السياسية:

ما يحدث في أفغانستان الآن هو نتيجة حتمية تمخضت عن المفاوضات بين أمريكا وطالبان، وهي المفاوضات التي تفوقت بها طالبان، حسبما كتبت صحفية أمريكية مخضرمة في جريدة واشنطن بوست.

فلقد أثبت مفاوضو طالبان القادمون من الجبال أنهم أكثر كفاءة في التفاوض من دبلوماسيي وسياسيي أقوى دولة في العالم.

140 ألف جندي

في عام 2001، أجبر الناتو حركة طالبان على الخروج من كابول في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول على نيويورك وواشنطن.

ومع ذلك، بعد ما يقرب من عقدين من الزمان، عاد قادة الجماعة الإسلامية المسلحة إلى العاصمة الأفغانية، لالتقاط صور سيلفي في القصر الرئاسي، والدولة بأكملها تقريباً في قبضتهم.

ولعل الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن ما آلت إليه الأمور لم يكن نتيجة هزيمة عسكرية كارثية للولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، بل اتفاقية سلام جرى التفاوض عليها بعناية، حسب تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”.

وفي الوقت ذاته، لم تقترب الولايات المتحدة ولو قليلاً من تحقيق نصر عسكري على طالبان.

على الرغم من أن الجماعة، التي آوت مقاتلي القاعدة المسؤولين عن هجمات 11 سبتمبر/أيلول، تم طردها بسرعة من المدن بتدخل الناتو، إلا أنها أمضت عدة سنوات في إعادة تجميع صفوفها، وبحلول عام 2004 كانت في وضع يمكنها من شن هجمات ضد القوات الغربية والحكومة الأفغانية الجديدة.

ورداً على العدد المتزايد من الهجمات، قرر الرئيس الأمريكي الجديد حينها، باراك أوباما، إرسال “تعزيزات” في عام 2009 تُرجمت على شكل زيادة كبيرة في عدد قوات الناتو في البلاد، لتصل إلى 140 ألفاً في ذروتها.

وقد ساعد هذا في ردع وتراجع طالبان مرة أخرى، ولكن دون تأثير يذكر على المدى الطويل.

ونظراً لأن الصراع أصبح أطول حرب للولايات المتحدة، حيث كلف البلاد ما يقدر بنحو 978 مليار دولار ومقتل أكثر من 2300 شخص، شهدت شعبية هذا التدخل لدى الأمريكيين تراجعاً مستمراً وزادت الدعوات لإنهائه.

وبعد أن أصبح عدد الجنود الأمريكيين الذين يُقتلون سنوياً منخفضاً نسبياً، بعد انتقالهم رسمياً إلى دور التدريب والدعم للقوات الحكومية الأفغانية في عام 2014، قال الرئيس الأفغاني أشرف غني في عام 2019 إن “أكثر من 45 ألفاً من أفراد الأمن الأفغاني قد قدموا التضحية القصوى” في السنوات الخمس الماضية.

حوار غريب على هامش المفاوضات بين أمريكا وطالبان 

في اليوم الذي كان سيبدأ فيه مباحثات السلام مع إدارة ترامب خريف عام 2018، وجد المؤسس المشارك لحركة طالبان والقيادي البارز بالحركة عبدالغني برادر نفسه في فيلا فاخرة بأحد المنتجعات القطرية. وكانت نوافذه المكشوفة تطل على حوض السباحة، كانت ترقد به نساء يرتدين لباس السباحة “البكيني” في شمس الخليج.

لاحظ زلماي خليل زاد، الدبلوماسي الأمريكي أفغاني المولد الذي يتفاوض نيابة عن الإدارة الأمريكية، المشهد حين وصل لتحية برادر، الذي كان قد أُطلِقَ سراحه حديثاً بعد سنوات من السجن في باكستان. قال خليل زاد بخفة باللغة البشتوية التي يجيدانها إنَّه مشهد من الجنة.

سرعان ما سار برادر نحو النوافذ وأغلق الستائر. لقد حان وقت البدء.

