى حشد شعبي، أو خبرة سياسية أكبر مما تقدمه قيادات الحرية والتغيير من مدنيين لم يعمل بعضهم بالسياسة من قبل.

سيتذكرون الأحزاب التي انقرضت بالتدريج، أو شاخت في مواقعها، عندما يحتاج الشارع إلى قيادة تنقله إلى المستقبل.

لكن أحزاب السودان لم تعد ذات تأثير كبير على المواطن، أو صانع القرار. 

والملاحظة المهمة هي أن العامل المشترك بين الانقلابات العسكرية الثلاثة التي شهدها السودان في السابق، هو حالة الضعف المطلق التي تصيب الأحزاب السياسية، الأمر الذي تكرر في الانقلاب الرابع الذي قاده البرهان.

وواجهت الأحزاب اتهامات متكررة بأنها لا تضع المصلحة الوطنية على رأس الأولويات، بل تسبقها المبادئ الحزبية الضيقة والتصارع على السلطة.

ومن الأمور التي تسترعي الانتباه أن كافة الانقلابات العسكرية تلك تم إسقاطها بثورة شعبية في 1964 و1985 و2019 وأن السودان لم يحظَ بدستور دائم في فترة الديمقراطية.

وأن النخبة السياسية التي أدمنت صراع السلطة هي التي أدخلت الجيش في معادلة السياسة، بل وحفّزته وجعلته أحد العوامل المؤثرة طيلة العهود الماضية.

الأحزاب القديمة ضعيفة.. والجديدة على أساس جغرافي

تحصي قائمة الأحزاب السياسية في السودان 42 حزباً بالتمام والكمال على موقع ويكيبيديا، لكنها تعاني دون استثناء من الجمود الحزبي الهيكلي والفكري.

مثلاً حزبا الأمة والاتحادي بصفتهما حزبين عريقين لم يخرجا من إطار العائلتين.

الصادق المهدي كان رئيساً للوزراء في عام 1969 وما يزال رئيساً لحزب الأمة حتى 2021، ودفع بابنه عبدالرحمن ليكون مساعداً للبشير بعد اتفاق ضمني.

ولا يزال عثمان الميرغني رئيساً للحزب الاتحادي منذ العام 1968، وتولى ابنه حقيبة الاتصالات في عهد البشير أيضاً.

الحزب الشيوعي السوداني الذي عرف بشراسته في قيادة الإضرابات عبر تغلغله في النقابات العمالية، لا يزال يقود نفسه بالعقلية القديمة، وانضم بعض أعضائه للحركة الشعبية بقيادة جون قرنق .

المؤتمر الوطني الذي كان حزب البشير قتل صوت الأحزاب الإسلامية واحتكره.

حتى الأحزاب التي خرجت من عباءة المؤتمر الوطني لم تكن على مستوى تمثيل الصوت الإسلامي الغائب خلال حكم الديكتاتور.

وظهرت في عهد البشير أحزاب الفئة الجغرافية مثل

حركة تحرير شرق السودان.والمنبر الديمقراطي لجبال النوبة. وحركة العدل والمساواة في دارفور.

وكان العامل المشترك بينها هو المناداة بحقوق المناطق التي تعتبر مهمشة من وجهة نظر هذه الأحزاب.

الآن لا يبدو أن هناك حزباً يمتلك الشعبية المطلقة، وهذا مؤشر على فشل عام لأحزاب السودان في تأدية دورها الأول والأساسي، وهو الدفاع عن مصلحة المواطن وتمثيله في المشهد السياسي.

ومنذ عهد البشير يشهد السودان ظاهرة “السياحة الحزبية”، وتعني كثرة انتقال السياسيين بين الحزب والآخر. هكذا انشق الحزب الشيوعي عن “الحرية والتغيير”، كما انفصل حزب الأمة أيضاً، لكنه عاد مرة أخرى. وهكذا فقد المواطن ثقته برجال السياسة.

كما أن الخطاب الحزبي فئوي يخاطب فقط أنصاره دون أن يحتوي على الشمولية المستحقة لعقلية الأغلبية.

أو يمثل مصالحهم على الأرض.

