محاربة الإرهاب: هل وصلنا إلى نهاية انتشار عسكري كبير؟
غادر بضعة آلاف من الجنود الغربيين الذين بقوا في أفغانستان منذ عشرين عاما, جندي أمريكي يجلس في الجزء الخلفي من طائرة هليكوبتر من طراز شينوك, تحلق فوق كابول في 10 أغسطس 2017.
بقلم: فرانك جاردنر
(مؤسسة الإذاعة البريطانية”بي بي سي- BBC” النسخة الفرنسية- ترجمة: أسماء بجاش, الإدارة العامة للترجمة والتحرير الأجنبي “سبأ”)
تتعجل القوات الغربية بمغادرة أفغانستان هذا الشهر, في حين أعلنت فرنسا عن تخفيض عدد كبيرا في عدد قواتها المتواجدة في مالي.
وفي العراق، لم يعد للقوات البريطانية والقوات التابعة للدول الغربية الأخرى دور رئيسي تلعبه.
لذا, هل اقتربت فترة الانتشار العسكري الكبير “سيرا على الأقدام” في مناطق الحرب البعيدة من نهايتها, بعد مرور عشرين عاما على بدء “الحرب على الإرهاب” والتي قادها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش؟
الجواب: ليس بعد, حيث لا تزال مكافحة الجهاديين في منطقة الساحل موضوع التزام كبير, ولكننا نشهد الآن إصلاحا جذريا لهذه المهام.
كانت عمليات الانتشار على نطاق واسع وعلى الأمد البعيد, باهظة التكاليف من حيث التكلفة البشرية، والمالية والسياسية بالنسبة للدول.
كما كلف الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان أكثر من مليار دولار أميركي, أي ما يعادل 724 مليار جنيه إسترليني, بالإضافة إلى أرواح الآلاف من كل الأطراف, من القوات الأفغانية، والمدنيين الأفغان، والقوات الغربية وأعدائها المتمردين.
في ذروة تواجد القوات العسكرية الغربية في العام 2010, كان هناك 100 ألف جندي غربي على الأراضي الأفغانية, ولكن اليوم، بعد 20 عاما من الوجود في هذا البلد، يغادر بضعة آلاف من الجنود المتبقين في اللحظة التي تبدو فيها حركة الطالبان مستعدة للاستيلاء على المزيد والمزيد من الأراضي.
كعب أخيل:
كلما طال أمد المشاركة العسكرية في مكافحة التمرد وازدادت أهميتها، ازداد في المقابل, ضعفها أمام مختلف “كعب أخيل” المحتملة، والأكثر وضوحا هو مدى الخسائر وهو اتجاه قد لا يحظى بشعبية كبيرة في البلد.
لقي أكثر من 58 ألف جندي أمريكي حتفهم في حرب فيتنام، فيما لقي ما يقرب من 15 ألف جندي سوفييتي مصرعهم في أفغانستان, كما فقدت فرنسا أكثر قليلا من 50 جنديا في مالي منذ العام 2013, جميع هذه العوامل عجلت من نهاية تلك الحملات…
ثم هناك التكلفة المالية، التي تتجاوز حتماً كل التوقعات, عندما بدأت المملكة العربية السعودية عمليات التدخل العسكري في الحرب الأهلية الدائرة في اليمن منذ أواخر مارس من العام 2015, لم تكن تتوقع استمرار العمليات القتالية هناك لست سنوات, ناهيك عن بلوغ التكلفة التقديرية لهذا التدخل على الخزانة السعودية حتى الآن نحو 100 مليار دولار, أي ما يعادل 72.4 مليار جنيه إسترليني.
كما يمكن أيضا للشواغل والمخاوف التي تتعلق بحقوق الإنسان أن تعرقل الحملة العسكرية عندما يكون أقل ما يتوقع منها.
إن الضربات الجوية الأمريكية التي استهدفت حفلات الزفاف في أفغانستان، والضربات الجوية السعودية التي قتلت المدنيين في اليمن وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها القوات الإماراتية في ذات البلد، جميعها جاءت على حساب سمعة تلك الدول.
