“صمت حميدتي المريب”.. هل يكون المستفيد من تصاعد الرفض لانقلاب البرهان؟
السياسية:
صمت يبدو مريباً يميز موقف محمد حمدان دقلو (الشهير بحميدتي)، قائد قوات الدعم السريع، تجاه قرار الفريق عبد الفتاح البرهان الحاكم الفعلي للبلاد بالإطاحة بالحكومة المدنية الانتقالية، وحل مجلس السيادة الذي كان حمدان نائباً له، فما هي طبيعة العلاقة بين البرهان وحميدتي وهل يؤيد الأخير انقلاب البرهان أم يعارضه؟
نظرياً، جعلت قرارات البرهان حاكماً مطلقاً للبلاد، وجردت حميدتي من أرفع منصب لديه وهو نائب رئيس مجلس السيادة، ولكن محمد حمدان، ما زال لديه منصب أقوى يصعب عزله منه، هو كونه قائد قوات الدعم السريع المنبثقة عن ميليشيات الجنجاويد، والتي تدين له بالولاء بشكل شخصي.
وبالتالي هو عكس جنرالات السودان بمن فيهم البرهان الذين تكون علاقتهم بجنودهم مهنية بالأساس، فإن حميدتي يحتفظ بولاء قوات الدعم السريع ما دام قادراً على دفع مرتباتهم، ومن المعروف أنه يعتقد أنه من أغنى الرجال في السودان بفضل سيطرته على تهريب وتجارة الذهب في السودان، ولاسيما في دارفور.
ويقول أليكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمية في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس في الولايات المتحدة في مقال كتبه لـ”بي بي سي”، إن حميدتي “من خلال الذهب ونشاط المرتزقة المعتمد رسمياً، أصبح يتحكم بأكبر “ميزانية سياسية” للسودان، أموال يمكن إنفاقها على الأمن الخاص، أو أي نشاط، دون أي مساءلة”.
وأصبحت شركة الجنيد، التي يديرها أقاربه، “مجموعة ضخمة تغطي الاستثمار والتعدين والنقل وتأجير السيارات والحديد والصلب. وعندما أقيل البشير، كان حميدتي قد أصبح واحداً من أغنى الرجال في السودان وكان في قلب شبكة من المحسوبية والصفقات الأمنية السرية، حسبما ورد في تقرير لـ”بي بي سي”.
وأشارت تقارير إلى أن عدد “قوات الدعم السريع” التي يقودها حميدتي وصل إلى أكثر 40 ألف شخص في عام 2019، مما يجعلها نداً لقوات الجيش السوداني.
كما أن الرجل وطَّد علاقته بفصائل وشخصيات من متمردي دارفور، الذين كان يحاربهم يوماً ما، وأصبح يقدم نفسه كممثل للغرب السوداني المهمش.
وفي هذا الإطار يلاحظ أن حركة تحرير السودان – قيادة مناوي قد أيدت انقلاب البرهان ضمنياً حيث وصف الإجراءات التي اتخذها بأنها واقع فرض نفسه بسبب ما سمّته تعنُّت المجلس المركزي للحرية والتغيير.
حميدتي مع البرهان أم حمدوك؟
خلال التوتر الذي سبق الإطاحة بحكومة عبد الله حمدوك واعتقال رئيسها، كان حميدتي طرفاً رئيسياً في الأزمة ويقف إلى جانب البرهان في مواجهة القوى المدنية، وكان لافتاً في هذا الصدد تهديده بأنه إذا كانت القوى المدنية تلوح بالشارع، فإنهم المكون العسكري في الحكم الانتقالي لديه شارعه الذي يستطيع تحريكه، كما أن حميدتي قال إنه لن يتم تسليم السلطة والمخابرات إلا لرئيس منتخب.
وأمام جمع من الناس مؤخراً، اتهم حميدتي السياسيين بالطمع في “الكراسي” أو السلطة – بخلاف الجنود أمثاله ممن لا يهمهم سوى الشعب والوطن.
وعلى أثر تلويح حميدتي، خرج متظاهرون داعمون للجيش داعين إلى حكومة جديدة ومطالبين بقيادة الجيش للفترة الانتقالية، قبل أن يتم اعتقال حمدوك وحل حكومته.
وحذفت شركة فيسبوك الأسبوع الماضي أكثر من 700 حساب على علاقة بقوات الدعم السريع، ويُشتبه في بثها أخباراً كاذبة عن السودان.
