السياسية – رصد

بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، قام الإنتربول بتوسيع ونشر الإشعارات الحمراء لدعم تطبيق القانون على الصعيد العالمي. واليوم ، فتح هذا القرار الباب أمام الإساءات من جانب الحكومات الاستبدادية/AP

ظهرت فكرة إنشاء “منظمة الشرطة الجنائية الدولية” أو “الإنتربول” لأول مرة في عام 1914، وتأسست المنظمة بالفعل عام 1923، وكان الدافع الأكبر لإنشائها آنذاك هو منع ارتكاب الناس لجرائم في بلد ما ثم الإفلات من العقاب بالفرار إلى بلد آخر، لكن سرعان ما أصبحت هذه المنظمة أداة في يد الأنظمة الاستبدادية، حين تضع أسماء بعض مواطنيها المعارضة على قوائم المنظمة بتهم أغلبها واهية.

وبحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، فإن للمنظمة تاريخاً طويلاً مع الاستغلال السيئ لها من الأنظمة القمعية، وأبرز الأمثلة على ذلك سيطرة النازيين على المنظمة في عام 1938، والإطاحة برئيسها، ثم إحكام السيطرة عليها في عام 1942 ونقل مقرها إلى برلين. وقتها، انسحبت معظم الدول ولم تتمكن المنظمة من إعادة وجودها الدولي إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

تتعاون الدول الأعضاء البالغ عددها 194 دولة في عمليات البحث عن مجرمي الحرب وزعماء عصابات المخدرات والاتجار بالبشر الذين تهربوا من العدالة لعقود. وعادة ما يُنظر إلى نشرات المنظمة الحمراء على أنها أداة حيوية وأقرب ما تكون إلى أمر اعتقال دولي، فهي تستخدم لتعيين مكان الآلاف من الهاربين كل عام.

تضمنت قوائم النشرات الحمراء شخصيات عديدة معروفة، مثل أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة السابق، والساعدي القذافي نجلي الديكتاتور الليبي السابق. ولما بات المجرمون يتحركون في عالم يزداد ترابطاً وتنتقل فيه عدوى الحوادث الإرهابية، شاع الاعتماد على نظام الإنتربول شيوعاً كبيراً في السنوات الأخيرة. ففي العقدين الماضيين، زاد عدد النشرات الحمراء بنحو 10 أضعاف، من قرابة 1200 نشرة حمراء في عام 2000 إلى ما يقرب من 12000 نشرة في العام الماضي. (كما أن هناك أنواعاً أخرى من إشعارات الإنتربول، مثل اللون الأصفر للأطفال المفقودين، واللون الأسود للجثامين  مجهولة الهوية).

ومع هذه الزيادة في قوائم المطلوبين، يقول خبراء قانونيون دوليون إن ظاهرة مقلقة بدأت في الظهور، وهي استغلال البلدان للإنتربول في تحقيق مكاسب سياسية أو للانتقام، بتسخيرِ إجراءاته لاستهداف مواطنين في الخارج، سواء أكانوا منافسين سياسيين أو معارضين أو نشطاء أو لاجئين.

لا يُعرف على وجه التحديد كم نشرة من نحو 66 ألف نشرة حمراء مفعلَّة حالياً لدى الإنتربول يمكن أن تكون مستندة إلى تهم ذات دوافع سياسية. فالإنتربول لا يصدر بيانات عن عدد الإشعارات الحمراء التي يرفض إصدارها. لكن عدداً من التقارير، ومنها تقارير للكونغرس الأمريكي والبرلمان الأوروبي وأكاديميين، وثَّقت إساءة استعمال الإنتربول في السنوات الأخيرة.

يشكل السعي للتلاعب بالإنتربول سمةً من سمات القمع العابر للحدود، حيث تستغله بعض البلدان لتوسيع نطاق وصولها إلى الخارج لإسكات المعارضين أو استهدافهم. وتتفاوت الأساليب، من الاغتيالات والتسمم وتقطيع الأوصال إلى الابتزاز والتجسس على هواتف المواطنين في الخارج وتهديد العائلات التي تُركت في الداخل. قد تختلف الأساليب، لكنها جميعها يهدف إلى إرسال رسالة تهديد متماثلة في عصر حرية الحركة العالمية: حتى لو غادرت بلدك، يمكننا معاقبتك في أي مكان.

انتقد نشطاء معارضون ومنظمات عالمية بشدةٍ إقدامَ الإنتربول في وقت سابق من هذا الشهر على السماح بعودة النظام السوري إلى شبكة الاتصالات الخاصة به. وقال أنس العبدة، رئيس الهيئة التفاوضية للمعارضة السورية، إن قرار الإنتربول منح نظام بشار الأسد وسيلة الوصول إلى البيانات اللازمة لشن حرب أخرى على الشعب السوري.