وبعد أقل من 18 شهراً، وبعد ما وصفه الرئيس دونالد ترامب بـ”المفاوضات الناجحة للغاية”، أبرم برادر وخليل زاد اتفاقاً لإنهاء حرب العشرين عاماً في أفغانستان والانسحاب الكامل للقوات الأمريكية. وبعد سنة ونصف أخرى، وبموجب نفس الاتفاق لكن في وجود رئيس أمريكي مختلف، قامت آخر القوات الأمريكية بانسحابٍ متسرع فوضوي، تارِكةً طالبان لتولي المسؤولية الكاملة في البلاد.

لم تكن تلك هي النهاية التي أرادتها الولايات المتحدة. فراح اللوم في أعقابها يُتقَاذَف عبر خطوط الانتماءات الحزبية. فيتهم الديمقراطيون، والرئيس بايدن، ترامب بإلزامهم باتفاق سيئ. ويتهم الجمهوريون، وترامب، بايدن بتخريب الاتفاق والتعجل بالانسحاب. والحلفاء الدوليون مستاؤون، والخصوم يتفاخرون، ويشعر الكثير من الأفغان الموالين للغرب بأنَّهم تعرَّضوا للخيانة.

نهاية حتمية

يعتقد كثر آخرون أنَّ هذه النهاية كانت حتمية. فقال شخص في المنطقة على اطلاع وثيق بالمسألة: “سواء مدَّدنا الإطار الزمني أو ضغطناه، أعتقد أنَّ الاختلاف الوحيد كان سيتمثل في وتيرة الأحداث. كنا سنصل لنفس النتائج”، حسبما ورد في مقال لكارين دي يونغ مراسلة شؤون الأمن القومي لدى صحيفة The Washington Post الأمريكية.

وقال توماس روتيغ، وهو خبير ألماني في شؤون طالبان: “بالنسبة لي، ارتُكِبَت الأخطاء مبكراً للغاية، وعندما حاول الأمريكيون إيجاد حلول كانت الأمور قد خرجت عن سيطرة الأفغان”.

وأضاف روتيغ أنَّ طالبان كانت تعلم منذ وقتٍ طويل أنَّها تخوض لعبة انتظار كانت على الأرجح ستفوز بها. وتابع: “هؤلاء ليسوا أفغاناً خارقين”، سواء في ساحة المعركة أو على طاولة المفاوضات، “بل كانوا أكثر اتساقاً بكثير من كل الآخرين”، وقد فهموا السياسة الغربية والحاجة لـ”تحقيق” شيءٍ ما.

وقد منح هذا، وفقاً لروتيغ، طالبان ميزة كبيرة.

أمريكا احتاجت 10 سنوات لكي تكتشف أنها مضطرة للتفاوض مع طالبان والألمان سبقوهم

تطلَّب الأمر من الولايات المتحدة عقداً تقريباً منذ بداية الحرب عام 2001 لتستنتج أنَّ التوصل إلى نهاية تفاوضية لها أكثر احتمالاً من تحقيق انتصار عسكري. 

لكنَّ بعض حلفاء الولايات المتحدة فتحوا قنوات اتصال مبكرة مع طالبان. فساعدت الاستخبارات الألمانية، التي بدأت مباحثات أولية في 2005، الأمريكيين أخيراً على إقامة اتصالات بعد ذلك بخمس سنوات، حين التقى المسؤول بوزارة الخارجية الأمريكية فرانك روجيرو ومسؤول الاستخبارات الدفاعية بمجلس الأمن القومي جيف هايز مع المسلحين.

وحتى وهي تبدأ هذه الخطوات الصغيرة نحو المفاوضات، كانت إدارة أوباما قد تحرَّكت بالفعل لتوسيع انخراطها في الحرب نفسها. 

فبنهاية عام 2009، وبعد مراجعات داخلية مطولة، أعلن أوباما زيادة في القوات من شأنها أن تُوصِل عدد القوات الأمريكية الإجمالي إلى 100 ألف، بعدما كان يبلغ عددها عند بداية حكم الإدارة 36 ألفاً.