ولكن اللافت أنه عشية الإطاحة بحكومة حمدوك، شدد حميدتي على دعم عملية الانتقال الديمقراطي وصولاً للانتخابات العامة في البلاد، حيث أكد في لقاء مع المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي جيفري فيلتمان، الأحد، أي قبل يوم واحد من الانقلاب، على ضرورة تنفيذ اتفاقية السلام، والحرص على الوثيقة الدستورية.
ويعتقد أن البرهان، وبالأكثر حميدتي، لهما علاقة بالفظائع التي ارتكبتها قوات الأمن السودانية ضد المدنيين خلال الاحتجاجات الجماهيرية التي أطاحت بالبشير في عام 2019، خاصة مذبحة القيادة العامة، وفقاً لما نقلته مجلة Foreign Policy الأمريكية عن مسؤولين أمريكيين ومصادر في الخرطوم.
تقول المجلة جعل ذلك كلا من البرهان وحميدتي على السواء يتخوفان من تسليم السلطة خوفاً من المحاسبة بسبب تلك الأعمال، لا سيما مذبحة القيادة العامة التي راح ضحيتها ما يقرب من 130 مدنياً في يونيو/حزيران 2019.
وقال العديد من المسؤولين الأمريكيين إنه يعتقد أن حميدتي دعم تحرك البرهان ضد قادة الحكومة المدنية، حسبما تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
ولكن بعد الإطاحة بالحكومة، لم يرصد أي تصريح واحد من حميدتي تأييداً للبرهان أو ضده، رغم أنه معروف بكثرة طلاته الإعلامية.
ورغم أن قوات الدعم السريع تشارك في الانتشار الذي ينفذه الجيش في العاصمة في مواجهة المحتجين، ولكن لم ينسب لها أعمال قمع معينة، عكس ما حدث خلال مذبحة القيادة العامة في يونيو/حزيران 2019 التي اتهمت بها هذه القوات بشكل أساسي.
كما هناك تقارير بأن ما يعرف بقوات الكفاح المسلح التي تضم متمردي دارفور المتصالحين مع الحكومة تنتشر في العاصمة بجوار الجيش والدعم السريع، ويعتقد أن هذه الفصائل الدارفورية متحالفة مع حميدتي عدوها السابق، ومن المعروف أن هذه الفصائل التي انضمت للحكم الانتقالي ضمن قوى الحرية والتغيير قد انشقت عنها ونظمت مظاهرات مؤيدة للعسكريين، ويقول مراقبون إن هذا تم بإيعاز من العسكريين.
والمنطق يقول إن حميدتي قد يكون له الدور الأساسي في ذلك سواء من خلال تحالفه مع الفصائل الدارفورية، وخاصة أنه يقدم لنفسه باعتباره ممثلاً لغرب السودان برمته عرباً وأفارقة، والأهم امتلاكه المال والسيطرة على الإقليم وموارده الأمر الذي يجعل في موضع قوة يسمح له بفرض نفوذه عليهم.
ويضاف لكل ذلك تحركات حميدتي على المستوى الإقليمي، فبالإضافة إلى علاقته الوثيقة القديمة مع السعودية والإمارات، حيث كان يساهم في توريد المقاتلين السودانيين إلى اليمن وليبيا، فإنه قام مؤخراً بزيارة لقطر وتركيا، كما هناك تقارير عن زيارة وفد عسكري سوداني برئاسته إلى إسرائيل مؤخراً، حسبما ذكر موقع “السوداني”.
وتضاربت التقارير حول من ترأس الوفد، فهناك من قال إن حميدتي ترأس الوفد، وتقارير قالت إن شقيقه هو الذي ترأس الوفد وأنباء أخرى بأن حميدتي أشرف على الزيارة دون أن يتوضح ما معنى كلمة أشرف.
طبيعة العلاقة بين البرهان وحميدتي.. تحالف أم تنافس
العلاقة بين البرهان وحميدتي مركبة، حيث تعود إلى فترة قبل عزل البشير، إذ يقول المنتصر أحمد، وهو ناشط سوداني، لموقع DW العربي إنها علاقة ترجع إلى فترة تأسيس “الجنجويد” عام 2003، ونمت بعدها علاقة “تحكمها المصالح المشتركة والتاريخ الدموي”.
واستطاع الرجلان القادمان من ذوي الخلفيات المختلفة تماماً الإطاحة بطابور طويل من الجنرالات الأعلى رتبة ومقاماً في مقدمتهم وزير الدفاع السوداني في عهد الرئيس السابق عمر البشير عوض بن عوف، الذي أشرف على عزل البشير، ومن الواضح أن البرهان وحميدتي استغلا علاقتهما الإقليمية وقلق القوى الثورية السودانية، من الضباط الإسلاميين للوصول للسلطة.