وفي معرض التعليق على القرار، قال توبي كادمان، وهو محامٍ بريطاني يعمل في محاكمات جرائم الحرب المتعلقة بسوريا: “إن القواعد المنظمة للإنتربول مبهمة، ولا يوجد عليه إشراف حقيقي أو مساءلة، وكثيراً ما تستغله دول مثل سوريا أسوأ استغلال”.

وأضاف كادمان: “يسهل جداً على الدول استصدار النشرات الحمراء، فهي لا تحتاج إلى تقديم كثير من المعلومات، لا سيما مع ما يعانيه الإنتربول من نقص في التمويل والموظفين”، وفي المقابل، يلفت كادمان إلى أن “إجراءات رفع النشرة الحمراء عن أي شخص، حتى في الدول الأوروبية مثل المملكة المتحدة أو هولندا، عادةً ما تكون بطيئة وشاقة”.

عرب تعرضوا للاعتقال بتهم سياسية

بالإضافة إلى ذلك، يختلف التعامل مع النشرات الحمراء بين الدول اختلافاً كبيراً، فبعض الدول تنظر إلى النشرات الحمراء على أنها نظام تنبيه، فيما تتعامل معها دول أخرى على أنها أوامر اعتقال أو حبس أو تعاون مباشر في إجراءات تسليم لمجرمين ضدهم. تتضمن الإجراءات أيضاً تجميد أصول الأشخاص، ومصادرة جوازات سفرهم وتقييد تحركاتهم، علاوة على الإضرار بسمعتهم بسبب تصنيفهم على أنهم مجرمون دوليون.

بعض الأشخاص لم يعرفوا أنهم مطلوبون لدى الإنتربول إلا عندما كانوا يعبرون الحدود في محاولة عادية منهم للسفر إلى الخارج. ومن هؤلاء تأتي حالة حكيم العريبي، وهو لاعب كرة قدم بحريني كان يعيش لاجئاً سياسياً في أستراليا. في عام 2018، كان العريبي يقضي شهر العسل في تايلاند، عندما فوجئ باعتقاله هو وزوجته لأن البحرين استصدرت نشرة حمراء من الإنتربول بناء على اتهامات بالتخريب. (كان العريبي هرب من بلاده بعد اعتقاله في بلاده هو ورياضيين آخرين على إثر مشاركتهم في احتجاجات مطالبة بالديمقراطية وتعرضهم للضرب والتعذيب أثناء احتجازهم).

ألغى الإنتربول النشرةَ الحمراء بعدما أبلغته أستراليا بأن العريبي يعيش لاجئاً في أستراليا، لكن ذلك لم يمنع قضاء العريبي 76 يوماً في السجون التايلاندية بناء على النشرة الباطلة بحقه. وقضية العريبي هي واحدة من عدة قضايا أثارت احتجاجات واسعة النطاق في السنوات الأخيرة.

وقبل 3 أشهر فحسب، اعتقلت السلطات المغربية الناشط الأويغوري يديريسي عيشان، بعد أن استصدرت الصين نشرة لتسليمه، ومع أن الإنتربول ألغى لاحقاً النشرة الحمراء الصادرة بحقه بعد المراجعة، فإن عيشان لا يزال يواجه خطر الترحيل إلى الصين.

كيف يمكن أن تتفادى المنظمة حيل الأنظمة الاستبدادية؟

تقتضي القواعد الحاكمة للإنتربول أو ما يُعرف بـ”دستور الإنتربول” منعَ استخدام المنظمة في خدمة الأغراض السياسية، وقد أعلنت المنظمة في عام 2015 إلغاء النشرة الحمراء لأي شخص يُعترف به لاجئاً في بلد من البلدان. كما يُفترض أن عمل المنظمة يخضع لمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يطالب بالمحاكمة العادلة وحرية التعبير ويحظر الاعتقالات التعسفية. إن كانت المنظمة لديها كل هذه الضمانات الواضحة بحسب ما يبدو، فما الذي يحدث إذن؟

يقع استبعاد الطلبات المشكوك فيها بشأن الاعتقالات الدولية على عاتق فريقٍ متخصص في مقر الإنتربول في ليون، والذي تشكَّل في عام 2016.

على الرغم من تدخلات المنظمة لوقف بعض الإشعارات ذات الدوافع السياسية في السنوات الأخيرة، فإن بعض المنتقدين أعربوا عن خشيتهم من أن الإنتربول يتعامل في كثير من الأحيان باعتقاد ساذج مفاده أن دولَه الأعضاء تعمل بنيةٍ حسنة وتزوده بمعلومات دقيقة.

على النقيض، يسهل على الدول صياغة طلبات اعتقال مضللة لاتهام الأشخاص، ومن أسهلها الاتهامات بارتكاب جرائم مالية، ففي حين تتطلب تهم القتل العمد دليلاً على جثة المقتول وقد تخرق التهم السياسية قواعد الإنتربول، فإن إستلوند تقول: “يسهل جداً تلفيق المعلومات أو التلاعب بها لاتهام شخص ما بالاحتيال المالي  أو الاختلاس أو الإثراء بلا سبب”، وعندما تنظر في مضمون النشرة الحمراء، غالباً ما تجد أن التهم لا أساس لها.