وتعهَّد أوباما بـ”إيصال هذه الحرب إلى خاتمة ناجحة” من خلال بناء القوات العسكرية لأفغانستان نفسها لتتولى مهمة القتال، وأن تدير حكومتها البلاد بفاعلية. وقال إنَّ الوجود الأمريكي الكبير لن يستمر إلى الأبد، وإنَّ الانسحابات الأمريكية ستبدأ في يوليو/تموز 2011 وستكتمل في 2014.

وطالبان أدركت أنهم منسحبون لا محالة

وكما هو الحال مع الكثير من هذه الإعلانات الأمريكية، كان لطالبان تفسيرها الخاص لما كان يعنيه الأمريكيون. قال روتيغ: “هذه زيادة (في القوات)، لكنَّنا نخبركم متى سنغادر. لقد ترجموا الأمر باعتباره ضعفاً”.

قدَّمت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون مزيداً من التفاصيل حول ما قالت إنَّها استراتيجية أوباما ذات الثلاثة محاور في خطابٍ لها في فبراير/شباط 2011.

من شأن توسيع الوجود العسكري الأمريكي سحق كلٍّ من إرهابيي تنظيم القاعدة الذين دبَّروا هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في أفغانستان، وحركة طالبان التي آوتهم. ومن شأن توسيع الحضور الحكومي المدني الأمريكي “تعزيز حكومتيّ واقتصاديّ والمجتمع المدني في كلٍ من أفغانستان وباكستان لتقويض قوة جذب التمرد”. وأضافت أيضاً أنَّه سيكون هناك “دفع دبلوماسي مكثف من أجل وضع حد للصراع الأفغاني”.

وقالت إنَّ الخيار واضح أمام طالبان: رفض القاعدة والإرهاب، أو “مواجهة التداعيات”.

وأضافت أنَّه على الرغم من أنَّ قطع العلاقات مع القاعدة يبقى هو النقطة الجوهرية للولايات المتحدة، لم تكن هناك شروط مسبقة لبدء البدلوماسية.

طالبان ترفض الحديث لحكومة الدمى

طُلِبَ من مارك غروسمان، وهو دبلوماسي أمريكي مخضرم كان قد ترك سلك الخارجية، العودة لقيادة المساعي الدبلوماسية. وبعد أسابيع من خطاب كلينتون، كان غروسمان في العاصمة القطرية، الدوحة، يصافح طيب آغا، رئيس الجناح السياسي لطالبان، والمساعد المقرب لزعيم طالبان المنعزل محمد عمر، ويجلس قبالته على الجهة الأخرى من الطاولة.

كان كلا الجانبين ينظران إلى قطر باعتبارها المكان الأمثل للمحادثات. وعلى الرغم من استضافتها للقاعدة الجوية الأمريكية الرئيسية في المنطقة، كان يُنظَر إليها أيضاً باعتبارها لا تملك مصلحة معينة في الصراع الأفغاني.

بدأ غروسمان بالتوضيح لآغا أنَّه ليس موجوداً هناك لإبرام سلام مع طالبان، بل لفتح الباب أمام مباحثات مباشرة بين المسلحين وحكومة الرئيس الأفغاني آنذاك، حامد كرزاي. وأشار آغا إلى أنَّ طالبان غير مهتمة بالتحدث إلى “الدمى” المدعومة أمريكياً في كابول.

وفي العموم، أراد المتمردون فتح مكتب سياسي في الدوحة يمكنهم منه الحديث مع المجتمع الدولي. وبالتحديد أكثر، أرادوا إطلاق سراح خمسة من كبار قادة طالبان السجناء لدى الجيش الأمريكي في معتقل خليج غوانتانامو في كوبا.

ومع أنَّ غروسمان حدد تسلسلاً للإجراءات المتبادلة، سرعان ما اختُصِرَت المباحثات في ما يشبه تبادلاً للأسرى. ففي مقابل الإفراج عن المعتقلين الخمسة في غوانتانامو، أراد الأمريكيون إطلاق سراح الجندي الأمريكي الوحيد في حوزة طالبان.

