السياسية: متابعات/ صادق سريع

عندما رحل زين العابدين بن علي مع عائلته في 14 يناير/كانون الثاني 2011 نحو المنفى السعودي، كتب الشعب التونسي بالدم والإرادة فصلاً جديداً في تاريخه.

وكان لتونس أن تحلم بمستقبل أخضر.

وكان للعرب أن يسيروا على خطى ثوار قرطاج، لتتفتح المزيد من الزهور على امتداد البصر.

لكن الحلم الذي أشعل قلوب الملايين اختلف كثيراً عن الواقع الذي عاشوه على امتداد عقد كامل.

عشر سنوات من محاولات إعادة بناء تونس.

حلفاء الأمس ضد بن علي أصبحوا خصوماً يتنابزون بالاتهامات، ويتربصون ببعضهم البعض الدوائر.

تونس الجديدة لم تولد في هذا المخاض العسير، بل عاش المواطنون سنوات صعبة من الضيق الاقتصادي والتهديد الأمني، وصولاً إلى انهيار المنظومة الطبية في وجه وباء كورونا.

بعد شهور من الذكرى العاشرة للثورة، استيقظ التونسيون على قرارات درامية للرئيس قيس سعيد، عطّل فيها البرلمان، وأقال رئيس الحكومة، وانفرد بالسلطة التنفيذية.

كأنها عودة إلى مربع الاستبداد رقم واحد في رأي البعض.

وكأنها انطلاقة تنتصر على مأزق سياسي مزمن، وعلى إخفاق النخبة في تحقيق الحد الأدنى من آمال الشارع، في نظر آخرين.

ليست قرارات الرئيس هي موضوع هذا التقرير، بل كل ما قاد إلى هذه اللحظة العصيبة والغامضة في تاريخ تونس الحديث.

تستعرض السطور التالية المسار الغرائبي لثورة الياسمين، وهي تتفجر مفعمة بالأمل والأحلام الوردية، ثم وهي في موضع السؤال الوجودي الآن. مسار شاركت في صنعه 3 أسباب رئيسية:
الأزمات الاقتصادية المتتالية منذ الفوضى الأمنية بعد الثورة إلى جائحة كورونا.
ثم تناحر الأحزاب وعجز النخبة عن خدمة البلد والناس.
وأخيراً تأثير “الأصابع” الخارجية، التي تركت آثارها على كل ما جرى في أرض تونس، وكل ما سيجري.

الاقتصاد
مؤشرات قديمة على أزمة تهدد بتراجع الإنتاج والخدمات ومزيد من البطالة والتدهور في مستوى المعيشة

في يونيو/حزيران 2018 تحدثوا عن انقلاب عسكري في تونس.

كان ذلك قبل إعفاء وزير الداخلية التونسي لطفي براهم من منصبه بأيام قليلة.

محاولات كثيرة لإرجاع المسألة إلى دور غير المرئيين. وهذا بالضبط ما فعله الصحفي نيكولا بو في مقالة نشرت في 15 يونيو/حزيران، فقد وصل به الأمر إلى الحديث عن مشروع انقلاب عسكري أعده وزير الداخلية الأسبق بالتعاون مع رئيس جهاز الاستخبارات الإماراتي أثناء لقائهما في جزيرة جربة في نهاية شهر مايو/أيار من تلك السنة.

وأورد ما يلي : “رسم كل من الوزير التونسي وضيفه الإماراتي خارطة الطريق التي كان من شأنها أن تؤدي إلى تغييرات تمس رأس هرم الدولة، عبر إقالة الشاهد، وتعيين كمال مرجان بدلاً منه، وإقصاء السبسي من رئاسة تونس لأسباب طبية. هدف المخطط الأول كان إبعاد إسلاميي حركة النهضة عن الحياة السياسية التونسية بشكل نهائي.

الصحفي نيكولا بو هو مؤلف كتاب “حاكمة قرطاج”.

لم يكن هناك من داعٍ لمشروع انقلاب عسكري لتبرير إقصاء لطفي براهم، عدا عن أن تدخل الإمارات بهذه الصورة “المفضوحة” سيضع أي مسؤول سياسي تونسي يتولى زمام الأمور بعدها في موقف لا يطاق داخلياً وخارجياً. إن لم تحدث إضرابات إقليمية شديدة.

لكن ظهور نظرية الانقلاب العسكري قبل عامين من إجراءات قيس سعيد الاستثنائية، هو دون أي شك دليل على تقلب الطبقة السياسية التونسية.

وعلى هشاشة الوضع.

ما هي الأوضاع “الهشة” التي استدعت إجراءات 25 يوليو/تموز بتوقيع الرئيس قيس سعيد؟

إنها مزيج من أزمة الاقتصاد، والنزاع الحزبي، والتدخلات الخارجية.

السطور التالية تستعرض المأزق الاقتصادي الذي تعيشه تونس منذ سنوات.

لقد تدهورت هنا الأوضاع الاقتصادية بشكل عميق

في مطلع 2021 كان العالم العربي كله يحتفل بذكرى أولى نسمات الربيع العربي، التي هبّت من تونس الخضراء.

وكان الصحفيون المتخصصون في الاقتصاد يجهزون كالعادة تقارير عن العام المنصرم، وتوقعات عن العام الجديد.

وجاءت كل العناوين عن الاقتصاد التونسي مخيبة لآمال أبناء ثورة الياسمين.

ونقلت التقارير عبارات قاسية تشرح وتحذر.

“إننا نعيش وضعاً اقتصادياً لم تعرف له البلاد مثيلاً حتى في أحلك الأزمات التي شهدتها في سنوات الاحتلال الفرنسي وسنوات 1978 و1986”.

هكذا نقلوا مثلاً عن وزير المالية التونسي الأسبق حسين الديماسي.

أضاف: بالسنوات الأولى بعد الثورة عندما كنا نسجل 1% نموّاً كنا ندق ناقوس الخطر وننبه للتداعيات. اليوم نحن نسجل أرقاماً سالبة، تصل إلى -8% و-10%. لقد ساءت الأمور بشكل عميق.

ما هو عنوان الأزمة؟

في بيان صندوق النقد الدولي مطلع العام، هناك تنبيه واضح إلى عدة مخاطر اقتصادية تواجه الاقتصاد التونسي:

لأن النخبة كانت مشغولة بالانتخابات والنفوذ
الاقتصاد التونسي كان من أكثر الاقتصادات العربية تنوعاً، بين الزراعة وصناعات الملابس وصناعات تحويلية أخرى، شكلت إيراداتها آنذاك أكثر من ثلث الناتج المحلي الإجمالي لتونس.

غير أن مرحلة الانتقال السياسي المستمرة والصعبة بعد سقوط نظام بن علي وتبعات جائحة كورونا وما سبقها من هجمات إرهابية، وكان الإهمال من نصيب القطاعات المحلية المنتجة.

وصلت الأوضاع الاقتصادية إلى هذا الحد من التدهور بسبب إهمال وانشغال النخب بمعارك سياسية هامشية.

لم يفكر أحد منهم في وضع خطط تنموية مستدامة تعزز دور القطاعات التونسية المنتجة، بدلاً من تكاليف الاقتراض الخارجي، ودفع مليارات الدولارات لاستيراد سلع مدعومة ومنافسة للمنتجات المحلية.

وصندوق النقد لا يمتلك إلا هذا العلاج المر
ازدحمت الأسابيع الأخيرة لرئيس الحكومة المُقال هشام المشيشي بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، للحصول على القرض الرابع في عشر سنوات، بقيمة حوالي 4 مليارات دولار.

وكان من المفترض أن تصل الدفعة الأولى نهاية الصيف.

ولم يسبق للبلاد أن اعتمدت مثل هذه الوتيرة في طلب قروض من الصندوق.

وفي كل مرة يتجدد الجدل بشأن شروط الصندوق الصعبة للإصلاح الاقتصادي، وتتجدد المخاوف من تأثيرها على الطبقات الأقل دخلاً.

ومن أبرز الشروط قيام الحكومة بإصلاحات اقتصادية عميقة ومؤلمة على الصعيد الاجتماعي، أولها تقليص دعم السلع الأساسية، وتخفيض الإنفاق على الأجور في القطاع الحكومي، وبيع أسهم وحصص الدولة في مؤسسات القطاع العام وإعادة هيكلته.

