سياقات الحراك السياسي في المنطقة
تستخدم السياسة الخارجية الأميركية، بصورة أكبر، الأداتين الدبلوماسية والاقتصادية، وما تمتلكه من قوة ناعمة في منطقة الشرق الأوسط، وتتجنّب استخدام القوة الصُّلبة والأداة العسكرية، التي ثبت فشلها في كل من العراق وأفغانستان، واستنزفتها بشرياً واقتصادياً.
وسام أبو شمالة*
تشهد منطقة الشرق الأوسط حراكاً نَشِطاً، سياسياً ودبلوماسياً، وعُقدت عدة لقاءات على مستويات سياسية متعدّدة، جاءت أغلبيتها على وقع متغيرات سياسية وعسكرية بارزة، ألقت بظلالها على المنطقة.
أبرز المتغيّرات السياسية، تولّي جو بايدن الرئاسةَ الأميركية، منهياً الحِقْبة الترامبية المثيرة للجدل، وتولّي نفتالي بينيت قيادةَ حكومة الاحتلال الإسرائيلية، والتي أنهت أطول فترة حكم في تاريخ “إسرائيل” برئاسة بنيامين نتنياهو، وفي إيران انتُخب إبراهيم رئيسي، الذي يوصف بأنه أكثر تشدُّداً من سَلَفه حسن روحاني.
يُعَدّ انتصار المقاومة الفلسطينية في معركة “سيف القدس”، وانتصار “طالبان” ودحر القوات الأميركية من أفغانستان، والتوتر العسكري بين “إسرائيل” من جهة، وحزب الله وإيران من جهة أخرى، من أهم الأحداث العسكرية التي انعكست وستنعكس على طبيعة الأدوار والسياسات في المنطقة.
على وقع المتغيِّرات والأحداث الجارية، تتَّضح أكثر توجُّهات الأطراف ومواقفها وسلوكها السياسي، وتتَّضح معها خريطة العلاقات والتحالفات.
تتَّجه سياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية إلى الانسحاب التدريجي من منطقة الشرق الأوسط، وتركّز جهودها على منطقة شرق آسيا والصين، المنافِسة الأكبر والتهديد الأبرز لها، كقوة عظمى تتسيَّد العالم اقتصادياً وعسكرياً.
تسعى الإدارة الأميركية لتسكين الصراعات والاستقرار في الشرق الأوسط، وتجنيب المنطقة التوترات والمواجهات العسكرية، من دون تقديم مبادرات وحلول تعالج مشاكل المنطقة من جذورها، والتعامل مع الواقع كما هو من دون تغييره.
تستخدم السياسة الخارجية الأميركية، بصورة أكبر، الأداتين الدبلوماسية والاقتصادية، وما تمتلكه من قوة ناعمة في منطقة الشرق الأوسط، وتتجنّب استخدام القوة الصُّلبة والأداة العسكرية، التي ثبت فشلها في كل من العراق وأفغانستان، واستنزفتها بشرياً واقتصادياً.
الأطراف الرئيسية في المنطقة تمايزت بين موقفين متناقضين في سلوكها تجاه المتغيِّرات والأحداث. الأول يسعى للتناغُم مع توجُّهات الإدارة الأميركية، وتعظيم دوره ومكانته لديها، وتمتين علاقته بـ”إسرائيل”، باعتبارها مفتاح تحسين العلاقة بالإدارة الأميركية، من خلال سعيه للقيام بمُهِمّات تحقق الاستقرار والهدوء، وهو ما سينعكس على تثبيت شريعة نظامه، ويتجنّب الضغوط الأميركية على صعيد الحريات وحقوق الإنسان، وهو سلوك يتناقض مع موقف الأطراف التي تمثّل تيار المقاومة في المنطقة، والذي يقرأ تراجع مكانة كل من الولايات المتحدة الأميركية و”إسرائيل”، فزادت إيران في تمسكها بموقفها تجاه الملف النووي، وتحدَّت المقاومتان الفلسطينية واللبنانية “إسرائيلَ” بعد معركة “سيف القدس”، وواصلتا عمليات التهديد والاستنزاف والاشتباك معها عبر الحدود.