أحزاب من ورق.. ومصالح

حتى 2019، كانت الخريطة السياسية للقوى الفاعلة في السودان تضم عدداً من الأحزاب التقليدية، وأبرزها:

الحزب الاتحادي الديمقراطي بقيادة محمد عثمان الميرغني/ انقسم لعدة أحزاب صغيرة بعد ذلك.حزب الأمة القومي بقيادة الصادق المهدي/ اشتقت منه عدة أحزاب.المؤتمر الشعبي بقيادة الراحل حسن الترابي.المؤتمر الوطني/ الحزب الحاكم آنذاك.الحزب الشيوعي.بعد 2019، ظهر تجمع نداء السودان:

هو تحالف من الأحزاب السياسية مثل حزب الأمة والتجمع الاتحادي والبعث والمؤتمر السوداني، مع الحركات المسلحة في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان.

كوّنت هذه الأحزاب ميثاق “الحرية والتغيير”، الذي ضم 89 حركة وحزباً سياسياً ومنظمات مجتمع مدني. وقع جميعهم على ميثاق “الحرية والتغيير”، الذي أطلق المفاوضات ضد البشير.

أبرز مكونات هذا الميثاق هو “تجمع المهنيين”، قائد الحراك ضد البشير، ومن سيأتي بعد البشير.

خلافات ما بعد الاتفاقالشريك العسكري بوادر خلاف من اللحظة الأولى

في بداية الفترة الانتقالية حَظي المكون العسكري بدعم خارجي مكّنه من تثبيت قدمه في الحياة السياسية.

ومنذ بدء الفترة الانتقالية تصدر حميدتي وقوات الدعم السريع، المشهد وتضخمت أدواره السياسية والعسكرية، فقاد كلاً من مفاوضات السلام، واللجنة العليا لإدارة الأزمات الاقتصادية، وكذلك اللجنة العليا لجمع السلاح.

وفي سبتمبر/أيلول 2021 أعلنت الحكومة السودانية عن إحباط محاولة انقلاب قام بها ضباط ومدنيون مرتبطون بنظام الرئيس السابق عمر البشير.

الخلافات المتراكمة بين مدنيي المرحلة الانتقالية وعسكرييها تفجرت مع هذه المحاولة الانقلابية. 

فهي محاولة لا تزال ملتبسة وبقيت أسرارها لدى العسكر.

وكان واضحاً أن رئيس الحكومة حمدوك وغيره من السياسيين المدنيين يشتبهون بأنها إرهاص أراد العسكريون البناء عليه واستغلاله للضغط على الحكومة، ونسف المرحلة الانتقالية من أساسها، وإطاحة مبدأ الدولة المدنية الذي قامت عليه. 

فمن جهة، تعني المحاولة الانقلابية أن ثمة مخاطر أمنية تقتضي بقاء الجيش متصدّراً.

وأدّى تمرّد مجلس نظارات البجا والعموديات المستقلة في شرقي السودان، والمتناغم مع العسكر، إلى مفاقمة الوضع الاقتصادي، ما يعني أيضاً أن الحكومة “فشلت” وبات تغييرها مبرّراً للمجيء بأخرى لا تعبّر عن قوى “ثورة ديسمبر 2018”. 

وقامت دولة الإمارات بالوقوف خلف حميدتي والدفع به لتصدر المشهد وقيادة البلاد. وهو هدف ليس سهلاً.

فالرجل ليس جزءاً من المؤسسة العسكرية، بل قائد مليشياوي من دارفور، مما يستنفر بقية القبائل في شرق وشمال البلاد.

كما أنه غير محسوب على تيار سياسي أو تكتل سياسي يدعمه.

ومنذ توقيع اتفاق السلام بين الحكومة والحركات المسلحة، في أكتوبر/تشرين الأول 2020، بدأ دور قائد قوات الدعم السريع في الخفوت مقابل تعاظم دور رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، بفضل ترؤسه القوات المسلحة ومجلس السيادة ومجلس شركاء الفترة الانتقالية ومجلس الأمن والدفاع.

وأدى قرار السودان بتقليص وجوده العسكري في اليمن مطلع يناير/كانون الثاني 2020 وهدوء الأوضاع في ليبيا إلى خسارة حميدتي لأحد أهم مصادر دخل قوات الدعم السريع.

وعلى الرغم من الخلافات بين حميدتي والبرهان، إلا أن هدفهما واحد، وهو الانفراد بالسلطة.

تحالفات العسكر مع “الفلول” والمتمردين

أثارت  لجنة تفكيك نظام البشير التي يرأسها عضو المجلس السيادي محمد الفكي سليمان قلقاً وغضباً لدى العسكريين و”الفلول” وأطراف أخرى.

كان “الفلول” يعانون من الملاحقة والإقصاء، ويسعون إلى العودة بأي ثمن. وكان العسكريون في حاجة إلى شريك مدني في صراعهم مع الشركاء المدنيين. 

وتلاقت المصالح.

ولأن المكون العسكري هو الذي تولى ملف مفاوضات السلام، رغم منح الوثيقة الدستورية هذا الملف لسلطات رئيس الوزراء، فقد أدى ذلك لأن تصبح “الجبهة الثورية” أقرب للعسكريين، وهذا ربما لم يكن متعمداً، لكن طبيعة التحالفات السياسية في تلك المرحلة فرضت هذه المعادلة.

خلافات داخلية في جبهة الحرية والتغيير

في بداية أكتوبر/تشرين الأول 2021 غصت قاعة الصداقة بالحاضرين.

القاعة التي أهدتها الصين إلى شعب السودان، تقع في مركز العاصمة المثلثة، وفي التقاء النيلين الأزرق والأبيض. 

في ذلك الصباح غصت القاعة وساحتها الخارجية بحشود مناصري 16 حزباً وحركة مسلحة، قررت الانشقاق عن قوى الحرية والتغيير وتكوين كيان بالاسم ذاته؛ في إرباك واضح للساحة السياسية.

نعم، اتخذت الاسم ذاته بإضافة رقم 2: “قوى الحرية والتغيير 2”.

هتف أنصار الكيان الجديد بشعارات ضد قوى الحرية والتغيير، ورفعوا صور نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي). 

هكذا ظهر قبل أحداث 25 أكتوبر/تشرين الأول بأسابيع طبيعة “الفرز” الذي عمل المجلس العسكري عليه، للتخلص من شركائه المدنيين.

من أبرز القوى في تحالف “قوى الحرية والتغيير 2” حركة العدل والمساواة بقيادة وزير المالية جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان بزعامة مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور، إضافة إلى بعض رموز عهد البشير.

كان رئيس الحزب الاتحادي الموحد محمد عصمت يحيى يهم بالخروج من القاعة عندما سأله أحد الصحفيين عن موقفه، فقال إنه “لبى الدعوة لكنه لم يوقع البيان، لأنه لا يمكن السماح بوجود فريقين لقوى الحرية والتغيير ووحدة التحالف في هذه المرحلة الحرجة، بينما السودان مهدد من أطرافه.

بعد أحداث قاعة الصداقة بيومين كان الشريك العسكري يجهز من جديد أسباباً لشق صف قوى الحرية والتغيير، في الاحتفال بتوقيع ميثاق التوافق الوطني لوحدة قوى التغيير. وأصر البرهان على دعوة عناصر النظام المعزول، والقوى السياسية التي شاركته السلطة حتى سقوطه. 

تبدو خلافات الجانب المدني منطقية، ومتوقعة.

فالمتحالفون هم أبناء عصر دكتاتورية استمرت لثلاثة عقود، طارد البشير خلالها المعارضين والأحزاب، ومنع هذه القوى الوطنية من “التدريب” على العمل السياسي والمجتمعي.

أيضاً يلعب البُعد القبلي والمناطقي دوراً كبيراً في مجريات السياسة السودانية. وتجمع قوى الحرية والتغيير عبارة عن قوى هشة غير فاعلة في المشهد السياسي على مدار العقود الثلاثة الماضية.

ويسبق فيها البعد الحزبي والجهوي مبادئ التحالف والمصالح المشتركة.

غلب عليهم التعامل بمنطق المحاصصة عند تشكيل الحكومة أو تعيين الولاة، وغيرها من الترتيبات التي تنم عن خلل في المنطلقات والتصورات، لتكوينات هذا التحالف غير المتجانسة.