وتكمن المعضلة الأساسية هنا في ضعف قدرة الحكومة بالقدرة على القيام بالإصلاحات في خضم خلافات عميقة بين أركان السلطة، ومن جهة أخرى معارضة الشارع والاتحاد التونسي للشغل، صاحب الشعبية الكبيرة.

واعتباراً من الربع الثاني من 2021، اتجهت الحكومة الى تغيير نظام الدعم تدريجياً، ليتم تقديمه لاحقاً للفئة الاجتماعية المستهدفة من خلال مساعدات مالية مباشرة.

ثم جاءت كورونا لتكشف المستور في قطاع الصحة
وكانت كورونا أكبر من احتمال تجهيزات البلاد الطبية.

تعيش تونس محنة غير مسبوقة بسبب الأعداد القياسية اليومية للإصابات والوفيات جراء تفشي فيروس كورونا.

وسجلت البلاد حصيلة إصابات يومية قياسية، كانت أعلاها قرابة عشرة آلاف إصابة بتاريخ السادس من يوليو/تموز الماضي.

وقالت المتحدثة باسم وزارة الصحة التونسية إن المنظومة الصحية في البلاد انهارت، مع امتلاء أقسام العناية الفائقة وإرهاق الأطباء والتفشي السريع لجائحة كورونا.

“نحن في وضعية كارثية.. المنظومة الصحية انهارت.. لا يمكن أن تجد سريراً إلا بصعوبة كبرى.. نكافح لتوفير الأوكسجين.. الأطباء يعانون إرهاقاً غير مسبوق”.

وأضافت أن “المركب يغرق”.

من المؤكد في الوقت الحالي أن الجائحة خرجت عن السيطرة بشكل اضطر المسؤولة للإدلاء بهذا الاعتراف النادر في منطقتنا.

خلال السنوات العشر التالية للثورة، بقيت الإصلاحات الاقتصادية في تونس حبراً على ورق.

لم يتم تنفيذ الحد الأدنى من مطالب المانحين، رغم أن تونس كانت من أكثر دول العالم حصولاً على المساعدات والقروض في السنوات الماضية.

وفي عام 2017، أوضح مسؤول كبير في مجموعة الأزمات الدولية أن عدداً من كبار رجال الأعمال والعائلات التي تسيطر على مفاصل الاقتصاد يرفضون جميع الإصلاحات ولا يريدون الشفافية أو المنافسة.

بينما كان الاقتصاد التونسي يعاني كل هذه الصعوبات، دخلت تونس في نفق من المنافسات الحزبية والتوافقات الشكلية التي وضعت البلاد في مأزق سياسي غير مسبوق، كما تشرح السطور التالية.

الأحزاب
إخفاق تام في تلبية مطالب الشارع الاجتماعية والاقتصادية.. وسياسات توافقية خنقت العمل السياسي ومنعت الإصلاح

في 22 فبراير/شباط 2021، خرجت وكالة رويترز بتقرير يحمل عنواناً مثيراً للانتباه: الصراع على السلطة في تونس يهدد باندلاع احتجاجات في الشارع.

وكان ذلك تلخيصاً لمسيرة الحياة السياسية لنخبة الياسمين، بعد هروب بن علي ووعود الديمقراطية التونسية التي تسبق جميع العرب.

المشهد التونسي لعصر ما بعد الرئيس الهارب بن علي شهد حالة من الاستقطاب الشديد عامي 2013 و2014، قبل أن يتفق حزب النهضة ومجموعة من الأحزاب العلمانية على تقاسم السلطة.

نظام تقاسم السلطة الذي تضمنه دستور 2014 أدى إلى خلاف مستمر بين الرؤساء ورؤساء الوزراء والقادة البرلمانيين: حيث يتعين على البرلمان والرئيس الموافقة على رئيس وزراء يتمتع بمعظم الصلاحيات التنفيذية.. في حين يشرف الرئيس على الشؤون الخارجية والدفاع.

ويريد قيس سعيد نظاماً رئاسياً مع دور ثانوي للأحزاب السياسية في حين يريد الغنوشي وحلفاؤه نظاماً برلمانياً أكثر وضوحاً.

هكذا قالها مثلاً الصادق جبنون القيادي في حزب قلب تونس الذي يرأسه قطب الإعلام نبيل القروي.