في هذا الإطار، يتكثّف النشاط، سياسياً ودبلوماسياً، للأنظمة الراغبة في تعزيز علاقتها بالإدارة الأميركية، ومن أبرز هذا الحراك، زيارة عباس كامل لـ”إسرائيل” قبيل لقاء بينيت ـ بايدن المنعقد في البيت الأبيض، ولقاء القمة المزمع عقده بين بينيت والسيسي في القاهرة، من أجل رفع مكانة مصر لدى الإدارة الأميركية عبر بينيت، ومن خلال الدور الذي تؤدّيه مصر في تحقيق الهدوء بين “إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية، وهو ما تعكَّر بسبب المواجهات بين المتظاهرين والاحتلال شرقي قطاع غزة، ومقتل جندي إسرائيلي قنّاص خلالها، الأمر الذي أغضب القيادة المصرية التي قررت معاقبة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وأغلقت معبر رفح البري معه!
يتّضح، من الدور المصري منذ معركة “سيف القدس”، أنه يهدف إلى استثمار جهوده في وقف إطلاق النار والمحافظة على تثبيته، من أجل فتح نوافذ فرص تعزّز علاقته بإدارة بايدن وتجنّبه انتقاد السياسة المصرية في مجال الحريات وحقوق الإنسان، وتبني على الاتصال الأول الذي تم بين بايدن والسيسي في أثناء المعركة.
ويحاول الأردن أداء دور في هذا الاتجاه، ويسعى لدور أكبر تجاه الأطراف، بعد أن استعاد مكانته التقليدية لدى الإدارة الأميركية، فكان لملكها اللقاءُ الأول في المنطقة مع بايدن في البيت الأبيض. ويشارك الأردن في قمة إلى جانب مصر والسلطة في القاهرة خلال أيام، لن تبتعد أهدافها عن التناغم مع الرؤية الأميركية.
السلطة الفلسطينية ورئيسها أبو مازن حظيا بلقاء مع وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس، ركّز على الحاجات الأمنية لـ”إسرائيل”، ومساعدة السلطة على الخروج من أزمتها الاقتصادية، من دون الحديث عن مسارات سياسية. وعلمتُ، من مصادر خاصة، بأن أبا مازن سعى لعقد لقاء مع بينيت في القاهرة في إطار قمة رباعية إسرائيلية ـ مصرية ـ أردنية ـ فلسطينية، ونقل طلبه عبر لقائه غانتس. وسعى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين ورئيس جهاز المخابرات المصري كامل لإقناع بينيت بعقد لقاء مع أبي مازن، وهو ما رفضه بينيت.
تحاول تركيا، من جهتها، إعادة تموضعها في المنطقة كي تتقرّب أكثر إلى الإدارة الأميركية و”إسرائيل”، واتخذت عدة خطوات في هذا الاتجاه، أبرزها ترتيب العلاقة بالإمارات، وجرى لقاء جمع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ورئيس مجلس الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد، أعقبه اتصال بين محمد بن زايد وإردوغان، قد يمهّد للقاء قمة إماراتية ـ تركية.
كما أرسلت تركيا عدة إشارات إيجابية من أجل استعادة العلاقة بـ”إسرائيل”، لم تقابلها الأخيرة بالرغبة نفسها حتى اللحظة.
قطر تعزّزت مكانتها لدى الإدارة الأميركية بعد الدور الذي أدّته في رعاية المباحثات بين أميركا و”طالبان” بشأن الانسحاب الأميركي من أفغانستان، بالإضافة إلى دورها في الوساطة بين المقاومة الفلسطينية و”إسرائيل” من أجل تحقيق الهدوء.
سلسلة اللقاءات والاتصالات بين أطراف رئيسية في المنطقة (مصر، قطر، تركيا، الأردن، السعودية، الإمارات، “إسرائيل”، السلطة الفلسطينية) على مستويات متعدّدة، تأتي إمّا في سياق توجيه أميركي مباشِر من أجل خفض مستوى التوتر في علاقاتها البينية، على نحو يحقّق الهدوء والاستقرار في المنطقة، وإمّا في إطار تبنّي سلوك سياسي لبعض الأطراف، يسعى لأداء دور إقليمي يعزّز مكانته لدى الإدارة الأميركية، وإمّا في سياق العمل على خفض توتر علاقة هذه الأطراف بالإدارة الأميركية عبر استعادة العلاقة بـ”إسرائيل” وحلفائها من دول التطبيع العربي.
* المصدر : الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع