السياسية:

منذ زمن بعيد، كانت القوة الصلبة “Hard Power” هي العمود الفقري الذي تستند إليه الدول والإمبراطوريات، التي تظل تنشد امتلاك قوة عسكرية هائلة ومتطورة، وكانت الجيوش تسعى إلى تطوير أدوات الحرب. ولهذا، يمنح ظهور أداة قتالية جديدة (اختراع العجلات الحربية في الماضي السحيق، واختراع البارود في العصور الوسطى)، أو أساليب متطورة لإدارة الجيوش وساحات المعارك؛ أصحابها الهيمنة العسكرية لفترات زمنية طويلة، التي قد تمتد لعقود أو قرون.

ومثلما كان القرن الماضي شاهداً على التطور التكنولوجي الهائل للمجتمعات البشرية؛ فإنه شهد أيضاً تطورات متلاحقة في أدوات الحرب وتقنياتها، وقد كانت حروب القرن الماضي حافزاً للعقل البشري على إحداث ثورة في الأنظمة العسكرية، ليس فقط لتحقيق الانتصارات في ساحات القتال، ولكن لخلق قوة الردع التي تمنع نشوب الحروب من الأساس.

وتستمر الأسلحة الدقيقة، ومعالجة البيانات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والحرب الإلكترونية، والأسلحة التي تفوق سرعة الصوت في الفضاء، والهجمات السيبرانية غير المُحدَّدة جغرافياً والعابرة للحدود، في إعادة تشكيل الحرب الحديثة بطرقٍ غير مُتوقَّعة، مِمَّا يُلهِم دفعة تحديثٍ ضخمة للبنتاغون الأمريكي لتشمل جهوداً للعثور على أفضل ابتكارات الحرب وأكثرها تأثيراً، كما يقول تقرير لمجلة National Interest الأمريكية.

حروب المستقبل.. ساحات معركة شديدة النشاط

من المُرجَّح أن تُحسَم الحروب المستقبلية في مجال “شبكات المعلومات فائقة السرعة”، وترقيات البرامج التي تشمل الذكاء الاصطناعي، والاستشعار بعيد المدى، والأسلحة الدقيقة، وربما الأهم من ذلك كله هو دورة القرار من جهاز الاستشعار إلى مُطلِق الضربات. كثيراً ما قال قائد “قيادة مستقبل الجيش الأمريكي”، الجنرال جون موراي، إن مستقبل الحرب من المُتوقَّع أن يكون ما سماه “ساحات معركة مُفرِطة النشاط”. 

جزء من نظرة أولئك الذين يتطلَّعون إلى مستقبل الحرب على مدار عقودٍ قادمة الآن يتعلَّق أيضاً بمبادئ ثابتة مُحدَّدة، وعلى الرغم من التغيُّر التكنولوجي وتطوُّر المجتمع، تظلُّ هذه المبادئ ركائز فكرية أساسية لكسب الحرب. إحدى هذه الركائز هو “الكتلة”. في نهاية المطاف، يجب احتواء قوة معادية أو إخضاعها أو تدميرها أو إضعافها إلى درجة أن تفقد الرغبة في القتال. قد تكون التشكيلات الكبيرة ضروريةً دائماً لتحقيق ذلك. 

يرى اللواء المتقاعد مايكل ماكغواير، الرئيس السابق لمجلس إدارة جمعية الحرس الوطني للولايات المتحدة، أنه في حين أن التقدُّم التكنولوجي، مثل الذكاء الاصطناعي، والحرب الإلكترونية السيبرانية، والقوى الجوية الشبحية، والترسانة الجديدة تماماً من أنظمة الأسلحة بعيدة المدى والمُوجَّهة بدقة، والشبكات الثقيلة، تستمر في تحويل الحرب الحديثة على نطاقٍ واسع، لا تزال هناك دائماً حاجةٌ ماسَّة إلى قوةٍ “جماهيرية” من أجل الانتصار في الحرب في نهاية المطاف. 

يقول ماكغواير لمجلة ناشيونال إنترست: “أعتقد أن مبدأ (الكتلة) الذي وضعه صن تزو لا يزال يمثِّل جزءاً مهماً مِمَّا نقوم به. من الصائب أنك لا تزال بحاجةٍ إلى أن تكون قادراً على التعبئة”. 

علاوة على ذلك، فإن إيمان ماكغواير بأهمية حجم القوة يعزِّزه مشهد التهديد الحالي. تشير نظرةٌ سريعةٌ على تقييمات القوات العسكرية لعام 2021 التي يصدرها موقع Globalfirepower.com إلى أن الصين، على سبيل المثال، تحافظ على قوةٍ نشطة قوامها 2.1 مليون جندي، مدعومةً بقدرةٍ على التمدُّد إلى 3.3 مليون جندي احتياطي وقوات شبه عسكرية. وبينما تركِّز الولايات المتحدة بشدة على الابتكارات التي ستساعد القوات على القتال وتحقيق النصر، في وقتٍ تكون فيه أقل عدداً من الخصم، فإن عدداً أكبر سيكون أيضاً، على الأرجح، ضرورياً إلى حدٍّ كبيرٍ للانتصار في الحرب. 

الذكاء الاصطناعي سيغير طريقة خوض الحروب لكن ليس طبيعتها

من جانبه، يقول كريستيان بروس الخبير في الشؤون العسكرية الأمريكية، في مقال بمجلة “فورين أفيرز” الأمريكية إن تطور التقنيات والفكر العسكري الأمريكي قد توقف عند مرحلة زمنية معينة، حيث عانى الجيش الأمريكي في حروبه الأخيرة. فعلى الرغم من أنه لم ينهزم بالمعنى العسكري، إلا أن جيوشاً وجماعات عسكرية ذات إمكانيات محدودة تمكّنت من إلحاق خسائر مادية وبشرية ضخمة به.