في الوقت نفسه، أسفرت الانتخابات البرلمانية عن برلمان لا يتمتع فيه أي حزب بأكثر من ربع الأصوات، مما يجعل من المستحيل تقريباً حصول أي حكومة على دعم أغلبية ثابتة.

فكيف وصلت تونس على أيدي نخبتها إلى هذا المأزق “الديمقراطي”؛ النادر؟

التوافقية التي خنقت العمل السياسي ومنعت الإصلاح
لم تكن نكتة ساخرة تلك الفكرة التي شهدتها تونس نهايات 2018، بتأسيس شبكة موسعة “من المواطنين التونسيين الراغبين في ممارسة مواطنتهم خارج الأحزاب السياسية التي أثبتت عدم قدرتها على مواكبة المرحلة التاريخية”.

وجاء الفوز المفاجئ والساحق للمرشح المجهول قيس سعيد في نهاية 2019 ليعبّر في أحد جوانبه عن رغبة الناخبين في عقاب الأحزاب، والنخبة، والسياسيين المحترفين.

يعبّر عن خيبة أمل المجتمع في الطبقة السياسية التقليدية للبلد وتفضيلها لوجوه جديدة قد تحقق ما لم يستطع من سبقهم أن يحققها.

قّرّرت فئة الشباب مُعاقبة الأحزاب على تقصيرها وتراخيها في مُعالجة المشاكل الكبرى التّي تتخبّط فيها البلاد منذ الثورة، وعلى رأسها البطالة والتهميش والفقر والتفاوت الجهوي.

تمخض قانون الانتخابات في تونس، ونظام الحُكم الهجين الذّي يقسم السلطة التنفيذية بين رئيس الوزراء والرئيس، عن برلمان يتكون من كتل معزولة ومختلة وظيفياً، فشلت في الاندماج وفي تشكيل هيئة حاكمة فاعلة.

ولم تسمح السياسة التوافقية للحزب الفائز بالانتخابات أن يحكُم بمُفرده بل فرض عليه الدخول في سياسة توافقية حتّى يستطيع تشكيل حُكومة.

وتحت شعار التوافقية، تخلت الدولة عن قضايا ضرورية، مثل العدالة الانتقالية، وإصلاح قطاع الأمن ولم يتسن لها اتخاذ إجراءات جريئة بشأن الاقتصاد أو تشكيل المحكمة الدستورية.

أدّت أيضاً تلك السياسة التوافقية إلى تطبيق نظام المُحاصصة الحزبية وملء المناصب بمسؤولين تنقصهم الكفاءة اللاّزمة والوعي السياسي المطلوب، ويفتقرون إلى التجربة في إدارة شؤون البلاد.

وانتشرت ظاهرة السياحة الحزبية، أي الانتقال من حزب إلى حزب ومن كتلة إلى كتلة، وما قد يصحبها من شبهات عن صفقات مالية أو إغراءات بالمناصب في الدولة.

أزمة الصلاحيات والنفوذ بين الرئاسة والبرلمان
تعود جذور الأزمة السياسية الحالية في تونس إلى عام 2019، الذي شهد انتخابات رئاسية أوصلت قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري البالغ من العمر 61 عاماً، إلى قصر قرطاج.

حاول حزب النهضة الإسلامي، الأكبر في البرلمان، تمرير حكومة الحبيب الجملي ولم ينجح.

وبدأت الخلافات بين موقعَي الثقل السياسي في تونس:

البرلمان الذي يقوده حزب النهضة.

والرئاسة التي يُمثِّلها قيس سعيد.

وبدا واضحاً من كلمات الرئيس أنه يُمهِّد لتغيير الدستور وتعديل النظام السياسي في البلاد، بعد أن شكَّك في الحوار الوطني الذي جرى عام 2013 واصفاً إياه بأنه لم يكن حواراً.

ولم يكن وطنيا على الإطلاق!

النهضة في طوفان الأسئلة القديمة.. والجديدة

في 30 يناير/كانون الثاني 2011، وطئت قدما راشد الغنوشي أرض تونس بعد أن كان قد قضى 20 سنة في المنفى. استقبله آلاف الأشخاص في مطار تونس قرطاج بنشيد طلع البدر علينا. وقد كانت هذه العودة بعد أسبوعين فقط من سقوط بن علي رمزاً للانبعاث الجديد للحزب الإسلامي الذي سعى النظام السلطوي لاستئصاله.

