السياسية – رصد :

كانت أحداث الطيونة بمثابة بروفة مثيرة للرعب للحرب الأهلية اللبنانية، فلقد وقعت في نفس أماكن خطوط التماس التي كانت ساحات قديمة لمعارك هذه الحرب، كما شهدت سقوط عدد كبير من الضحايا في صفوف حزب الله الطرف الأقوى في لبنان، ولكن الغريب أنه تجاوز إلى حد ما عما حدث.

وأفضت الاشتباكات التي وقعت خلال ما يعرف بـ”أحداث الطيونة” عن سقوط 7 قتلى وأكثر من 30 جريحاً من مناصري ومحازبي “الثنائي الشيعي”، حركة “أمل” و”حزب الله”، نتيجة احتكاك تظاهرة دعا إليها التنظيمان ضد المحقق العدلي في الجريمة القاضي طارق بيطار، مع شباب أحياء مسيحية دخلوا إليها، وبينهم مناصرون لحزب “القوات اللبنانية” وأحزاب مسيحية أخرى.

وجاءت المواجهات المسلحة التي وقعت الأسبوع الماضي التي يتهم حزب الله حزب القوات اللبنانية المسيحي بالمسؤولية عنها لتصرفَ أي أملٍ في حدوث تحول في أزمة البلاد المفلسة، إذ بدا أن لبنان في طريق الانحدار إلى أزمة جديدة، ربما تكون أعمق وأشد وطأة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.

هل تؤدي أحداث الطيونة إلى حرب أهلية جديدة؟

لا أحد يتوقع حرباً أهلية صريحة من نوع الحرب التي اكتسحت البلاد من 1975 إلى 1990. فحزب الله المدعوم من إيران هو أرسخ قوة سياسية وعسكرية في البلاد، والفصيل الوحيد الذي يمتلك ميليشيا جيدة التسليح ومخزونات ضخمة من الأسلحة تجعله أقوى حتى من الجيش اللبناني. لكن التصعيد أشعل مخاوف من أن الصراع الأهلي والطائفي المتأجج سيؤدي إلى تسويف لا نهائي لأي بحث عن حل للعديد من المشكلات الأخرى التي يواجهها لبنان.

الشوارع تبدو هادئة الآن، لكن التوترات مستمرة. وتعهد قيادي بارز بحزب الله الذي أقام جنازة لاثنين من أعضائه الذين قُتلوا في اشتباكات يوم الخميس، بأن دماءهم لن “تُترك لتذهب هدراً، إلا أنه قال إن الحزب لن يتورط في حرب أهلية ردا على أحداث الطيونة”.

في المقابل، اتهم حزب القوات اللبنانية حزبَ الله بالسعي إلى فرض إرادته على البلد بأكمله، وأنذر بأنه سيتصدى لأي محاولة اقتحام للمناطق المسيحية من أنصار الجماعة الشيعية.

ونقلت صحيفة  The Washington Post عن سيدة، تُدعى سعاد وتعيش في منطقة  الطيونة المسيحية التي دارت فيها الاشتباكات، أن أنصار القوات أقاموا دوريات تطوف الأحياء المسيحية الواقعة في محيط الاشتباكات.

وأشارت إلى أن أنصار الحزب “جاهزون ومستعدون لمواجهة أي محاولة لدخول المنطقة. وهم يحملون العصي وليس البنادق. فالبنادق مخبأة في الانتظار”.

أحداث الطيونة

كان الدافع المباشر لهذه الأزمة الأخيرة هو دعوة أطلقها في وقت سابق من هذا الأسبوع زعيمُ حزب الله، حسن نصر الله لإقالة طارق البيطار، القاضي المسؤول عن التحقيق في انفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص العام الماضي.

وتقدم محامو الوزراء الذين ادعى عليهم بيطار، بدعاوى تطلب كف يده عن تولي التحقيق في انفجار المرفأ، إلى محكمة التمييز الجزائية مرتين، ولم تتجاوب الأخيرة مع دعواهم، رأت مصادر قانونية أن الهدف من وراء تكرار الدعاوى كان إضاعة الوقت حتى يحل تاريخ 19 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، حين يعود البرلمان إلى دور انعقاد عادي يسترجع خلاله النواب، الوزراء السابقون المدعى عليهم، حصانتهم الدستورية، ما يجعل أمر تحقيق البيطار معهم غير قانوني لأنه يجب محاكمتهم عبر محكمة الوزراء التي تشكل من البرلمان والمجلس العدلي.