وبينما اقترب الجانبان من التوصل إلى اتفاق، انتهت المفاوضات فجأة بعدما طالب كرزاي في ديسمبر/كانون الأول 2011 بإنهائها بسبب غضبه من عدم إشراك حكومته فيها.

هدية لطالبان

أعقبت ذلك اتصالات غير مباشرة ومتقطعة بين الولايات المتحدة وطالبان، وطلب الأمريكيون من قطر في نهاية المطاف السماح لطالبان بإقامة مكتب أكثر ديمومة في الدوحة. 

ووافق كرزاي أخيراً، لكنَّه انفجر غضباً في اليوم الذي كان من المقرر افتتاح المكتب فيه في صيف 2013. إذ علَّقت الحركة لافتة ووضعوا على الحائط لوحة كُتِبَ عليها “إمارة أفغانستان الإسلامية”، حسبما ورد في مقال الصحفية الأمريكية.

سارع بعد ذلك وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري لنزع فتيل غضب كرزاي، وتدخَّل القطريون لدى طالبان، فأُزيلَت اللوحة وصدر بيان يقول إنَّ المكان سيُعرَف رسمياً باسم “المكتب السياسي لحركة طالبان الأفغانية” في الدولة الخليجية.

لكن لم تُبرَم صفقة لتبادل الأسرى أخيراً حتى ربيع عام 2014. وبموجب شروط الصفقة، نُقِلَ أعضاء طالبان الخمسة من غوانتانامو إلى عهدة القطريين.

وفي حين ظلَّت السياسة الأمريكية ذات المحاور الثلاثة سارية، لم تجرِ مباحثات تُذكَر بخلاف تبادل الأسرى بعدما اندلعت رحى الحرب بين طالبان والقوات الأمريكية المتزايدة، إلى جانب آلاف من قوات التحالف من حلف شمال الأطلسي “الناتو” وغيره. وفي ظل عدم تحقيق الكثير من ذلك المسعى، بدأ بعض الحلفاء ينسحبون، وبدأت إدارة أوباما، مثلما وعدت، تقليص الوجود الأمريكي وتسليم “العمليات القتالية” على الأرض إلى القوات الأفغانية المُدرَّبة والمُسلَّحة غربياً.

ثم جاء ترامب ليتعهد للأمريكيين بالانتصار

وبعد ستة أشهر من رئاسة ترامب، أعلن رؤيته للحرب. لن يكون هناك المزيد من “بناء الدول”، وهو المحور الثاني في استراتيجية كلينتون. بل أيَّد خطة لوزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” لتعزيز مستوى القوات مجدداً، على الرغم من تعهداته لسحب القوات الأمريكية خلال حملته الانتخابية. وقال إنَّ الأمريكيين “سيقاتلون لينتصروا”.

قال حمد الله محب، سفير أفغانستان لدى واشنطن في ظل الحكومة الأفغانية الجديدة للرئيس أشرف غني، إنَّ رسالة ترامب هي “بالضبط ما أردناه”. ومثلما فعل كرزاي، عارض غني أي مباحثات أمريكية مباشرة مع طالبان تستثني حكومته.

وحين تعرَّضت قطر لهجمات جاراتها الخليجيات، بقيادة حليفتيّ ترامب السعودية والإمارات، انضم ترامب إليهما في اتهام قطر بدعم الإرهاب الدولي، وأشار إلى مكتب طالبان في الدوحة الذي فُتح بمعرفة الأمريكيين باعتباره مثالاً على ذلك.

ولكن تزايد قوة طالبان أقنعه بضرورة التفاوض

لم يقتنع ترامب بحكمة المفاوضات حتى عام 2018، بعدما زادت قوة طالبان على الأرض بدل أن تضعف، وبات هدفه المتمثل بالانسحاب الكامل من أفغانستان أبعد من ذي قبل.

اتصل وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، مايك بومبيو، في صيف ذلك العام بخليل زاد، وهو سفير أمريكي سابق لدى أفغانستان والعراق والأمم المتحدة.