القبائل أيضاً تتحكم في صناعة القرار

ظل السودان منتقلاً بتاريخ، غابت فيه الدولة المركزية القوية؛ إذ لم يعرف تاريخه، منذ الممالك القديمة، قيام دولة تستطيع أن تجمع هذا التنوع الثقافى وهذه الجغرافيا الشاسعة.

وبقدر ما أسهمت القبيلة في الحياة السياسية، وكان لها الدور غير المباشر في نشوء كيانات حديثة، إلا أن الصراع القبلي حول النفوذ السياسي إلى انهيار أنظمة.

كان لافتاً تسيّد القبيلة في المشهد السياسي طيلة سنوات حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، حتى بلغ الأمر أن الأوراق الثبوتية الرسمية لا تخلو من ورود اسم القبيلة. 

ولسنوات طويلة ظلت مناصب محددة محفوظةً لقبائل بعينها، أو مناطق جغرافية محددة. 

وبعد ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 اضطر رئيس الوزراء الانتقالي، عبد الله حمدوك، لإعفاء والي ولاية كسلا، الشاب المعين حديثاً، وذلك تحت ضغط زعيم قبيلة أخرى مناوئة للحاضنة القبلية لوالي كسلا. وانتهى الأمر باشتباكات بين الطرفين راح ضحيتها قتلى وجرحى، وانتقلت الاشتباكات لتشمل مدناً أخرى بشرق السودان الذي تلعب فيه القبلية دوراً مؤثراً.

كما يميل جزء من المكون العسكري للتحالف مع القبائل، ففي ظل بحث المكون العسكري عن ظهير اجتماعي لجأ لاستغلال الحواضن التقليدية للنظام السابق.

الجيش يحكم منذ الاستقلالالسبب الأكبر للخلاف رفض الجيش تجريده من شركاته خارج قطاع  الصناعات العسكرية

الجيش في السودان مستقلّ عن السلطة التنفيذية، ويُعتبر القطب الآخر مع القطب المدني، اللذين تتآلف منهما هذه السلطة. 

هذا النموذج سائد في مصر وسوريا والجزائر، ولو بأشكال مختلفة، حيث للجيش موقع خاص يتجاوز السياسة إلى الاقتصاد والمجتمع.

ورغم أن ثلثي سنوات ما بعد الاستقلال تبددا تحت النظم الاستبدادية العسكرية، إلا أن كفاح الشعب السوداني لأجل حقوقه وحرياته لم يتوقف طيلة هذه السنوات.

وفي شهر ديسمبر 2020، كتبت الصحفية سارا بابيكار في El Salto Diario الإسبانية أنه يمكن للشعب السوداني الاحتفال بسقوط البشير، لكن في المقابل، يتضاعف الشعور بالخوف من إصرار الجيش على الاستمرار في حكم ثروات البلاد.

الثروات التي يخشى الجنرالات من فقدها

في صيف 2021 جدّد الجناح المدني في الحكومة الانتقالية مطالبه، بـ”خلو طرف” نظيره العسكري من الشركات الحكومية والأمنية وشركات الجيش، وضمها رسمياً إلى وزارة المالية بحكم ولايتها على المال العام في البلاد.

وكانت تلك هي المحاولة الثانية، بعد إصرار الجيش على رفض طلب مماثل قبل عام.

ربما كان هذا الموقف هو الخلاف العلني والسري الأكبر بين شركاء المرحلة الانتقالية.

وربما كانت السبب في قرار الجيش بالتخلص من مطالب حمدوك ورجاله، رغم وجود هذه المطالب في الوثيقة الدستورية.

وفي أغسطس/آب 2020 أطلق حمدوك تصريحه المذهل: 18% فقط من إيرادات الدولة تحت سيطرة وزارة المالية.

ولم يكمل عبارته. ولم يتحدث عن النسبة العظمى المتبقية، ولا على من يملكها.

لكن بعد أيام اضطر البرهان إلى الحديث أمام قادة الجيش ليغطي هذه الفراغات” في تصريح حمدوك.

قال: إن شركات الجيش لم تحتكر تصدير السمسم أو المواشي أو الذهب، وكذلك القوات المسلحة بسطت يدها إلى وزارة المالية للاستحواذ على مجموعة مقدّرة من تلك الشركات لكنها لم تستجب.

