بقلم: يوشكا فيشر*

( موقع “ميديا 24- medias24” المغربي, الناطق باللغة الفرنسية- ترجمة: أسماء بجاش, الإدارة العامة للترجمة والتحرير الأجنبي “سبأ”)

طغى على هذا العقد من الزمان بالفعل عودة التنافس بين القوى الكبرى، بالإضافة إلى تفشي جائحة الفيروس التاجي، وهو ما يعتبر بمثابة تطور يهدد بشكل خاص السلام في العالم.

خلال القرن العشرين برزت ثلاث حروب عالمية، اثنتان منها “ساخنة” وواحدة باردة، حيث سلطت الضوء على مخاطر المنافسة الجيوسياسية ذات المخاطر الكبرى.

برلين ــ بالنسبة للعديد من المراقبين، يبدو أن عصر المواجهة بين القوى الكبرى قد انتهى أخيراً بانهيار الاتحاد السوفييتي, ولكن تبين أن هذا التخمين كان واحداً من أخطر الأخطاء التي وقعت في فترة ما بعد الحرب الباردة, وهي الفترة الغنية بالأخطاء الوخيمة والهائلة.

لقد تبين أن افتراض وجود إمبراطورية عالمية تحكمها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تحلم بها النخبة السياسية الأميركية، من عصر أحادي الجانب حقا في تاريخ العالم، كان بمثابة حلم بعيد المنال, تماما مثل حلم “السلام الأبدي” الذي توقعه الأوروبيون بعد “نهاية التاريخ” في العام 1989, عندما كان من المفترض أن تسود الديمقراطية الليبرالية الغربية واقتصاد السوق على كل الخيارات الأخرى.

بل على العكس من ذلك، اتسمت العقود التي أعقبت فترة نهاية الحرب الباردة بتآكل النظام الدولي.

وبوصفها القوة العظمى الأخيرة، استنفدت الولايات المتحدة نفسها في حروب لا معنى لها في بلاد ما بين النهرين وهندوكوش, ومنذ ذلك الحين انقلبوا على أنفسهم.

لقد بدأ النظام الدولي الذي وضعته النخب الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية في التفكك، وخلق فراغ في السلطة سعت القوى الأخرى مثل روسيا والصين وتركيا وإيران والمملكة العربية السعودية إلى ملئها.

والأسوأ من ذلك أن مخاطر الانتشار النووي عادت للظهور بشكلٍ مفاجئ إلى الصدارة مع تشكيل ترساناتها النووية بواسطة قوى إقليمية أصغر حجما.

فراغ السلطة:

وبالإضافة إلى ذلك، برزت الصين على مدى العقد الماضي كقوة عالمية قادرة على تحدي قوة الهيمنة القائمة, حيث ظهر هذا التنافس الجديد بالكامل بعد فوز دونالد ترامب في سباق الانتخابات الأمريكية في العام 2016.

ثم بدأت الولايات المتحدة تتبع أجندة قومية في الأساس والفوضى داخل النظام العالمي, التي نشأت على نحو متزايد من النخب الحاكمة.

لم يكن فراغ السلطة الناتج في أي مكان أكثر وضوحا من الحاصل في منطقة الشرق الأوسط, حيث كانت الولايات المتحدة قد أنهت الحرب العبثية والمدمرة في العراق لتركيز عملياتها ضد تنظيم الدولة الإسلامية أو ما يعرف بتنظيم داعش في سوريا.

وبعد أن ضمنت الولايات المتحدة أمن إمداداتها من الطاقة بفضل النفط والغاز الصخري، سعت إلى انسحاب أكثر اكتمالا للأفراد العسكريين والمعدات العسكرية من هذه المنطقة.

وفي الوقت نفسه، كانت إيران في وضع يسمح لها بالاستفادة من رحيل القوات الأمريكية, وسرعان ما وجدت نفسها في موقف من المواجهة المتنامية مع المملكة العربية السعودية والإمارات الخليجية وإسرائيل من أجل الهيمنة الإقليمية، الأمر الذي أدى إلى اندلاع حرب مروعة بالوكالة في اليمن.

الصراع الإسرائيلي الفلسطيني:

لم توضح إدارة ترامب عزمها على سحب قواتها العسكرية من المنطقة فحسب، بل تخلت أيضاً عن الدور التقليدي الذي تلعبه الولايات المتحدة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

كما دافعت الإدارات الأميركية المتعاقبة, لعقود من الزمان، عن مبدأ حل الدولتين والتوصل إلى حل وسط وعادل بين إسرائيل والفلسطينيين، في حين ظلت مصممة على حماية الدولة العبرية, ولكن إدارة ترامب انحازت بلا شروط إلى جانب إسرائيل، وبالتالي أعطت الانطباع بأن الفلسطينيين لم يعد لهم رأي.

وهذا النهج، مقترنا بالخطر الذي يمثله النظام الإيراني, والذي أدى بالتأكيد إلى إقامة علاقات دبلوماسية بين الدولة العبرية وأربع دول عربية، بما في ذلك دولتان خليجيتان: الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين.