ووفقاً لمسؤولين أمريكيين في ذلك الوقت، أكَّد بومبيو أنَّ الرئيس قلق بشأن طريقة سير الأمور في أفغانستان، ويريد استئناف المفاوضات. شملت الأولويات التزام طالبان بقطع العلاقات مع تنظيم القاعدة، وبدء مباحثات سلام مع الحكومة الأفغانية، وبدء وقف لإطلاق النار.

لكن ما كان واضحاً جداً لخليل زاد هو أنَّ هدف ترامب الأساسي- الذي يتشاطره مع طالبان- هو سحب القوات الأمريكية.

اتفاق على الانسحاب قبل بدء التفاوض بين الحكومة وطالبان

وشمل الاتفاق الولايات المتحدة وطالبان فقط، فخلال جولات التفاوض رفضت طالبان إشراك الحكومة الأفغانية في عملية التفاوض، ومن ثم حاول أشرف غني عرقلة نتائج الاتفاق حيث أعلن في 1 مارس/آذار 2020 أنه غير ملتزم بهذه الاتفاقية، ورفض في البداية إطلاق سراح أسرى طالبان ثم استجاب للأمر الواقع وأفرج عن 4600 فقط من عناصر طالبان، حسب تقرير “بي بي سي”.

ولكن وفقاً للخطة التي تمخضت عن الاتفاق بين أمريكا وطالبان، فإن الحركة يجب أن تتفاوض مع الحكومة الأفغانية بعد ذلك لتحديد كيف ومن سيحكم البلاد في المستقبل.

لم يكن غني، الذي كان يعرف خليل زاد منذ كانا مراهقين وكان يشك بأنَّه يسعى للحصول على منصبه في السلطة بموطنهما، سعيداً بهذا التعيين أو بحقيقة أنَّ الحكومة الأفغانية ستبقى مجدداً خارج المحادثات. 

وقال للأمريكيين إنَّهم يراوحون مكانهم في المفاوضات وإنَّ ممثلي طالبان الذين التقوهم ليسوا ممثلين أبداً عن وسطاء السلطة الحقيقيين في الحركة، الموجودين في باكستان، وكان آغا قد استقال من منصب المحاور بعد خلاف فصائلي بين مسلحي الحركة في 2015 وما أُفِيدَ حينها بشأن مصرع الملا عمر، زعيم الحركة.

وقبل أن يبدأ خليل زاد، سافر هو وبومبيو إلى باكستان وطلبا إطلاق سراح برادر- الذي اعتُقِلَ هناك عام 2010 بطلب من كرزاي مثلما تفيد تقارير- وهو ما فعله أيضاً وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني. ووصل برادر إلى الدوحة في نوفمبر/تشرين الثاني  2018.

 وفي خطابه حول حالة الاتحاد أمام الكونغرس في فبراير/شباط التالي، قال ترامب إنَّ المفاوضات تتسارع، بعدما توصل خليل زاد وبرادر إلى اتفاق مبدئي على السحب التدريجي لكل القوات الأمريكية- التي كان يبلغ عددها في هذه المرحلة 14 ألفاً- في مقابل تعهُّد طالبان بعدم السماح للقاعدة أو الجماعات الإرهابية الأخرى بالعمل على الأراضي الأفغانية.

وأضاف: “الجانب الآخر أيضاً سعيد للغاية بالتفاوض”.

مفاوضات شاقة، إنهم يقرأون كل كلمة ويلقون خطباً عاطفية

كانت المحادثات في الدوحة شاقة. فقال أشخاص مطلعون على المحادثات إنَّ برادر وفريقه كان يلقون مراراً خطابات طويلة وعاطفية حول كيف أنَّ الأمريكيين دمروا أفغانستان وقتلوا المدنيين ودمَّروا المنازل.

كان خليل زاد يرد بالمثل، مستذكراً أنَّ طالبان استضافت القاعدة التي هاجمت الولايات المتحدة وقتلت نحو 3 آلاف أمريكي في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.

وتزايد الجدل أحياناً في الجلسات لدرجة أنَّه جرى تعليقها فجأة.

