السياسية:

“يد تصافح حماس وأخرى لإسرائيل”، كانت هذه أبرز نتائج الدور المصري في حرب غزة، التي كان أحد مظاهرها زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكنازي للقاهرة، وهي أول زيارة لوزير خارجية إسرائيلي لمصر منذ 13 عاماً

لم تكن الصور الأخيرة التي تصدرت الصفحات الأولى لاجتماعات بين مسؤولين مصريين وإسرائيليين صوراً عادية، لا سيما أنها نشرت للجمهور على نطاق واسع.

يظهر في الصور وزير الخارجية الإسرائيلي، غابي أشكنازي، جالساً أمام الكاميرات في القاهرة، في أول زيارة من نوعها منذ عام 2008، والأكثر إثارة للدهشة، صور رئيس المخابرات العامة المصرية، عباس كامل، وهو يصافح بود رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في القدس.

وفي الوقت ذاته كانت صور العناق والمصافحات بين عباس كامل ويحيى السنوار، رئيس حركة حماس في غزة والذي يعد واحداً من أبرز أعداء إسرائيل، تملأ وسائل الإعلام أيضاً.

مكّنت حرب غزة القاهرة من استعادة نفوذها بشكل كبير، ولكن اللافت أن القاهرة تعيد هذا النفوذ بقدر من العلنية في التعامل مع حماس وإسرائيل على السواء. 

وازدهرت العلاقات بين إسرائيل ومصر منذ وصول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، لكن نادراً ما رُوِّج لهذه العلاقة على هذا النحو العلني، حسبما ورد في تقرير لموقع The Times of Israel الإسرائيلي.

يقول إسحق ليفانون، السفير الإسرائيلي السابق في مصر، إن “معظم الاجتماعات كانت تُعقد في شرم الشيخ. أما الآن، فإن أشكنازي دُعي إلى القاهرة. وهذا أمر له مغزى آخر عند الحكومة المصرية، ولدى الشعب المصري”.

الدور المصري في حرب غزة يهمش التطبيع الإماراتي

كشفت الأزمة الأخيرة بين إسرائيل وقطاع غزة عن فرصةٍ سانحة للقاهرة لتبرز نفسها فاعلاً إقليمياً. كما أنها أتاحت للمصريين -الذي احتلوا مقعداً خلفياً في هذا السياق على مدار الأشهر القليلة الماضية- استعادة الأضواء من الإمارات والبحرين، اللتين نالتا استحساناً في العواصم الغربية لتطبيعهما العلاقات مع إسرائيل العام الماضي، حسب الموقع الإسرائيلي.

من الواضح أن التطبيع الإماراتي لم يهدد مكانة القاهرة كوسيط بين الفلسطينيين وإسرائيل فقط، بل يهدد أيضاً زعامة القاهرة الثقافية والحضارية للمنطقة العربية إذا ما أزيل حاجز العداء العربي، والأسوأ أن التطبيع الإماراتي الإسرائيلي يركز على التعاون في مجال النقل بما في ذلك خطط لإيجاد منافسين أو بدائل لقناة السويس مثل خط أنابيب إيلات عسقلان، إضافة إلى قلق القاهرة من العلاقة المريبة بين إسرائيل والإمارات من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى.

وكانت حرب غزة فرصة لا تعوّض للقاهرة لاستعادة زمام المبادرة من الإمارات، وإظهار دورها الذي لا يستغنى عنه في الصراع العربي الإسرائيلي.

رئيس حركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار يعانق رئيس المخابرات المصرية عباس كامل، 31 مايو 2021/ رويترز

وربما الأهم من ذلك، أن الأزمة جعلت الولايات المتحدة تلتفت إلى نظام عادةً ما يُنتقد بسبب سجله السيئ في مجال حقوق الإنسان. ومن جانب القاهرة، فإن إظهار دورها على أنها صانعة سلام هو جزء أساسي من الصفقة.