وبعد ذلك بدت تصريحات حميدتي دوماً مكملة ومؤيدة لتصريحات البرهان، ولكن هناك حديث عن خلافات مستترة بين الرجلين وصلت إلى قيام الجيش وقوات الدعم السريع، بعمليات تحصين متبادلة لمواقعهما خوفاً من أي مواجهة محتملة.
ويقول مسؤولون أمريكيون إن حميدتي والبرهان كان لهما تحالف ضعيف وخصومة محتدمة في المجلس العسكري.
ويتمتع البرهان بعلاقات وثيقة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في حين أن حميدتي يتمتع بعلاقات أوثق مع المسؤولين في الإمارات والسعودية – وجميع الدول ذات المصالح الخاصة في السودان.
وأفادت تقارير سابقة بأن حميدتي يشعر بأن الإمارات قد ابتعدت عنه، وبدأ يبحث عن علاقات مع قطر وتركيا بعيداً عن الإمارات، كما بدأ يغازل الإسلاميين، والآن صمته قد يكون محاولة أيضاً لمغازلة الثوار، إضافة إلى تحالفه مع متمردي دارفور السابقين.
موقف الجيش من حميدتي
سبق أن نفت بيانات للجيش والدعم السريع وجود توتر بينهما، ويقول مصدر عسكري في تقرير سابق لـ”الجزيرة.نت” إن المنافسة بين الجيش والدعم السريع ترتبط بصراع نفوذ شخصي بين البرهان وحميدتي، وكل من الرجلين لديه حلفائه.
ويقول المصدر إنه من غير المتوقع حدوث نزاع مسلح بين قوات الجيش والدعم السريع، لكن إذا وقع فإن نتائجه ستكون كارثية.
وأوضح أن الجيش لن يستطيع حسم المواجهة مع قوات حميدتي سريعاً في حال نشوب قتال بينهما، لأنه حميدتي نسج تحالفات مع الحركات المسلحة، وبدأ يرسل إشارات لإعادة إنتاج الصراع التاريخي بين أولاد البحر “النيل” والغرب، موضحاً أن مسألة القضاء عسكرياً على جهة ما أصبحت من الماضي، لأن الحرب يمكن أن تحدد بدايتها لكن لن تقدر أن تحدد متى تنتهي.
وهناك تقارير عن عدم وجود إجماع داخل الجيش السوداني تجاه الأزمة الحالية.
وبصفة عامة يعتقد أن الجيش السوداني أصبح منهكاً بعد سنوات من الحروب الأهلية، كما أنه يعاني من نقص في المعدات العسكرية الحديثة، في ظل ضعف القدرات الاقتصادية للبلاد، وشبه الحصار الذي كانت تعاني منه.
والنتيجة عندما وقعت الثورة السودانية، أصبحت قوات الدعم السريع تمثل رقماً صعباً في المعادلة السياسية والأمنية في السودان، فهي القوة المنتشرة في العاصمة من خلال مئات الشاحنات الصغيرة والجنود المقاتلين ذوي الخبرة بأسلوب معارك العصابات وحروب الشوارع، وبخاصة أنها مازالت مرتبطة في المخيلة الشعبية بالرعب الذي مارسته قوات الجنجاويد في إقليم دارفور خلال الحرب.
خيارات قائد الدعم السريع
واليوم يأتي صمت حميدتي المريب إزاء التطورات في السودان، ليثير تساؤلاً، هل صمته نتيجة تهميشه من البرهان، وهو احتمال فرصه ضئيلة في ظل نفوذ قوات الدعم السريع وقدراتها العسكرية المتزايدة والموارد المالية وشبكة العلاقات التي تتوفر لحميدتي.
أم أن صمت حمدان هو تكتيك متعمد، يسعى عبره الفريق الذي كان راعياً للإبل إلى أن يجعل البرهان في الواجهة، فإن نجح في انقلابه، فإنه سيشاركه السلطة عبر قوات الدعم السريع، وإن فشل فإنه قد يقدم نفسه للمحتجين والمجتمع الدولي باعتباره الطرف العسكري العاقل والمنقذ الذي يحمي الثورة ويقود العملية الانتقالية، حتى ولو تم ذلك عبر تنصيب جنرال آخر كواجهة.
ويقول الناشط السوداني المنتصر أحمد إن حميدتي يعلم أنه “لن يستطيع أن يقود السودان بدون واجهة عسكرية تضمن له انقياد القوات المسلحة، بينما يعلم البرهان أنه لن يستطيع ضمان ولاء القوات المسلحة كلها دون ميليشيات دموية تخدمه”، فالبرهان يتبع استراتيجية عمر البشير الذي منح الضوء الأخضر لتحويل الميليشيات القبلية إلى “قوات دعم سريع” تعمل تحت إمرته.