ولم يكن هذا دقيقاً.

فقد عارض البرهان والفريق ياسر العطا، الذي كان يرأس لجنة إزالة التمكين، علناً تجريد الاستثمارات التجارية العسكرية. بل اقترح العطا تشكيل “شراكات ذكية” مع البنوك والقطاع الخاص، والتكامل مع القطاع المدني.

لكن هذا أمر غير مقبول

كل جيوش العالم لديها علاقة بالاستثمار.
لكنه الاستثمار المتعلق بميزتهم التفضيلية، مثل الاستثمار في الصناعات الدفاعية. 
هذا مهم ومشروع. 

لكن أن تستثمر المؤسسة العسكرية في قطاع الإنتاج وتحل محل القطاع الخاص، فهذا أمر غير مقبول.

غير ممكن أن تدير موارد خاصة بالشعب السوداني من غير شفافية ومساءلة، هذا أمر ما فيه تنازل.

عبد الله حمدوك
رئيس الوزراء السوداني المعزول

شركات الجيش ومصالحه التجارية

في نهاية 2020 أقر الكونغرس الأمريكي قانوناً يدعم الانتقال الديمقراطي في السودان، لكن كثيرين رأوا فيه تضييقاً على “بيزنس” الجيش السوداني.

القانون صدر بغرض تشديد الرقابة على قوى الأمن والاستخبارات السودانية، لكنه ينص صراحة على ضرورة وضع لائحة بكل الأسهم في الشركات العامة والخاصة التي تديرها أو تملكها قوى الأمن والاستخبارات.

ونقل كل هذه الأسهم إلى وزارة المالية أو أي هيئة تابعة للحكومة السودانية.

الشركات العسكرية نوعان، الأول خاص بالمنظومة العسكرية وتتولى توفير الاحتياجات اللوجستية للجيش.

والآخر خاص بالنواحي المدنية بتوفير المنسوجات وتأمين السوق المحلي من الاحتياجات والسلع الغذائية والصناعية.

بلغ عدد الشركات التابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية، التي تخضع بدورها إلى وزارة الدفاع، أكثر من 200 شركة حتى مايو 2020، تحقق دخلاً يعادل 2 مليار دولار أمريكي.

ويبلغ العدد الإجمالي للشركات العسكرية حوالى 250 شركة، بما فيها تلك التابعة لقوات الدعم السريع، التي كانت تحصل على مداخيل إضافية من تأجير الجنود للقتال إلى جانب القوات المدعومة من الإمارات والسعودية في اليمن وليبيا، وهو ما حدث مع الجيش السوداني أيضاً.

ويدلّ تبرّع القوات المسلحة بقيمة مليار دولار إلى بنك السودان المركزي لدعم استيراد السلع الحيوية في العام 2019 على حجم الاحتياطي المالي الذي تحتفظ به.

يوضّح المسح الشامل الذي أجراه الباحث جان-باتيست غالوبان والبحث الآخر المتضمّن “التقييم الأساسي للأمن البشري في السودان وجنوب السودان” ضلوعَ الشركات العسكرية في إنتاج وبيع الذهب والمعادن الأخرى.

وفي تجارة الرخام، والجلود، والمواشي، والصمغ العربي.

وهي منخرطة أيضاً في تجارة الاستيراد، وتسيطر على 60% من سوق القمح.

وفي قطاعات الاتصالات، والمصارف، وتوزيع المياه، والتعاقد، والإنشاءات، والتطوير العقاري، والطيران، والنقل، والمنشآت السياحية، وإنتاج الأجهزة المنزلية، والمواسير، والأدوية، والمساحيق، والنسيج.

ويرى يزيد صايغ، الباحث والزميل الأول بمركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، أن عملية تجريد الاستثمارات العسكرية السودانية قد تنجح، وقد تفشل، إذا رفضت القوات المسلحة المضي بنقل الشركات التابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية. 

أو مانعت قوات الدعم السريع الخضوع إلى عملية مماثلة. 

وقد تنشأ مفارقة في هذه الحالة: فإن النشاطات الهادفة إلى توليد الدخل التي يقوم بها حميدتي وبقايا نظام البشير وجماعات أخرى غير قابلة للاستدامة، ولكن ذلك لن يثنيهم عن مواصلتها.