والأصول القانونية تقضي بتعليق التحقيق ريثما تبت محكمة التمييز الدعاوى؛ وهذا يتطلب يومين أو ثلاثة، لكن المحكمة عمدت إلى رفض الطلب الثاني لكف يد المحقق العدلي في أقل من 24 ساعة، بعد أن كان بيطار أصدر مذكرة توقيف بحق معاون رئيس البرلمان نبيه بري، النائب علي حسن خليل.

وعند كل مرة جرى فيها تقديم دعاوى كف يد بيطار، تؤدي إلى تجميد تحقيقاته إلى حين البت بتلك الدعاوى، كانت تصدر بيانات متلاحقة من الخارجية الأمريكية والخارجية الفرنسية، والاتحاد الأوروبي والأمانة العامة للأمم المتحدة وسفارات بعض الدول الغربية في بيروت، تعبر عن القلق من تجميد التحقيق، وتدعو إلى استمراريته على أن يكون “مستقلاً” وبعيداً عن التدخلات السياسية، حسبما ورد في تقرير لموقع “إندبندنت عربية”.

وفي كل مرة كان نائب أو أكثر من الحزب يرد على هذه التعليقات معتبراً إياها تدخلاً في القضاء اللبناني ومحاولةً لإملاء التوجهات عليه، فيما كان الجيش الإلكتروني للحزب يشن هجوماً على الفرقاء المحليين المعترضين على تأخير التحقيق ورافضي التشكيك بعمل القاضي. واعتمدت هذه الحملات مقولة “المؤامرة التي تستهدف المقاومة في مواجهة إسرائيل”.

انقسام حول تحقيق البيطار.. من معه ومن ضده

المخاطر التي ينطوي عليها استفحال الأزمة أكبر بكثير من مصير قاضٍ أو اختلاف على بقائه في منصبه، حسب تقرير صحيفة The Washington Post.

فقد انقسمت البلاد الآن بين مسيحيين يؤيدون استمرار تحقيقات القاضي وبين شيعة يدعمون دعوات حزب الله لإقالته. وتخاطر هذه الانقسامات بإشعال خطوط الصدع الطائفي التي تتقاطع في الشوارع والأحياء والحكومة.

فحزب الله وحركة أمل يرفضان المسار الذي يسلكه بيطار، فيما تؤيده وترفض التدخل في عمله، الأحزاب المسيحية التقليدية، إضافة إلى لجنة أهالي ضحايا انفجار المرفأ الـ209 والجرحى الـ3 آلاف، ومجموعات من انتفاضة 17 تشرين من اليمين واليسار، ساندت تحركات الأهالي في الشارع دعماً لبيطار. هذا فضلاً عن استنكار البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي الحملات على المحقق بيطار، وكذلك مطران بيروت للروم الأرثوذكس الياس عودة، حيث إن هناك شعوراً لدى المسيحيين أن الانفجار استهدفهم.

كما انعكس الانقسام على علاقة الحليفين أي “حزب الله” والرئيس عون في جلسة مجلس الوزراء، التي ألح خلالها “الثنائي الشيعي” على إقالة بيطار بلهجة حادة ونبرة عالية، ما دفع الأول إلى رفع الجلسة غاضباً>

اللافت أن مفتي الجمهورية “مفتي السنة” كان له موقف متشدد إزاء ادعاء بيطار على رئيس الحكومة السني حسان دياب رافضاً ملاحقته وداعياً، مثل الموقف الشيعي، إلى إحالة الأمر إلى البرلمان، وفق ما ينص عليه الدستور. وبدا أن هناك انقساماً مسيحياً إسلامياً حيال القضية. لكن تيار “المستقبل” الذي سلك طريقاً مختلفاً بالاعتراض على أسلوب بيطار، يقضي بتعديل الدستور لتعليق الحصانات من رئيس الجمهورية إلى أصغر موظف، فقد بقي اعتراضه منخفض النبرة، فيما أيّد “الحزب التقدمي الاشتراكي” استمرار تحقيقات بيطار من دون المشاركة في حملات إدانة المعترضين على سلوكه، مراعاة لحليفه رئيس البرلمان نبيه بري. والموقفان السني والدرزي حالا دون أن يكون الانقسام إسلامياً – مسيحياً.

ملابسات غامضة في أحداث الطيونة

وفي ظل هذا الانقسام، الذي بدا مسيحياً شيعياً إلى حد كبير، نظَّم مسلحون من أنصار حزب الله وحركة أمل الشيعية المتحالفة معه مسيرةً لدعم مطلب نصر الله، متوجهة للمحكمة التي تنظر القضية، وعندما اقترب المتظاهرون من إحدى المناطق المسيحية أطلق قناص واحد على الأقل النار عليهم. وأدى ذلك إلى إطلاق وابل من النيران على المتظاهرين الذين حاولوا اقتحام أحياء مسيحية قريبة.