لكن في كثير من الأحيان كان مفاوضو طالبان جادين ودقيقين، وكانوا يراجعون بدقة كل كلمة في الوثائق المقترحة.

وبحلول أواخر 2019، كانت هناك مسودة اتفاق كاملة. كان ترامب سعيداً، وبعدما أنهى خليل زاد تقديم إحاطة لفريق البيت الأبيض عبر الفيديو في إحدى لقاءات مجلس الأمن القومي، أعلن الرئيس أنَّه يريد إحضار قيادة طالبان إلى كامب ديفيد من أجل المشاركة في احتفالية توقيع. اندهش كل الجالسين حول الطاولة في صمت من هذا المقترح، الذي أعلنه ترامب بعد ذلك على تويتر.

وفي حين لم يعتقد أيٌّ من مستشاريه أنَّ كامب ديفيد فكرة جيدة، كانوا بعيدين عن الاتفاق مع بعضهم حول مسودة الاتفاق. فقال مسؤولون أمريكيون في ذلك الوقت إنَّ بومبيو كان مؤيداً جداً للمسودة، في حين عارضها مستشار الأمن القومي جون بولتون وكثيرون في البنتاغون.

ترامب يوقف المفاوضات وطالبان لا تفهم السبب 

لكن في مطلع سبتمبر/أيلول، حظيت تلك الانقسامات بتغطية إعلامية واسعة حين أعلن ترامب انتهاء المفاوضات مع طالبان بعد سلسلة من الهجمات والتفجيرات التي شنها المسلحون، بما في ذلك هجوم أسفر عن مقتل جندي أمريكي.

وعند سؤال بومبيو لاحقاً عما إن كانت الخطط الأولية لسحب 5 آلاف جندي مبدئياً في مطلع 2020 قد سُحِبَت من على الطاولة أيضاً، قال الوزير لمستضيفي البرنامج التلفزيوني الحواري: “آمل ألا يكون ذلك. لا يمكنني الإجابة عن هذا السؤال. فهو في النهاية قرار الرئيس”.

وفي الدوحة، كانت طالبان قد رفضت بالفعل فكرة كامب ديفيد التي اقترحها ترامب، على الأقل حتى التوقيع على اتفاق فعلي. وقال برادر لخليل زاد والجنرال أوستن “سكوت” ميلر، قائد القوات الأمريكية في أفغانستان، في لقاء عُقِدَ بمنزل وزير الخارجية القطري لماذا ترامب منزعج جداً من مقتل جندي أمريكي؟ وقال إنَّ المفاوضات قد بدأت منذ سنوات ولم يتوقف القتال أبداً.

وأشار برادر إلى أنَّ الغارات الجوية الأمريكية قتلت مئات، إن لم يكن آلافاً، من طالبان في الغارات الجوية التي شُنَّت منذ الانسحاب المُفتَرَض من العمليات القتالية في 2014.

لكن بحلول نوفمبر/تشرين الثاني، كان خليل زاد يتحدث مجدداً لبرادر، وسأله في لقاء عُقِدَ في باكستان عما إن كانت طالبان ستقبل بـ”تقليص وجيز للعنف” لإثبات حسن النوايا وقدرة القيادة على السيطرة على قواتها على الأرض.

كانت طالبان في البداية غير واضحة، وذكَّرت بأنَّ مسودة الاتفاق التي جرى التخلي عنها في سبتمبر/أيلول كانت تدعو فقط إلى وقف لإطلاق النار بعد اكتمال اتفاق الانسحاب. لكن بحلول فبراير/شباط، كان الاتفاق الذي جرى التخلي عنه في سبتمبر/أيلول جاهزاً من جديد للاكتمال. إذ وافق ترامب، بشرط تطبيق وقف القتال لمدة سبعة أيام الذي جرى التفاوض حوله. وجرى وقف القتال، الذي احترمه الطرفان طوال معظم المدة، في الأسبوع الأخير من فبراير/شباط.

