السودان على صفيح ساخن بين العسكر والمدنيين.. فهل أصبح الانتقال الديمقراطي على شفا الانهيار؟
السياسية – رصد :
تمر المرحلة الانتقالية في السودان بحالة من الغليان تزداد خطورتها كلما اقترب موعد تولِّي المدنيين رئاسة مجلس السيادة من العسكريين، وكشفت محاولة الانقلاب الفاشلة عن مدى عمق الشرخ بين “الشركاء”.
وشهدت الساعات التي أعقبت إحباط محاولة انقلاب فاشلة بدأت في وقت متأخر من مساء الإثنين 20 سبتمبر/أيلول وانتهت -إن جاز القول إنها انتهت- ظهر الثلاثاء، تبادلاً للاتهامات من جانب العسكريين، ممثلين في الفريق أول عبدالفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع، والمدنيين، ممثلين في قوى الحرية والتغيير ورئيس الحكومة عبدالله حمدوك.
تلك المحاولة الانقلابية كانت السادسة منذ الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، لكنها تقريباً المحاولة الأولى التي تأخذ هذا الشكل من حيث تحركات فعلية ووصول بعض ضباطها إلى مبنى الإذاعة لبث بيان “الانقلاب”، وتتركز مطالب المدنيين الآن على ضرورة المشاركة في “التحقيق” وكشف الحقائق كاملة أمام الشعب السوداني.
وكانت المؤشرات على الانقسام العنيف بين المكون العسكري والمكون المدني داخل السلطة الانتقالية في السودان ظاهرة للعيان منذ اللحظة الأولى لمحاولة الانقلاب التي تم إحباطها، وسط اتهامات مباشرة من بعض المحللين للقيادات العسكرية بوقوفهم وراء المحاولة، التي وصفها البعض بـ”بالون اختبار”.
وكان محمد الفكي سليمان، المتحدث باسم مجلس السيادة الحاكم في السودان، قد كتب على صفحته الرسمية في فيسبوك في وقت مبكر من صباح الثلاثاء قائلاً: “هبّوا للدفاع عن بلادكم وحماية الانتقال”، موجهاً النداء للشعب السوداني، قبل أن يعود بعد أقل من ساعة ويكتب تعليقاً آخر قال فيه: “الأمور تحت السيطرة والثورة منتصرة”.
والمؤشر الثاني على وجود صراعات عميقة خلف الكواليس يتمثل في أن الحديث عن احتمال وقوع محاولة انقلاب في السودان كان يتردد عبر مواقع التواصل الاجتماعي في البلاد منذ الأسبوع الماضي، لكن القوات المسلحة أصدرت بياناً نفت فيه بشكل قاطع تلك الأنباء، بل وهددت بملاحقة المروّجين لها.
وجاء في بيان القوات المسلحة السودانية، الذي نشرته على صفحتها الرسمية على فيسبوك: “تناقلت بعض الوسائط أخباراً مفبركة مفادها أن القوات المسلحة قد رصدت محاولة انقلابية أشارت فيها لضلوع بعض الجهات باستخدام عناصر داخل القوات المسلحة”.
وتابع البيان: “تؤكد قواتكم المسلحة نفيها القاطع لهذه الأخبار مع حرصها على استكمال التغيير وبلوغ ثورة ديسمبر المجيدة لغاياتها، وسيتم التعامل مع ما أثير وفقاً للقانون، وتنتهز (القوات المسلحة) السانحة لتجديد التزامها بحماية الوطن والفترة الانتقالية”.
وجاءت أحداث الثلاثاء، وصور المدرعات في نطاق مبنى الإذاعة ومقر قيادة الجيش، لتؤكد أن هناك بالفعل شيئاً ما يجري خلف الكواليس، ثم جاءت البيانات الرسمية من القوات المسلحة ومن الحكومة المدنية لتؤكد أن هناك بالفعل محاولة انقلاب تم التصدي لها، دون أن يظهر البرهان أو حميدتي في الصورة.
ثم جاء بيان رئيس الحكومة عبدالله حمدوك للشعب السوداني خالياً للمرة الأولى من التأكيد على “شراكة العسكريين والمدنيين” في السلطة الانتقالية، بينما وجّه الدعوة للسودانيين إلى “استخدام كافة الوسائل السلمية لتحصين العملية الديمقراطية وصولاً إلى الاستحقاقات الانتخابية”، مؤكداً أن “ما حدث لابد أن يكون درساً”، ومضيفاً: “نتخذ خطوات فورية لتأمين الانتقال الديمقراطي بالتعاون مع لجنة تفكيك النظام المعزول”.
كان بيان حمدوك مقتضباً، وسبقته تصريحات نُقلت عنه قال فيها “إنه اتصل بالبرهان (رئيس مجلس السيادة) وإن الأخير أكد له أن المحاولة الانقلابية من تدبير فلول النظام السابق”. وكان لافتاً تأكيد حمدوك على أن “المحاولة الانقلابية كانت تستهدف الثورة وما حققته من إنجازات للشعب السوداني”.