يُناقش بروس هذه المعضلة في مقالته التحليلية المعنونة “الثورة الجديدة في الشؤون العسكرية: مستقبل حرب الخيال العلمي”، حيث يرى أن الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات التكنولوجية الناشئة ستغير طريقة خوض الحروب، لكنها لن تغير طبيعتها، حيث ستظل كما هي دائماً: عنيفة، وذات دوافع سياسية. وتتكون من ذات الوظائف الأساسية الثلاث التي يتعلمها المجندون الجدد في التدريب الأساسي: الحركة، وإطلاق النار، والتواصل.

ويُشير إلى أن الحركة في الحرب تستلزم التناوب بين عمليتي الاختباء والبحث، وكذلك بين عمليتي الاختراق والصد، لكن التقدم التكنولوجي سيجعل عمليات الاختفاء والاختراق أكثر صعوبة، إن لم تكن مستحيلة. ويُضيف أن كمية البيانات التي يتم إنشاؤها بواسطة الأجهزة المتصلة بالإنترنت من المقدر أنها أصبحت 3 أضعاف في الفترة بين عامي 2016 و2021. والأهم من ذلك، هو انتشار أجهزة الاستشعار التجارية منخفضة التكلفة، التي يمكنها اكتشاف المزيد من الأشياء بشكل أكثر وضوحاً عبر مسافات كبيرة.

وبعدما كان العالم يسير في اتجاه الحروب عن بعد، وعدم الميل للتواجد المادي الكثيف في ساحات المعارك؛ يعتقد بروس أن عقارب الساعة ستعود إلى الوراء مُجدداً. فالتقدم التكنولوجي مكّن العالم من توليد أنظمة حركة ذات أحجام أصغر وبتكاليف أقل وذاتية التشغيل، وقادرة على السفر إلى مسافات أبعد وبسرعات أكبر. ويتنبأ بأن المستقبل القريب قد يشهد ظهور عشرات السفن (التي تشبه القوارب الصاروخية) وتعمل بشكل ذاتي، أي تكون جاهزة للضرب مع ظهور الأهداف مباشرة.

ويُضيف: ستعمل التكنولوجيا أيضاً على حل أكبر معضلات الجيوش في الحروب التقليدية، وهي القدرات اللوجستية (القدرة على تزويد الجيوش بالطعام والوقود وجلب جنود جُدد وترحيل المصابين)، حيث ستتمتع الجيوش الحديثة بأكبر قدر من الإدارة الذاتية، بحيث تحتاج إلى وقود أقل، وربما لا تحتاج إلى طعام على الإطلاق. ويذكر أن أساليب التصنيع المتقدمة، مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد، ستُقلل من الحاجة إلى شبكات لوجستية عسكرية واسعة ومحفوفة بالمخاطر ومُكلفة، وذلك من خلال إنتاج السلع المعقدة في نقطة الطلب بسرعة وبتكلفة رخيصة وبسهولة.

كيف سيكون شكل حروب المستقبل؟

يرى الخبراء العسكريون أن انخراط التكنولوجيا في الحروب سيصل إلى مرحلة إطلاق النيران، والتي ستتغير بشكل جذري، بالمعنيين الحرفي والمجازي. فمن ناحية، ستصبح الهجمات الإلكترونية- من تشويش على الاتصالات وغيرها من الهجمات على برامج النظام- بنفس أهمية الهجمات التي تستهدف الأهداف العسكرية، إن لم تكن أكثر أهمية.

ومن ناحية أخرى، سوف يتسارع معدل إطلاق النار أو مدى سرعة إطلاق النار في ساحات المعارك، وذلك بفضل التقنيات الجديدة، مثل الليزر وغيره من الأسلحة الموجهة. ولكن الطفرة الحقيقية ستنشأ بفعل أنظمة ذكية ستعمل على تقليل الفترة الزمنية بين وقت تحديد الأهداف ووقت مهاجمتها. 

فجيوش المستقبل ستكون قادرة على إطلاق النار بكثافة أكبر من تلك الموجودة اليوم، بسبب الذخائر التي تفوق سرعة الصوت (حيث تتعدى سرعتها خمسة أضعاف سرعة الصوت)، والأسلحة الفضائية القادرة على ضرب أهداف في أي مكان في العالم على الفور تقريباً.

كذلك، ستكون الجيوش قادرة على مهاجمة الملاذات الآمنة، مثل الشبكات الفضائية واللوجستية. وبالتالي لن تكون هناك مناطق خلفية أو ملاذات آمنة بعد الآن. فالقدرة على امتلاك الأنظمة العسكرية ذات الكفاءة النوعية والكميات الضخمة ستكون لها آثار مدمرة، خاصة أن التكنولوجيا تجعل الحمولات الفتّاكة أصغر حجماً.

وعلى نطاق آخر، فإن الطريقة التي تتواصل بها الجيوش ستتغير جذرياً، ولن تنجو شبكات الاتصالات التقليدية في المستقبل. وهنا يجب الإشارة إلى أن أهمية القيادة المركزية في عمليات الاتصال سوف تختفي، وسيكون كل نظام قادراً على معالجة المعلومات التي يجمعها بشكل مستقل، دون الاعتماد على مركز قيادة، مما يجعله أكثر مرونة حركيّاً في أرض المعركة

عربي بوست