لدى انعقاد مؤتمرها الثاني في 2016، وإعلانِ الفصل بين نشاطاتِه السياسيَّةِ والدعويَّة، ثارت الكثير من الأسئلة والسجالاتُ على قدمٍ وساقٍ خلال انعقاده ثم بعد صدور بيانه الختامي.

فيما يخصُّ نتائجه: هل نحنُ أمامَ حركةِ ترميمٍ ظاهري؟

أم أمامَ تطوُّرٍ في استراتيجيّة الإخوانِ السياسيّة؟

أم أمامَ قطيعةٍ مع مفاهيمَ قديمةٍ عمرُها ثمانون عاماً؟

فسَّرت وسائلُ الإعلامِ الغربيّة هذا الانعِطافُ على أنّه عبورٌ من الدينيِّ إلى فصل الدين عن الدولة sécularisation، يُظهِرُ رغبةً في الانخِراطِ في اللعبةِ الديمقراطية.

منذ 2013، يناوِرُ الغنوشي كلاعبِ شطرنج، هذا هو شرحُ صلاح الدين الجورشي، وهو صحفيٌّ كانَ من أوائلِ رفاقِ طريقِ مؤسِّسِ النهضةِ قبلَ أن يبتعدَ عنهُ لاحِقاً.

لم يعد هدفُه تغييرُ قواعدِ اللعبة، كما كانَ الأمرُ في الأساس.

الدليلُ هو أنّ كتلةَ النهضة صارَت تحوزُ العددَ الأكبرَ من المقاعدِ منذُ تفكُّكِ نداء تونس وهو الحزبُ الذي كان يتمتّعُ بالأغلبيّةِ البرلمانيَّة منذُ انتخاباتِ 2014، لكن ليسَ في نيَّةِ الغنوشي أن يتحمَّلَ مسؤوليَّة السلطة. بعدَ أن اكتوَت يدُه بالتجربةِ المصرية.

لكن مياهاً كثيرة جرت في كل الأنهار، جعلت حزب النهضة خصماً في معظم المعارك السياسية على أرض تونس.

كما تضاعفت الأسئلة الداخلية بين أعضاء الحزب:

عمن ندافع؟

وما هي هويتنا الاجتماعية؟

وبأي نية نشارك في الحكم؟

تجوب هذه الأسئلة صفوف الحزب دون جواب.

يقول أحد المسؤولين الجهويين للحزب: لقد أنشئ الحزب كجواب على ثلاث نقائص في العهد البورقيبي:

الديمقراطية،

والاعتراف الثقافي بالمكوّن الديني للهوية،

والإدماج الاجتماعي.

يضيف: لقد تحقق المطلبان الأولان، لكننا عاجزون عن تحقيق المطلب الثالث.

فيديو في أبريل 2021: فتحي العيادي المتحدث باسم حركة النهضة وسؤال عن مدى ندم الحركة على دعم قيس سعيد

الليبراليون واليسار: العائلة الوسطية أضعفت المشهد السياسي
يشير مصطلح “العائلة الوسطية” في تونس إلى باقة من الأحزاب ذات الطابع العلماني الديمقراطي الليبرالي. تلك الأحزاب التي فشلت على مدى السنوات العشر في توحيد صفوفها، وأدى تشظيها إلى كتل وأحزاب صغيرة إلى حصد نتائج هزيلة في الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة.

هذا المشهد السياسي المُتشظِّي انتهى إلى إفراز 3 محاور كبرى للصراع، وهي:

• محور التحالف الحكومي الثلاثي من حركة النهضة (إسلامي)، وحزب قلب تونس (ليبرالي)، وائتلاف الكرامة الذي خاض الانتخابات بشعارات مبنية على منطق الهوية الدينية والسيادية.

• محور المعارضة، الذي يضُم حزبي “حركة الشعب” (قومي)، و”التيار الديمقراطي” (يسار وسط)، وعدداً من النواب المستقلين، إلى جانب الحزب “الحر الدستوري”.

هذا المحور مُنقسِم على نفسه بسبب الخلافات بين الأحزاب القومية والديمقراطية من جهة والحزب الدستوري، الذي تقوده عبير موسى.