ولكن نظراً للمواجهة المسلحة الأخيرة بين حركة حماس وإسرائيل، فقد تحطم خيال إبعاد الفلسطينيين إلى الأبد, حيث شمل اندلاع العنف الأخير اشتباكات عنيفة داخل ساحات المساجد، لم يسبق لها مثيل مقارنة بالحوادث السابقة بين المواطنين اليهود والعرب الإسرائيليين في المدن التي يعيشون فيها داخل إسرائيل, لذا يجب استخلاص أربعة دروس طالما استمر وقف إطلاق النار الحالي.

أولا: قبل كل شيء، حتى ولو لم يكن الحل القائم على حل الدولتين يبدو واقعيا للغاية في الوقت الراهن، فإن نبذه على المستوى السياسي سوف يؤدي بشكل مباشر إلى مواجهة أكثر عنفا.

ثانيا: لن يظل الفلسطينيون والإسرائيليون العرب مكتوفي الأيدي ولن يتسامحوا مع تجاهلهم في الاتفاقيات السياسية الإقليمية.

ثالثا: لا يمكن أن يستمر الاحتلال الإسرائيلي إلى ما لا نهاية.

وأخيرا: لا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية ببساطة أن تتخلى عن المنطقة بسبب الافتقار إلى الاهتمام، على الأقل إذا كانت تريد الاحتفاظ بدورها كقوة رائدة في العالم.

استقرار منطقة الشرق الأوسط يعتمد على الولايات المتحدة:

لقد كشف استئناف الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني عن التوزيع الحقيقي للسلطة في الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من كل التطورات في العقود الأخيرة، فإن الحقيقة أن استقرار المنطقة, يعتمد على الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من أنهم لم يعودوا يرغبون في التورط في المنطقة، فليس أمامهم خيار سوى الاستمرار في ذلك، خشية أن يتحول الصراع الإقليمي إلى حرب عالمية تنطوي على مخاطر نووية.

وبعبارة أخرى، يمكننا القول بأن منطقة الشرق الأوسط هي اليوم بلقان هذا القرن, وكما حدث في يوغوسلافيا السابقة في تسعينيات القرن الماضي، فإن الولايات المتحدة هي القوة العالمية أو الإقليمية الوحيدة القادرة على ضمان السلام الإقليمي أو على الأقل منع نشوب حرب شاملة.

تود روسيا أن تضطلع بهذا الدور، ولكنها لا تملك الوسائل, حيث يعود تمكنها من التدخل في سوريا بقدر ما فعلت ذلك, فقط لأن الولايات المتحدة رفضت الاضطلاع  به.

أما بالنسبة للصين، فليس لديها مصلحة في الاضطلاع بدور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولا الوسائل للقيام بذلك حتى لو رغبت في ذلك, نظراً لكون النظام الشيوعي الصيني ببساطة لا يملك العقلية اللازمة لكي يصبح الضامن لنظام عالمي يتجاوز حدوده.

وماذا عن أوروبا؟

على الرغم من أنها ستكون أحد الضحايا الرئيسيين لزعزعة الاستقرار الإقليمي، فإنها لم تعد قوة يمكن حسابها.

وبالتالي, فقد قللت من مشاركتها في تقديم المساعدات المالية استجابة للأزمة الأخيرة, ومع ذلك، فإنها لا تزال تؤدي دورا داعما هاما.

وفي الأخير، تسعى تركيا من بين الجهات الفاعلة الإقليمية إلى المشاركة بقدر أكبر، ولكن في نفس الوقت تعوقها نقاط ضعفها الخاصة والتاريخ المضطرب للدور الذي لعبته الإمبراطورية العثمانية في منطقة الشرق الأوسط.

في حين يقتصر دور إيران والمملكة العربية السعودية على متابعة مطالبهما بالهيمنة داخل العالم الإسلامي, وسوف تظل إسرائيل مركزة على دفاعها.

لذلك كل ما تبقى هو الولايات المتحدة, وعلى الرغم من الأخطاء التي ارتكبوها في الماضي في السياسة الخارجية، فإنهم البلد الوحيد الذي يتمتع بالعقلية السياسية اللازمة والقوة التكنولوجية والاقتصادية والعسكرية لممارسة النفوذ المعتدل في المنطقة.

وسيكون أسوأ تطور بالنسبة للنظام الدولي استمرار ميل الولايات المتحدة الأمريكية نحو العزلة الذاتية, حيث سبق وأن أثبتت فترة رئاسة ترامب بالفعل مدى خطورة هذا الأمر.

* يوشكا فيشر: وزير الخارجية الألماني ونائب المستشار الألماني في الفترة من 1998 إلى 2005, زعيم سابق لحزب الخضر الألماني لما يقرب من 20 عاما.

*      المادة الصحفية تم ترجمتها حرفياً من المصدر وبالضرورة لا تعبر عن رأي الموقع