ويرى فريق من المحللين السودانيين أن ما حدث يظهر مدى الانقسام بين العسكريين والمدنيين في الحكومة الانتقالية الحالية، ويعكس أيضاً رغبة العسكريين أو جانب منهم على الأقل في العودة للحكم العسكري المباشر، مستغلين المشكلات المزمنة التي تعاني منها البلاد سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية.
ويرى أصحاب هذا الرأي أن ما حدث كان “بالون اختبار” الهدف منه قياس رد الفعل الشعبي على أي انقلاب عسكري يؤدي إلى الإطاحة بالحكومة الانتقالية الحالية، في محاولة لاستباق تسليم رئاسة مجلس السيادة للمدنيين، حيث ينص الاتفاق على أن يتولى عسكري (البرهان) رئاسة المجلس لمدة 21 شهراً ثم يتولى مدني الرئاسة لمدة 18 شهراً.
ثم جاء التعليق العلني الأول من البرهان ونائبه حميدتي، الأربعاء 22 سبتمبر/أيلول، على محاولة الانقلاب الفاشلة في صورة اتهامات مباشرة للسياسيين في البلاد (المدنيين) بأنهم “سبب الانقلابات العسكرية”، لتتضح الصورة أكثر وأكثر بشأن مدى عمق المأزق الذي تواجهه عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد وتفتح الباب على مصراعيه لجميع أنواع السيناريوهات، التي لا يبدو أي منها إيجابياً.
إذ قال حميدتي إن “أسباب الانقلابات العسكرية هم السياسيون الذين أهملوا خدمات المواطن وانشغلوا بالكراسي وتقسيم السلطة”، وأضاف: “دعمنا مبادرة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك للتوافق، لكنَّهم (السياسيين) مارسوا الإقصاء وكل طرف يحفر للآخر”.
كما قال نائب رئيس مجلس السيادة السوداني: “ينبغي أن نتواثق حول برنامج وطني ونترك أساليب التخوين”، فيما اعتبر أن “الأزمة في السودان لن تحل إلا عبر توحيد الكلمة والعمل بروح وطنية”.
أما البرهان فقد قال إنه “لن تستطيع أية جهة أن تبعد القوات النظامية من المشهد بالسودان خلال الفترة الانتقالية، لأنه ليس هناك حكومة منتخبة”، مضيفاً أن محاولة الانقلاب أجهضتها القوات المسلحة؛ لأننا مقتنعون بالتحول الديمقراطي، وكلنا نريد الدولة المدنية والديمقراطية التي تأتي عبر الانتخابات.
كما قال البرهان إن هناك من يسعى للجلوس على الكراسي ولم نرَ قوى سياسية تتحدث عن الانتخابات أو هموم المواطنين وحل مشاكلهم، وأضاف قائلاً: “هناك قوى سياسية تهاجمنا ولن نقبل بأن تتسلط علينا وتوجه لنا الإساءات، وواجبنا منع استئثار جهة سياسية واحدة بالسلطة خلال الفترة الانتقالية”.
وأشار رئيس مجلس السيادة إلى أن القوات النظامية تتعرض لحملة ممنهجة لن تتوقف، وهناك أقلام مأجورة بأموال من جهات خارجية تسيء لنا، وقال: “إن شعارات الثورة السودانية في الحرية والعدالة والسلام ضاعت وراحت تحت كراسي السلطة”.
القوى المدنية ترفض “شراكة الخنوع” مع العسكر
من جانبها، اعتبرت قوى إعلان الحرية والتغيير الخميس 23 سبتمبر/أيلول أن انتقادات كل من البرهان ونائبه حميدتي للقوى السياسية، تستهدف “النكوص عن التحول المدني الديمقراطي”، مشددة على أنها ستتصدى لذلك بـ”كل قوة وصرامة”.
وقالت اللجنة الإعلامية لقوى إعلان الحرية والتغيير، في بيان، إنه عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة صدرت ردود أفعال، بينها حديث رئيس مجلس السيادة ونائبه، حفلت بمغالطات واتهامات لا أساس لها من الصحة ضد قوى الحرية والتغيير.
ورأت أن “حديث رئيس مجلس السيادة الانتقالي ونائبه هو تهديد مباشر لمسار الانتقال الديمقراطي، ومحاولة لخلق شرخ بين قوى الثورة المدنية والجيش”.
كما رأت قوى التغيير أن حديث البرهان ونائبه يهدف إلى “تقويض الأسس التي قامت عليها المرحلة الانتقالية، التي لا تعرف إلا طريقاً واحداً هو التحول المدني الديمقراطي، الذي يريد رئيس مجلس السيادة ونائبه النكوص عنه، وهو ما لن نسمح به وسنتصدى له بكل قوة وصرامة”.
وأضافت أن أهم درس من المحاولة الانقلابية هو ضرورة الإسراع بإصلاح الأجهزة العسكرية والأمنية وتنقية صفوفها من فلول النظام السابق، في إشارة إلى الرئيس المعزول عمر البشير. وفي 11 أبريل/نيسان 2019، عزلت قيادة الجيش البشير من الرئاسة (1989-2019)؛ تحت ضغط احتجاجات شعبية مناهضة لحكمه.