• محور الرئيس قيس سعيد، الذي يحمل عداءً تجاه المنظومة الحزبية التي يعتبرها فاسدة. حزبياً لا يدعم سعيد قبل القرارات وبعدها سوى حركة الشعب، وحزب التيار الشعبي القومي الذي انشق عنها.

ولم تتوقف هذه الأحزاب عن التحالف والانفصال والتنسيق مع كل أطراف العمل السياسي، حتى أصبحت “التوافقية” هي العنوان الأكبر للممارسات الحزبية التونسية في عقد ما بعد الثورة.

حزب “قلب تونس” هو ثمرة الخلط بين الإعلام والمال والسلطة، ولحصد الأصوات، يقدّم نفسه كقطب حداثي.

ائتلاف الكرامة خاض الانتخابات بشعارات مبنية على منطق الهوية الدينية والسيادية. وبعد أن قدّم الحزب نفسه على أنه التمدد البرلماني لقيس سعيد، بات في حرب ضد رئيس الجمهورية غداة الانتخابات.

وتراجعت أحزاب النهضة وائتلاف الكرامة من جهة، وقلب تونس من جهة أخرى، عن الوعد الذي أعطوه لناخبيهم بعدم الائتلاف لممارسة الحكم معاً.

بينما يستفيد الحزب الدستوري الحر، الوريث الرئيسي للتجمع الدستوري الديمقراطي، من تدهور ظروف الحياة والفوضى وتراجع الإحساس بالأمن والأزمة الاقتصادية وفضائح الفساد.

وعبر طريقة أكثر فلكلورية، لا تتردد عبير موسى، رئيسة كتلة الحزب الدستوري الحر، في الاستعراض بثياب التمويه العسكري خلال تظاهرها في الشارع. ومنذ بداية الدورة التشريعية، تخصص موسى جهودها مع بقية نواب حزبها الـ16، لإعاقة عمل البرلمان.

صورة عبير موسى بالزي العسكري والميكروفون

فيديو ربع دقيقة: الاعتداء بالضرب على عبير موسى بالبرلمان

القوى الخارجية
تونس أصبحت ساحة معركة لدول خارجية منذ الإطاحة بزين العابدين بن علي في سنة 2011

ظهر الثلاثاء 27 يوليو/تموز، نشر النائب التونسي ياسين العياري مؤسس حركة “أمل وعمل”، تدوينة على موقع فيسبوك، قال الإعلام التونسي إنها كانت سبباً في اعتقاله بعدها بساعات.

بينما أوضحت وكالة الدولة العامة للقضاء العسكري أن النائب موجود بالسجن المدني بتونس تنفيذاً لحكم قضائي قديم، صادر في 2018، بالحبس شهرين بسبب مشاركته “في عمل يرمي إلى تحطيم معنويات الجيش”.

ماذا قال العياري في تدوينته التي اعتبر أنها للتاريخ، ولضميره الشخصي؟

سأكتب هنا، ولكن ليس لكم، بل للتاريخ، و لضميري. سأبين في هذا المقال، بهدوء و بساطة : – أنه إنقلاب و عسكري – من خطط له و…

تدوينة ياسين العياري على فيسبوك

قبل عامين من هذه الواقعة نُشرت تسريبات لوثيقة وصفها موقع middle east eye بأنها مسربة من رئاسة الجمهورية تعرض تفاصيل خطة، لا بغاية “انقلاب عسكري” بالمعنى الدقيق للكلمة بما أنه لا يفترض عزل أية سلطة.

الوثيقة التي نشرها موقع ميدل إيست آي قبل عدة أشهر عن الانقلاب

تبقى عملية التسريب هي الأهم، حيث لم تنتهز حركة النهضة الفرصة لإطلاق حملة دعائية علنية ضد قيس سعيّد والتذكير بحرصها على حل تفاوضي.

شبكة المصالح الخارجية التي “تحوم” حول تونس
منذ اندلاع الربيع العربي في بداية عام 2011، دعمت الولايات المتحدة تحت إدارة أوباما حدوث تغيير في المنطقة.

تركيا وقطر، حليفتا واشنطن المقربتان من الإخوان المسلمين ومن عدة تيارات ثورية عربية، تبنتا الموقف ذاته.