وفي حالة الإمارات، كان لقصص السجناء الذي لقوا مصرعهم جراء اختناقهم أثناء حبسهم في حاويات, تأثير كبير على عملية انسحابهم من الحرب في اليمن.
ثم هناك إمكانية أن الحكومة المضيفة سوف ينتهي بها المطاف بتقاسم السلطة مع كيان معادي.
هدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صراحة بسحب القوات الفرنسية, بعد نشر تقارير تفيد بأن الحكومة المالية منخرطة في محادثات سرية مع الجهاديين.
وفي العراق، وفقا لما ذكره العقيد المتقاعد من الجيش البريطاني جيمس كونليف، فإن “النفوذ الإيراني لا يزال مصدر قلق حقيقي”.
وفي أفغانستان، من المتوقع أن تعود حركة طالبان التي أطيح بها من على كرسي السلطة في العام 2001, وبهذا الصدد, يقول مسؤولو الأمن الغربيون إنه إذا انتهى بهم المطاف في الحكومة، فإن كل التعاون الاستخباراتي سوف يتوقف.
ومن الواضح أنه لا توجد إجابة سهلة لمشكلة الدول الفاشلة والدكتاتوريات الخطيرة.
ولننظر إلى بعض الأمثلة الأخيرة:
– في العراق منذ العام 2003 وحتى الآن: غزو عسكري واسع النطاق بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبدعم من بريطانيا، أعقبه سنوات من الاحتلال والتمرد الدموي.
وعلى الرغم من العديد من أوجه التقدم الأخيرة، فإن التجربة كانت مؤلمة إلى درجة أنها كانت كافية لردع السياسيين عن أي تدخل عسكري واسع النطاق في الشرق الأوسط لمدة جيل أو أكثر.
– في ليبيا منذ العام 2011 وحتى الآن: منطقة حظر طيران فرضتها الأمم المتحدة، ولكن دون وجود غربي كبير على الأرض, وهذا كان كافياً للسماح للثوار المناهضين لنظام القذافي بالإطاحة بالرئيس الليبي ونظامه في العام 2011, ولكن البلد انزلق بعد ذلك في مستنقع حرب أهلية وتمرد جهادي, ثم تحول الامتنان الأولي لليبيين إلى غضب، جراء “التخلي” عنهم من جانب الغرب.
– في سوريا منذ العام 2011 وحتى الآن: إحجام قوي من قبل القوى الغربية عن المشاركة في الحرب الأهلية السورية الدائرة بين الرئيس بشار الأسد والمتمردين, وترك باب التدخل مفتوح أمام القوى الكبرى: روسيا وإيران وتركيا, والحاصل اليوم, عشر سنوات من العنف لا تزال مستمرة في سرد فصولها حتى اليوم.
– تنظيم الدولة الإسلامية أو ما يعرف أيضا باسم تنظيم داعش من العام 2014 وحتى العام 2019: النجاح العسكري الوحيد الواضح هو انتصار تحالف دولي مكون من 80 دولة, حيث تمكن من هزيمة وتفكيك في نهاية المطاف تنظيم الخلافة الوحشية المعروفة باسم تنظيم الدولة الإسلامية, ولكن الأمر استغرق خمس سنوات واستند إلى حد كبير إلى القوة الجوية المدمرة والتحالفات على أرض الواقع، مع وجود قوات تدعمها إيران في العراق, واليوم, يقوم تنظيم الدولة الإسلامية بتكثيف عملياته في القارة الأفريقية.
– في مالي منذ العام 2013 وحتى الآن: أنقذ التدخل العسكري الفرنسي الأولي العاصمة المالية باماكو من غزو شبه مؤكد, قام به الجهاديين المنتسبين إلى تنظيم القاعدة, ولكن بعد مرور ثماني سنوات على ذلك، وعلى الرغم من وجود الآلاف من الجنود المتعددي الجنسيات، إلا أن التمرد لا يزال مستمراً، وقد أعرب الرئيس الفرنسي عن عدم رضاه عن القيادة في مالي واعتزامه الحد من مشاركة القوات الفرنسية.