سائق الباص ومساعده يسرقان المسافرين

عندما انتشرت ظاهرة النهب المسلح في ثمانينات القرن الماضي، انتشرت معها هذه الطرفة عن تعرض أحد الباصات للنهب. 

خرج اللصوص على الحافلة وسرقوا ركابها. لاحظ مساعد السائق أن اللصوص يحملون سلاحاً واحداً، فانقض عليه وسلبه سلاحه، فلاذ جميع اللصوص بالفرار، وفرح الركاب منتظرين عودة مسروقاتهم.

لكن مساعد السائق وجه فوهة البندقية نحوهم وأمرهم بالانصراف.

وعرفوا وقتها أن منقذهم قد تحول هو الآخر إلى قاطع طريق حين وجد الفرصة.

ما نعيشه اليوم مع كل من عبدالفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان حميدتي يجسد ذلك المشهد بامتياز.

رغم تاريخ الرجلين مع دماء الأبرياء في لإقليم دارفور خلال العقدين، إلا أنهما لعباً دورا محورياً في إسقاط نظام الرجل الواحد – نظام القاتل عمر البشير؛ فظن البعض وللأسف أنا واحد منهم أن الرجلين قد انحازا للحق والوطن.

كنت أظن أن المكون العسكري ضيف على المكون المدني في مجلس السيادة، باعتبار أن الثورة في أصلها ثورة الشعب ضد العسكريين اللصوص الانقلابيين الحانثين لمواثيق السماء والأرض.

توقعنا منهم مراعاة حرمة الضيافة، إلا أنهم أصبحوا شركاء في البيت.

ثم أصحاباً للبيت بعدما سجنوا أهله وقتلوا بعضهم، ومازالوا يفعلون بدم بارد.

د. حامد برقو عبدالرحمن

“المشروع المدني” الذي يحلم به السودانيون

غداة الانقلاب العسكري في السودان، لم يتأخّر الفريق عبد الفتاح البرهان وأعضاء فريقه، بمن فيهم صاحب النفوذ محمد حمدان دقلو “حميدتي”، في إدراك أنهم لن يتمكّنوا من متابعة طريقهم.

ليست للانقلاب حاضنة شعبية حقيقية في الشارع، ولا حلفاء قادرون على إحداث الفارق.

لا الحركات المسلحة التي جاءت بأنصارها من دارفور لتدفع ثمن امتيازات حصلت عليها من المجلس العسكري في مفاوضات السلام.

ولا القبائل التي أحضروها من بعض المناطق مدفوعة بمصالحها المحلية وتحالفها غير الأبدي مع قادة الجيش.

ولا بقايا نظام البشير، المطاردون قانونياً وشعبياً.

لم يكن بين حلفاء البرهان من يمكنه إعادة الحكم العسكري.

ولم يكن للانقلاب “مشروع مدني” مقنع داخلياً وخارجياً، بحيث يمكن للجنرالات أن يأتوا بـ”حكومة كفاءات مدنية مستقلة” قادرة على متابعة خطط حكومة عبد الله حمدوك لإصلاح الاقتصاد، اعتماداً على المؤسسات المالية الدولية.

هم اعتبروا أن إطاحة البشير تمنحهم “حقّاً” مكتسباً دائماً في تسيّد السلطة بأي صيغة يمكن التوصّل إليها. 

بالتوافق أولاً على وثيقة دستورية.

وبثّ الفرقة بين خصومهم المدنيين ثانياً.

واعتقال هؤلاء الخصوم وإلغاء المواثيق الموقّعة معهم ثالثاً. 

تبقى الدولة المدنية الحديثة المنتظرة في السودان رهينة نهوض قوًى حديثة، تقودها الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني النشطة. 

ولا تزال الفرصة مواتيةً إذا ما بدأت الأحزاب السياسية التغيير من داخلها. 

وإذا شرع تجمع المهنيين المنقسم في بناء النقابات ودعم كيانات المجتمع المدني.

وما دون ذلك فإن الفرصة التي منحتها “ثورة ديسمبر” معرضة للضياع.