ويبدو أن تزايد قوة ونفوذ حزب الله، خلق رد فعل في الوسط المسيحي شجع على التسلح من قبل شباب الأحياء ومناصري حزب “القوات اللبنانية” وغيره، حسب تقرير موقع “إندبندنت عربية”.

ويقول التقرير: “كان واضحاً من صور وفيديوهات جرى تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي عند حصول الصدام المسلح، أن مناصري “الثنائي الشيعي” الذين تظاهروا في اتجاه قصر العدل ضد القاضي بيطار، كانوا مسلحين، وحين دخلوا منطقة عين الرمانة القريبة كان بعضهم يحمل السلاح جهاراً، فيما كان مسلحون مسيحيون حزبيون وغير حزبيين احتاطوا لذلك واشتبكوا معهم، وهذا ما فاقم الفصل الدموي الذي شهدته العاصمة اللبنانية”.

وتردد أن سبب حمل المتظاهرين الشيعة السلاح هو أن الخطة كانت تقضي بنصب الخيام أمام مدخل قصر العدل لمنع دخول القاضي بيطار إليه، وأن السلاح كان لحماية المعتصمين في الخيم.

من جانبه، نفى حزب القوات اللبنانية، وهو فصيل سابق في الحرب الأهلية اُتهم بمجموعة من أبشع جرائم الحرب الأهلية، وأصبح الآن حزباً سياسياً، اتهامات حزب الله بأن القوات هي المسؤولة عن إطلاق النار خلال أحداث الطيونة، لكنه قال أيضاً إن المسيحيين يحق لهم الدفاع عن أنفسهم ضد التوغلات في المناطق المسيحية.

يقول خلدون الشريف، وهو محلل سياسي لبناني: “رُسم خط أحمر بين المناطق المسيحية والمناطق الأخرى، وإذا لم تعمد [جميع الأطراف] إلى التهدئة، فلن يؤول ذلك إلى استقرار الأمور. وفي أي لحظة قد يندلع اشتباك آخر في أي منطقة مختلطة”.

ومع ذلك، لفت الشريف إلى أنه حتى مع احتواء العنف، فإن الساحة قابلة الآن للانزلاق إلى فترة طويلة محتملة من الشلل السياسي.

هل يرضخ الرئيس عون لحزب الله؟

لا يزال حزب الله ثابتاً على مطلبه. وفي الوقت نفسه، يقف كل من الرئيس المسيحي ميشال عون  ورئيس الوزراء السني نجيب ميقاتي إلى جانب بيطار. وبدون حل وسط، لن تستطيع الحكومة أن تصل إلى أي اتفاق على الخطوات اللازمة لانتشال لبنان من بؤسه، ومنها الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي يطلبها صندوق النقد الدولي لتوفير التمويل الطارئ الذي يحتاج إليه لبنان بشدة.

ويقول نزار حسن، وهو أحد مقدمي بودكاست “السياسة اللبنانية”، إن السيناريو الآخر هو أن يرضخ الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي لدعوات حزب الله لإقالة البيطار، لكن هذا سيأتي بثمن باهظ. إذ يُحتمل أن تفقد الحكومة بعدها دعمَ الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين الآخرين، الذين أصروا على إجراء تحقيق نزيه في انفجار المرفأ.

ومع ذلك، فقد خلُص حسن إلى أن “الحكومة ستصبح عاجزة في كلا المسارين، إما لأن حزب الله في صراع معها وإما لأن الغرب في صراع معها. أي أن ميقاتي ليس لديه خيارات جيدة”.

لماذا يصر حزب الله على إقالة البيطار؟ يحمي نفسه أم يحمي النظام

يتساءل كثير من اللبنانيين عن سبب إصرار حزب الله على إقصاء البيطار، حتى مع ما ينطوي عليه الأمر من مخاطر باشتعال الصراع بينه وبين بقية الأطراف ذات الصلة.

تقول كيم غطاس، مؤلفة كتاب Black Wave الذي يدور حول التنافس الإقليمي بين إيران والسعودية، إن أحد الاحتمالات هو أن البيطار الذي لم يكشف عن نتائج تحقيقه بعد، ربما يكون قد كشف عن أدلة تربط حزب الله بشحنة نترات الأمونيوم التي انفجرت أو تتهمه بالإهمال لتركها دون رقابة لأكثر من 6 سنوات في المرفأ.

لكن من جهة أخرى، فإن حزب الله ربما يسعى إلى تقويض التحقيق بسبب ما يشكله من تهديد للنظام السياسي القائم برمته، والذي يحمي منذ عقود النخب القوية والفاسدة في البلاد، ومنها حزب الله، من أي تدقيق أو مساءلة، على حد قولها. وتشير كيم بذلك إلى أن محاولت البيطار لاستجواب كبار المسؤولين الحكوميين السابقين تشكل سابقة يمكن أن تفكك الحصانة التي تمتع بها السياسيون في لبنان منذ فترة طويلة.