أعلن بومبيو كسر “الجمود”، وسافر إلى الدوحة ليشهد التوقيع بين خليل زاد وبرادر في 29 فبراير/شباط. وانفجر فريق طالبان بالتهليل، صارخين “الله أكبر”.

وقال ترامب إنَّه “سيتقابل شخصياً مع قادة طالبان في المستقبل غير البعيد”، وربما حتى في كامب ديفيد.

لم يكن الجميع سعداء بشروط الاتفاق، الذي حدد تاريخاً لجلاء آخر القوات الأمريكية في مايو/أيار 2021، في مقابل تعهُّد من طالبان بعدم مهاجمة القوات الأمريكية أثناء انسحابها. وكان كل شيء آخر في الاتفاق مُصاغاً بشكل مبهم. وأفرج غني، تحت ضغط أمريكي قوي، عن 5 آلاف من سجناء طالبان، وسلَّمت طالبان نحو ألف أسير من الجنود الأفغان.

لم تقع هجمات ضد الأمريكيين المغادرين، الذين بدأ ترامب بسحبهم. لم يجنِ ترامب أي فائدة سياسية من الاتفاق تقريباً، إذ تعهَّد خصمه الديمقراطي ذلك العام، جو بايدن، هو الآخر بسحب القوات الأمريكية وإنهاء الحرب.

في 22 مارس/آذار 2021، بدأت أولى جلسات التفاوض بين طالبان والحكومة الأفغانية عبر سكايب. ثم حدثت لقاءات مباشرة في العاصمة كابول. 

وبالتزامن مع ذلك أعلنت إدارة بايدن مراجعتها للاتفاق الذي عقدته إدارة ترامب، وأعلنت تأجيل موعد الانسحاب إلى سبتمبر/أيلول 2021 بدلاً من أول مايو/أيار من  العام نفسه، وهو ما رفضته طالبان. وفي ظل تأخر إطلاق سراح بقية أسرى طالبان، أعلنت الحركة في 7 أبريل/نيسان سحب وفد التفاوض الذي أرسلته إلى كابول اعتراضاً على عدم التزام واشنطن والحكومة الأفغانية بالاتفاقية، واستمرار الغارات الجوية ضد مناطق سيطرة الحركة. وبدأت طالبان هجوماً ربيعياً ضخماً على قوات الأمن الأفغانية، كما لو أنَّ اتفاق الانسحاب قد حررها من كل القيود. وبحلول الوقت الذي أنهى فيه بايدن مراجعته للسياسة، في ظل بقاء أقل من 3 آلاف جندي، كانت الحركة المسلحة قد سيطرت على معظم البلاد وكانت تستعد لموجة أخيرة.

قرر بايدن الإبقاء على خليل زاد، واستمرت المباحثات بين الولايات المتحدة وطالبان مع برادر في الدوحة. لكنَّ المفاوضين الأمريكيين أشاروا إلى أنَّ المسلحين في نهاية المطاف كانوا أطول نفساً من الأمريكيين، وكان ترامب وبايدن ببساطة يريدان المغادرة.

الرئيس الأفغاني رفض الاستقالة

وفي أبريل/نيسان الماضي، حين رفض غني مناشدات الولايات المتحدة الأخيرة للاستقالة وعرض حكومة لتقاسم السلطة مع طالبان، أعلن بايدن الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية بحلول 11 سبتمبر/أيلول، الذكرى العشرين لهجمات القاعدة التي بدأت الحرب.

وبحلول 31 أغسطس/آب، بعد أسبوعين من فرار غني من البلاد وزحف طالبان إلى العاصمة، كانت القوات الأمريكية قد رحلت. 

يعلق موقع “بي بي سي” البريطاني قائلاً: “بالنسبة للكثيرين، فإن تصريح القائد في طالبان شير محمد عباس ستانيكزاي، متحدثاً من قاعة كبيرة بفندق فخم بعد توقيع الاتفاق مع أقوى جيش في العالم في سبتمبر/أيلول الماضي، حين قال (ليس هناك أدنى شك في أننا انتصرنا في الحرب)، يبدو أكثر صحة وقدرة على توصيف الواقع”.

عربي بوست