ومن هنا يبدو أن التحالف بين البرهان وحميدتي قائم ولو على مضض، ولكن بالنسبة للبرهان بات لديه خيار واحد أن يفرض إرادته على الشعب السوداني ويمضي قدماً في قمع قوى الحرية والتغيير، وهو خيار يبدو ليس سهلاً في ضوء استمرار الاحتجاجات التي بات واضحاً أنها لن تتوقف إلا بحملة قمع مشددة قد تستدعي موقفاً دولياً صارماً، وهو موقف بدأ يتشكل بالفعل، وخاصة أنه من الواضح الغرب بدأ يضغط على الرعاة الإقليميين للعسكريين السودانيين السعودية ومصر والإمارات لرفع الدعم ولو كلامياً عن الانقلاب.
أما حميدتي فلديه خياران أن يبقى صامتاً ليتبين موازين القوى، فإن مالت للبرهان، فإنه ما زال شريكاً له، وإن مالت ضد البرهان فقد يستطيع أن يتبرأ منه ويزعم دعمه للديمقراطية أو حتى حماية المتظاهرين، والمشاركة في الإطاحة بالبرهان في تسوية دولية إقليمية تعيد إنتاج الشراكة العسكرية المدنية بواجهة عسكرية جديدة، مع زيادة شعبية حميدتي، بشكل قد يؤهله للفوز في أي انتخابات رئاسية قادمة.
وهو أمر لا يمكن استبعاده، ففي بلد كبير وريفي مثل السودان، فإن المظاهرات تحدث في الخرطوم والمدن الكبرى، ولكن نتائج الانتخابات تحسم في الأرياف والبوادي وعبر التحالفات والتفاهمات القبلية، وهي ميزة تتوفر لحميدتي أكثر بكثير من القوى المدنية التي يقودها اليسار النخبوي بطبيعته.
ففي ظل امتلاكه للمال والسلاح والعلاقات الوثيقة مع جزء من منافسيه السابقين في دارفور، وعلاقات محتملة مع التمرد المحلي في شرق السودان، إضافة إلى ضعف الحزبين التقليديين في البلاد الأمة والاتحاد وتهميش الإسلاميين وتحميلهم إرث نظام البشير، فقد يكون لحميدتي فرصة قوية لإقامة تحالفات قبلية في الريف السوداني، وخاصة أن هناك حديثاً عن أنه نتيجة الهجرة الكبيرة من الوسط والشمال السوداني خلال عهد البشير، فلقد انتقل الثقل السكاني من منطقة الوسط والشمال إلى الغرب السوداني الذي ينتمي إليه حميدتي ويراهن عليه.
تكرار ما فعله مع البشير والبحث عن برهان
هذا السيناريو يزيد من فرصه تاريخ حميدتي مع البشير، فالبشير هو الذي رفع الرجل من تاجر إبل مسلح يقود ميليشيات قبلية شبه خارجة عن القانون إلى جنرال مرموق، حتى يقال إن البشير كان يد لله بـ”حمايتي” على وزن حميدتي بمعنى “الذي يحميني”، خاصة بعد دوره في إفشال هجوم متمردي دارفور المفاجئ على أم درمان، وبعد أن تمرد حميدتي على عمه زعيم الجنجاويد موسى هلال.
جعل البشير قوات الدعم السريع مستقلة عن الجيش، أو بالأحرى أصبحت مفضلة عن الجيش.
ولكن حميدتي كان من أوائل من انقلبوا على البشير، ثم فعل الأمر ذاته مع وزير دفاعه عوض بن عوف.
ومثلما قال حميدتي إنه “أبلغ البشير أثناء الثورة عندما طلب التدخل ضد الثوار أن قواتنا موجودة لحماية المواطنين والثوار”، فإنه قد يفعل الأمر ذاته مع البرهان.
يظل هناك جزء غامض في المنافسة المحتملة بين البرهان وحميدتي، وهي علاقة حميدتي بجنرالات الجيش الساخطين أو المستعدين للتمرد على البرهان، فرغم أنه يمكن أن يفترض أن الجيش برمته غير مرتاح لتصاعد دور قوات الدعم السريع ذات الأصل الميليشياوتي، ولكن لا يمكن استبعاد أن حميدتي عبر شبكة علاقاته وموارده قد نسج تحالفات سرية مع بعض القادة غير المؤدلجين بالجيش السوداني، وأن هذه العلاقات قد تنتظر اللحظة المناسبة للانقلاب على البرهان مثلما فعل الأخير مع قادته السابقين.
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن رآي الموقع