أعلن الإنتربول في نوفمبر أن كيم جونج يانج من كوريا الجنوبية قد تم انتخابه رئيسًا جديدًا لهزيمة مسؤول روسي أثار ترشيحه دولًا غربية/ AFP

هذه الحالة تنطبق بالتحديد على وزير الدولة للشؤون القانونية المصري الأسبق محمد محسوب الذي مازال اسمه في قائمة الانتربول بتهم لها علاقة بالاحتيال المالي على الرغم من نفي الرجل لهذه التهم، خاصة أن السلطات المصرية تشن حملة منظمة على المعارضين السياسيين، وخاصة أولئك الذين ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين أو الذين عملوا مع الرئيس الراحل محمد مرسي، عقب الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013

أبدى الأمين العام للإنتربول على مدى السنوات السبع الماضية، يورغن شتوك، استيعاباً غير متوقع للمخاطر التي تهدد مصداقية الإنتربول بسبب النشرات المفتقرة إلى الموثوقية. وأشار إلى استيائه في كثير من الأحيان عندما يكتشف من الصحف، وليس من منظمته، أن طلبات اعتقال خاطئة وقعت، وعلى رأسها تلك المتعلقة باللاجئين. ويقول إن الدول لا تخطر دائماً الإنتربول بشأن وضع الأشخاص اللاجئين، والذي يعتبره “مسؤولية مشتركة”.

لا يعطي ستوك أرقاماً محددة حول المخالفات المتعلقة بإساءة استغلال نشرات الإنتربول ضد معارضين سياسيين أو لاجئين، لكنه يصر على أن هذه النشرات لا تشكِّل إلا “عدداً صغيراً من الحالات” في مقابل “الأغلبية الساحقة” من النشرات السليمة قانونياً. ومع ذلك، فحتى تقديره التقريبي الذي يقول إنه نسبة النشرات غير السليمة لا تتجاوز 5% كل عام، حتى ذلك الرقم يعني مئات من طلبات الاعتقال التي يحتمل أن تكون جائرة.

في فترة رئاسة ستوك للمنظمة، عزز الإنتربول هيئته الرقابية أو ما يُعرف بـ”لجنة الرقابة على محفوظات الإنتربول” (CCF)، وهي المسؤولة عن مراجعة الطعون ويمكنها إلغاء النشرات الحمراء، كما تنشر القرارات المتعلقة بالشكاوى. تتكون اللجنة من 8 متخصصين يجتمعون عادة كل بضعة أشهر. وفي عام 2018، وهو آخر عام تتوفر البيانات الخاصة به، قضت اللجنة بأن 48% من 346 حالة شكوى رُفعت إليها انطوت بالفعل على انتهاكات لقواعد الإنتربول.

كما حدث مع العالم الديني المصري يوسف القرضاوي (المقيم في قطر)، الذي كانت السلطات المصرية تضع اسمه في قائمة الإنتربول قبل أن يتم رفعها قبل عدة أعوام بسبب الأخطاء التي جاءت فيها ولأنها تدخل في إطار الخصومة السياسية.

يخضع الإنتربول في نهاية المطاف لأعضائه، ويشمل ذلك البلدات التي قد تسعى للتلاعب بالمنظمة. وفي الشهر المقبل، سيجتمع ممثلو الدول الأعضاء في إسطنبول لانتخاب الرئيس المقبل للمنظمة. ويبرز من بين المتنافسين على المنصب، ويقال إنه المرشح الأوفر حظاً، مرشح مثير للجدل: أحمد ناصر الريسي، وهو مسؤول أمني إماراتي بارز وعضو في اللجنة التنفيذية للإنتربول.

يواجه الريسي اتهامات من منظمات حقوق إنسان ومحامين بالإشراف على جهاز أمن الدولة سيئ السمعة في الإمارات، ومزاعم بسجن معارضين وإساءة استغلال النشرات الحمراء للإنتربول. وكان تقرير صدر في وقت سابق من هذا العام لمجموعةٍ من مستشاري حقوق الإنسان الدوليين وصياغة القاضي البريطاني السابق ديفيد كالفيرت سميث، خلص إلى أن  “الأمر في تولي شخص إماراتي  لرئاسة الإنتربول لا يقتصر على ما سيؤولُ إليه ذلك من تبييض لسجل [الإمارات] في مجال حقوق الإنسان وإجازةً لمنظومتها العدلية، بل يزيد على ذلك أن اللواء الريسي خاصةً غير مناسب لهذا المنصب، فهو يترأس منظومة العدالة الجنائية في الإمارات وأشرف على حملات قمع شديدة ضد المعارضة، وعمليات تعذيب مستمرة، وانتهاكات لا تتوقف في نظام العدالة الجنائية لبلاده بأكمله  .

 

المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من عربي بوست