أما السعودية والإمارات العربية المتحدة فقد اختارتا الطريق المعاكس، إلا في سوريا وليبيا، وذلك لأسباب مختلفة.

هم يعلنون غالباً تأييدهم للديمقراطية، ولكنهم يقولون في الوقت ذاته إن شعوبهم غير جاهزة لها. هذه الحجة الصالحة للاستخدام في أي وقت ولأي أمة.

اللعبة الخطيرة مستمرة بلا توقف منذ الشرارة الأولى للربيع العربي، وهناك ضحية جانبية لهذه المعركة: الديمقراطية.

حتى الرئيس قالها بنفسه.

“هناك مؤشرات كثيرة حول تدخّلات خارجية في تونس من قبل قوى تحاول إعادة تونس إلى الوراء، وهناك من أراد التواطؤ معها من الداخل”، كما ورد في تصريحات قيس سعيد إلى قناة فرانس 24 قبل ساعات من قراراته الخطيرة.

ولم يقدّم سعيّد أي تفاصيل أخرى حول الموضوع.

هنا تواصل الإمارات مطاردة كل أنواع “الربيع”
يمكن اختصار سياسة الإمارات في تونس بثلاث نقاط كبرى:

إيقاف قطر أولاً.
ثم حزب النهضة المنحدر من الإسلام السياسي.
أما النقطة الثالثة فهي الملف الليبي: لقد استثمرت الإمارات هناك اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً في وجه الدوحة وأنقرة والإسلام السياسي.
ومنذ الأسابيع الأولى من عام 2011 شنت الإمبراطورية الإعلامية الإماراتية (والسعودية) جملة ضد حزب النهضة وتأثير قطر وتركيا في تونس.

وعندما تحالف الرئيس الباجي قائد السبسي، مؤسس حزب نداء تونس، مع راشد الغنوشي، قائد حزب النهضة، لتشكيل ما سمي حكومة توافقية.. غضبت الإمارات.

ولم تتردد في ممارسة ضغوط عن طريق رفض تأشيرات السفر للتونسيين، وعدم تجديد تصاريح إقام من يعملون منهم في الإمارات، وإلغاء مشاريع استثمارية وعدت بها سابقة، وحملة إعلامية.. إلخ.

وصل الضغط إلى منع النساء التونسيات من استخدام مطار دبي كمحطة عبور، الساري منذ ديسمبر/كانون الأول 2017.

منذ 2011 تتحامل الإمارات على قطر وحلفائها الرئيسيين، أي تركيا وأحزاب الإسلام السياسي. إلا أن تركيا تبقى قوة كبرى في المنطقة تتحاشى أبوظبي المواجهة المباشرة معها.

عملت الإمارات على مناهضة حزب النهضة الذي وصل إلى الحكم عام 2011، وساندت حزب نداء تونس التابع للباجي قائد السبسي، وذلك قبل أن توجه له اللوم عام 2017 لأنه لم يتخذ موقفاً موالياً للإمارات ضد قطر.

هكذا أصبحت تونس ساحة المواجهة بين دول الخليج بين محور قطرـ تركيا، ومحور الإمارات ـ السعودية ـ مصر.

للإمارات وسطاء كثر يدعمون محاولات تدخلها في اللعبة السياسية التونسية، كما كشفت جريدة لوموند الفرنسية في 2017.

نجحت الإمارات في حربها على انتفاضات الربيع العربي على مدار عشر سنوات، وكانت تونس هي المعضلة.. حتى هبّت عاصفة قيس سعيد.

يحاول راشد الغنوشي أن يلخص العقد الدرامي في حديثه لصحيفة “ذا تايمز” البريطانية.

يقول إن الإمارات مصممة على “إنهاء” الربيع العربي الذي اندلعت شرارته الأولى في تونس في أعقاب الإطاحة بنظام بن علي في سنة 2011.

يضيف: الإمارات تعتبِر الإسلاميين الديمقراطيين تهديداَ لنفوذها، وقد أخذت على نفسها عهداً بأن الربيع العربي ولد في تونس ويجب أن يموت في تونس.

والسعودية تطارد الإخوان والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
السعودية أيضاً مهددة بثورة.

عبارة قالها راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية نهاية 2011، رداً على قرار المملكة استقبال الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.