إذاً لم تعد عمليات الانتشار العسكرية الكبيرة إلى أجل غير مسمى موجودة، فما الذي سوف يحل محلها؟
في الخطاب الذي ألقاه في 2 يونيو المنصرم, رئيس هيئة الأركان العامة للمملكة المتحدة، الجنرال مارك كارلتون سميث، خلال المؤتمر الذي نظمه المعهد الملكي للخدمات المتحدة المعني بالحرب البرية، يقدم مؤشرا على ذلك, حيث قال : أن جيش اليوم سيكون “أكثر ارتباطا، وأكثر إسهاما، وأسرع انتشارا، وأكثر ارتباطا بالعدد، كما سوف يكون الجندي مرتبط بشكلٍ مباشر مع الأقمار الصناعية ويتركز على لواء العمليات الخاصة”.
إن خفض التواجد العسكري على ارض الميدان يعني حتماً زيادة الاعتماد على التكنولوجيات الرقمية المتقدمة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي.
وفي المقابل, أدت الاتجاهات الناشئة عن الصراعات الأخيرة إلى إعادة التفكير جذريا في الأولويات الاستراتيجية.
خيم على الحرب القصيرة التي شهدتها منطقة القوقاز بين أذربيجان وأرمينيا، تدمير الدبابات التابعة للجيش الأرميني, وذلك بواسطة تسير طائرات بدون طيار رخيصة التكلفة زودت بها تركيا حليفها الأذربيجاني, ووجهت إلى أهدافها دون أي خطر تقريبا على المشغلين.
وقد عاد المرتزقة الذين كانوا يعتبرون ذات يوم جزءاً من فترة ماضية في إفريقيا إلى حيز النفاذ.
“حرب بدون دولة”
المثال الأكثر وضوحاً هو المجموعة الروسية “فاغنر- Wagner ” – شركة عسكرية روسية خاصة تستخدم الارتزاق، وتنشط بشكل خاص أثناء حرب في الدونباس أو ما يعرف أيضا بحرب أوكرانيا والحرب الأهلية السورية ولكن أيضاً في مناطق الصراع الأخرى في مختلف أنحاء العالم ترتبط هذه المنظمة شبه العسكرية بالحكومة الروسية- من أجل الدفاع عن مصالح روسيا الخارجية التي سمحت لموسكو بالحصول على “إنكار معقول” بينما تعمل مع القليل من القيود في مناطق الصراع، من ليبيا إلى غرب أفريقيا عبر موزامبيق.
يرى الدكتور شون ماكيايم, وهو عضو كبير في المجلس الأطلسي الذي يتخذ من العاصمة واشنطن مقرا له، إن ” نظام عالمي محوره الدولة, يفسح المجال أمام حرب بدون دولة”, ولا يعني أي من هذا إنهاء البعثات العسكرية في الخارج.
في منطقتي مالي والساحل، قد يضع الفرنسيون حدا لعملياتهم في بارخان, أحادية القطب, كما وقد يعيدون آلاف الجنود إلى ديارهم.
ولكن هذا لا يعني أن بعثة الأمم المتحدة قد انتهت، حيث لا يزال الفرنسيون يحتفظون بقوة مخفضة تشارك في بعثة متعددة الجنسيات لمكافحة الإرهاب.
وفي العراق، سوف تواصل بعثة منظمة حلف شمال الأطلسي مهمة تدريب القوات المحلية لمكافحة التمرد وتقديم الدعم التقني لها.
بيد أن الوجود العسكري الغربي في أفغانستان يتلاشى في الأفق في وقت قد تكون فيه الحاجة ماسة إلى التصدي للتهديد المشترك لحركة طالبان وتنظيم القاعدة و داعش.
* المادة الصحفية تم ترجمتها حرفياً من المصدر وبالضرورة لا تعبر عن رأي الموقع