ونقل تقرير  “إندبندنت عربية” عما وصفه بـ”معلومات أوساط سياسية” أن حزب الله يحضر لخوض معركة تثبيت نفوذه في الجيش وفي القضاء، لإضعاف النفوذ الأمريكي، ولا يكتفي بنفوذه على رئاسة الجمهورية. وتروج أوساط قيادية فيه لمعطيات تزعم أنها تشمل تعاوناً أمريكياً خليجياً مع بعض الأجهزة العسكرية، والقضائية بهدف إلصاق تهم بالحزب في انفجار المرفأ، لا يمكن أن يحتملها.

حزب الله والقوات اللبنانية مستفيدان من التوتر مع اقتراب الانتخابات

ويلفت مراقبون إلى أن الانتخابات البرلمانية المقررة في مطلع العام المقبل عاملٌ آخر يرجح ألا تنحسر هذه التوترات قريباً. وهو ما يشير إليه باسم صلوخ، خبير الشؤون اللبنانية وأستاذ مشارك في العلوم السياسية بمعهد الدوحة للدراسات العليا، الذي يقول إن حزب الله والقوات اللبناني كليهما يستفيد من تأجيج المشاعر الطائفية بين اللبنانيين الذين يشعرون بخيبة أمل عميقة حيال النظام السياسي الذي تسبب في انهيار اقتصاد البلاد وتحوُّلها إلى دولة فاشلة.

وقال صلوخ: “إنه وضع مربح لكلا الطرفين، لأنه يتيح لكل منهما حشد جماهيره ودفعها إلى الاصطفاف وراءه”.

كما أن استمرار الاضطرابات قد يؤدي أيضاً إلى تأجيل الانتخابات، ومن ثم إدامة المواجهة الحالية وإطالة أمد بقاء البرلمان الحالي، الذي يحظى فيه حزب الله وحلفاؤه بالأغلبية.

وقالت كيم غطاس إن التوترات الحالية لا يمكن أيضاً النظر إليها بمعزل عن التوترات الإقليمية بين الولايات المتحدة وإيران، و”يمكنك القول إن ما رأيناه في لبنان هو جزء من خطة إيران الإقليمية لزيادة الضغط على المجتمع الدولي للاستسلام” لمطالبها في مفاوضات الاتفاق النووي.

الحكومة ستكون هي الضحية

ومع المخاوف من بقاء الأمور معلقة بلا معالجات لتعذر بعضها، خصوصاً أن مطلب إقالة بيطار بات صعباً بسبب رفضه شخصياً التنحي، وبفضل رفض عون وميقاتي اتخاذ قرار من هذا النوع في الحكومة، فإن عمل الأخيرة سيخضع للتجميد إلى حين إيجاد المخارج للقضايا العالقة كلها.

يقول تقرير “إندبندنت عربية”: أمر واحد يتلاقى العديد من القيادات على التأكيد عليه حتى إشعار آخر، هو أن أحد أهم موانع اندلاع الحرب الأهلية أن الجيش اللبناني قادر على التدخل لوقف أي صدامات مسلحة حتى لو وجِد السلاح، فيما كان ممنوعاً عليه في عام 1975 أن يتدخل لوقف الحرب بحجة الخوف من انقسامه (بين مسلمين ومسيحيين)، الأمر الذي حصل لاحقاً مع اندلاع الحرب الأهلية، لأن الاقتتال الداخلي كان أقوى من الحفاظ على وحدته، فيما يغلب في الظروف الراهنة الإصرار على وحدته ودوره في حفظ الأمن على أي أمر عمليات بالحرب الأهلية.

اللافت أن حزب الله بعد سقوط كل هذا العدد من الضحايا يكتفي بالتصعيد الكلامي ضد حزب القوات اللبنانية  مثل الحديث عن ضرورة محاكمة قياداته، أو دفع حلفائه للمطالبة بحل القوات اللبنانية وهي اقتراحات مستبعدة، ولكن الحزب لم يعمد للتصعيد الميداني، فهل ابتعاده عن التصعيد في الشارع مرده خوفه من إضعاف مكانة حليفه المسيحي العماد ميشال عون أم خشيته من الحرب الأهلية، أم أنه استفاد مما حدث عبر شد العصب الشيعي مثلما استفادت القوات من اكتسابها الشعبية بعد أن جعلتها أحداث الطيونة حامية المسيحيين.

المصدر : عربي بوست