وشددت قوى التغيير على أحقية الشعب في الاطلاع على نتائج التحقيق في المحاولة الانقلابية، وأن يُقدم من خطط ونفذ إلى المحاكمة العادلة والعلانية، وأن تشارك أجهزة الدولة المدنية في التحقيقات مع الأجهزة العسكرية.
بينما قال حمدوك في مقابلة مع صحيفة السوداني في وقت متأخر الأربعاء إنه لا عذر للانقلاب من أي طرف وإذا كان المواطنون غير راضين فإنهم عندئذ لن يقبلوا بانقلاب. وأضاف أن هذا النوع من الحديث مثير للدهشة، بحسب تقرير لرويترز.
ووصف خالد عمر يوسف، وهو سياسي مدني يعمل وزيراً لشؤون مجلس الوزراء، تعليقات قادة الجيش في مقابلة مع تلفزيون الجزيرة بأنها مثيرة للدهشة، وقال “ما ورد من تصريحات للعسكريين تهديد للتحول الديموقراطي.. بعض الجنرالات يقرأون من الكتاب القديم”، في إشارة إلى تاريخ الانقلابات العسكرية في السودان، والذي قال إن المواطنين لن يقبلوه.
وبعد محاولة الانقلاب جدد حمدوك الدعوة إلى إعادة هيكلة الجيش وإخضاع مصالحه التجارية للإشراف المدني، وهو مصدر رئيسي للخلاف، في كلمة لم يؤكد فيها على الوحدة بين الجيش والمدنيين مثلما كان يفعل من قبل. ودعت الأحزاب السياسية المواطنين إلى رفض الحكم العسكري وحماية الثورة.
وتواصلت ردود الأفعال المدنية الرافضة لتصريحات العسكريين (البرهان وحميدتي) ليؤكد تجمع المهنيين (مكون مدني آخر في السودان) رفضه التام “لشراكة الخنوع” مع العسكريين وأنه “حان وقت فض تلك الشراكة”، مما يثير التساؤلات بشأن كيفية كيفية إنهاء تلك الشراكة، خصوصاً أن تجمع المهنيين لا يشارك في الحكومة وفضل التواجد في صفوف المعارضة.
وردَّ البرهان برفضه مثل تلك البيانات واصفاً إياها بأنها غير مقبولة، وقال إن الجيش هو من يحمي الثورة ممن يريدون سرقتها، مضيفاً أن الجيش هو أكثر جهة مهتمة بالانتقال الديمقراطي والانتخابات المقرر عقدها في مطلع 2024، مكرراً اتهاماته للسياسيين المدنيين بأنهم مشغولون بالتناحر والصياح ويوجهون كافة سهامهم نحو الجيش.
الموقف الدولي من “انقلاب” السودان
لا يمكن بأي حال من الأحوال استبعاد تأثير المواقف الإقليمية والدولية مما يحدث في السودان على السيناريوهات المقبلة، وكان لافتاً أن غالبية تلك المواقف قد جاءت رافضة للانقلاب العسكري، رداً على محاولة الثلاثاء الفاشلة.
إذ ندَّد تجمع أصدقاء السودان، الذي يضم دولاً غربية عدة والسعودية والإمارات، بمحاولة الانقلاب في بيان دعم فيه “عملية انتقالية يقودها مدنيون”.
كما دعت الجزائر الاتحاد الإفريقي إلى التحرك لوقف موجة الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية وتعزيز إرساء الديمقراطية في دولها، وذلك في بيان لوزارة الخارجية تعقيباً على المحاولة الانقلابية الفاشلة في السودان.
وقال البيان إنه “في الوقت الذي اعتبرت فيه الشعوب الإفريقية أن عهد الانقلابات والتغييرات غير الدستورية قد ولَّى في القارة، شهد السودان الشقيق مؤخراً، محاولة انقلاب فاشلة تستنكرها وتدينها الجزائر بشدة”، وأضاف أن الجزائر تدعو رئيس الاتحاد الإفريقي، رئيس الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسيكيدي، إلى تكثيف الجهود من أجل تأكيد تعزيز عملية إرساء الديمقراطية في إفريقيا.
وحثَّ البيان على “تمسك الدول الأعضاء بالمبادئ الأساسية للاتحاد الإفريقي، لا سيما رفض أي تغيير غير دستوري للحكومات أو أي استيلاء على السلطة بالقوة لضمان احترام سيادة الدول واستقلالها وسلامتها الإقليمية ووحدتها الوطنية”.
والموقف نفسه صدر عن مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، ويرى كثير من المراقبين أن تلك المواقف الإقليمية والدولية الرافضة للانقلاب العسكري تقوي موقف المدنيين في السودان وتمثل عائقاً أمام العسكريين الطامحين إلى الانفراد بالسلطة.
لكن في ظل ظروف السودان الصعبة على المستوى الاقتصادي والاضطرابات الاجتماعية وسعي كثير من الأطراف لتحقيق مصالح خاصة بها، يزداد الموقف صعوبة ومن الصعب – إن لم يكن من المستحيل – توقع في أي اتجاه ستسير الأمور .