ولم تنسَ الرياض هذا التصريح أبداً، لكنه ليس كل ما يعكر صفو العلاقة بين الطرفين.

بهذه الجملة أو من دونها كان الثأر السعودي سينال من الحزب المحسوب على تيار الإخوان المسلمين، العدو اللدود للرياض.

تراجعت الرياض عن دعم تونس بعد قدوم حركة النهضة إلى رأس الحكم، وهو أمر لا غرابة فيه من قبل المملكة التي تعتبر النهضة تابعة لتنظيم الإخوان المسلمين، “أحد محاور الشرّ”، حسب تعبير ولي العهد السعودي.

انعكست الصورة بعد وصول الباجي قائد السبسي إلى كرسي الحكم في تونس عام 2014، وانهمرت المساعدات والمنح والاستثمارات، رغم التحفظ على شركاء السبسي في الحكم: حزب النهضة!

وصل أمر التدخل السعودي لطلب تحجيم نشاط مكتب الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين في تونس، بدعوى أن قطر تدعمه، وهو مصنف من قبل السعوديّة والإمارات والبحرين ومصر في قوائم المنظمات الإرهابية.

ورغم ذلك رفضت تونس طلب السعودية والإمارات الاصطفاف ضد قطر، وخالفت رؤية الرياض في ليبيا وسوريا واليمن، ورفضت كل أشكال التدخلات الخارجية.

هل يولد الأمل وسط هذا الغبار؟
ما حدث هو أن قيس سعيد اغتنم وصول الأزمة التي تعيشها البلاد إلى ذروتها كي يقدم نفسه كقائد منقذ.

في الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2021 الذي شهد مظاهرات شعبية ضد الحكومة، وهجمات ضد مقرات لحزب النهضة، قرّر رئيس الجمهورية قيس سعيّد تجميد عمل مجلس الشعب وإعفاء رئيس الحكومة وترؤس السلطة التنفيذية.

يراهن قيس سعيد لبلوغ أهدافه على أمرين:

شرعيته الشعبية المباشرة.
وتآكل شرعية البرلمان.
وهو يسعى بذلك لفرض نفسه في اللحظة الحاسمة كبديل أوحد لسلطة فاشلة، لكن “مسار التاريخ” قد لا يكون كافياً لتعبيد الطريق أمامه.

فالأزمة الحالية هي نتاج لانتخابات 2019، التي أسفرت عن أغلبية برلمانية مبتورة.

وعن رئيس دولة في قطيعة تامة مع الأحزاب.

كما أنها أيضاً تعبير عن رفض للطبقة السياسية ولمأزق التوافق الذي لم يسفر عن حلول إيجابية.

تونس بعد عشر سنوات من انتفاضتها التاريخية تعاني من انهيار الإقتصاد.

وانقسام النخبة السياسية وتآكل شرعيتها حتى أنها باتت عاجزة عن المحافظة على الظروف السياسية التي تسمح باستمرار أجهزتها.

ومن انهيار المؤسسات.

تعاني من الأحزاب السياسية المفرغة من كل محتوى اجتماعي، المحلّقة بعيداً عن الواقع.

وطبقات اجتماعية تابعة لا تجد من يعبّر عنها في التشريع وصناعة القرار.

تضع التطورات الأخيرة تونس على حافة المجهول، والمؤشرات كثيرة.

التعليق المؤقت للبرلمان لا يأتي مقروناً بخطة طريق واضحة ولا حتى تقريبية.

الحماس الكبير في الأوساط العلمانية لقرارات الرئيس يثير القلق أكثر من تركيز السلطات في يده.

التصعيد من قبل حزب “النهضة” ومؤيديه وارد، وعواقبه فادحة.

أما انطلاق حملة قمعية ضد النهضة بغرض استئصاله، فأمر وراد بالقدر عينه، وعواقبه لا تقل كارثية على الجميع.

يمكن الرهان بالطبع على وساطة “اتحاد الشغل” والأحزاب الأخرى، وربما أطراف خارجية، وعلى ضغوط الشارع وحسن النوايا، من أجل الوصول إلى تسوية من نوع ما.

رهان يوحي لنا بأن التكرار مثل اليأس، هو أيضاً وجه للأمل.

*المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن راي الموقع