يقول أوفير وينتر، وهو متخصص في العلاقات المصرية الإسرائيلية في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، إن “مصر تريد لحضورها كقوة إقليمية أن يكون محسوساً، وتريد أن تبرهن للولايات المتحدة والغرب والاتحاد الأوروبي على أنها طرف إيجابي ومرتكز استراتيجي، رغم أي تأنيب ينال من ضمائرهم فيما يتعلق بسجلها في حقوق الإنسان والديمقراطية”، وقد حقق الدور المصري في حرب غزة هذا الهدف فعلاً على ما يبدو.

منذ الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي في عام 2013، سعى نظام السيسي إلى توثيق العلاقات مع إسرائيل، لدرجة أن السفير السابق في مصر حاييم كورين وصف العلاقات الأخيرة بين البلدين بأنها “في أفضل مستوى وصلت إليه على الإطلاق”.

لكن في السنوات السابقة، ربما كان يشعر نظام السيسي بأنه لا يستطيع إظهار علاقاته مع إسرائيل علناً، ربما قلقاً من ردود فعل داخلية حادة. 

ولطالما حافظت مصر على نوع من السلام البارد مع إسرائيل منذ معاهدة السلام عام 1979، وغالباً ما يواجه المواطنون الذين يجهرون بتطبيع العلاقات عقوبات من الهيئات المرتبطة بالحكومة.

ومع ذلك، فإن اتفاقيات إبراهام التي وُقعت العام الماضي -والتي أطلقت عمليات تطبيع لإسرائيل مع 4 دول عربية على مدى بضعة أسابيع- قد غيَّرت الوضع الإقليمي تغييراً جذرياً.

يرى الدبلوماسي المصري السابق عز الدين شكري فشير أنه “منذ التطبيع الإماراتي والبحريني والمغربي والسوداني مع إسرائيل فإن المعايير تغيرت. ويمكن للعالم العربي الآن أن يقول ويفعل أكثر من ذي قبل”.

في غضون ذلك، سحقت الحكومة في مصر أي معارضة لها أو ألقتها في غياهب السجون بلا هوادة. وتشير تقديرات لمنظمات حقوقية إلى أن نحو 60 ألف سجين سياسي معتقلون الآن في السجون المصرية، حسب تقرير The Times of Israel.

وعلى الرغم من أن العدوان الأخير على غزة حفَّز دورةً من مظاهرات التضامن الشعبي مع القضية الفلسطينية في جميع أنحاء العالم العربي، فإن شوارع القاهرة ظلت خالية، ولكن وسائل الإعلام أظهرت دعماً واضحاً للشعب الفلسطيني، وإشادة غير مسبوقة بأداء المقاومة الفلسطينية بما فيها حركة حماس.

أول محادثة هاتفية مع بايدن

لم يتحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن مع السيسي لما يقرب من 5 أشهر بعد توليه منصبه في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي. وكان بايدن قد تعهد باتخاذ منحى أشد انتقاداً تجاه النظام المصري من سلفه دونالد ترامب، الذي تفاخر علناً بعلاقاته الوثيقة مع السيسي.

ومع ذلك، فإن الدور المصري في حرب غزة أجبر واشنطن على الاعتماد اعتماداً أكبر على القاهرة، فهي أحد المحاورين الإقليميين القلائل الذين لديهم تواصل مع كل من إسرائيل وحركة حماس. ومن ثم، تحدث بايدن إلى السيسي مرتين خلال الأزمة الأخيرة.

وزار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن العاصمة المصرية في أثناء جولته الإقليمية عقب وقف إطلاق النار. كما أشاد بلينكن بالدور المصري في التفاوض من أجل وقف إطلاق النار.

وحصل موضوع حقوق الإنسان على التفاتة سريعة في النهاية من بلينكن، إذ قالت وزارة الخارجية الأمريكية إن المسؤولين أجريا “حواراً بناءً” حول هذه المسألة.

وقال بلينكن في وقت لاحق للصحفيين في عمّان إنه أجرى محادثات مطولة مع السيسي حول حقوق الإنسان، ورفض فكرة أن السيسي يتوقع من واشنطن التزام الصمت بشأن مخاوفها حيال حقوق الإنسان في مصر.

وسيط مقبول من كل الأطراف

لم يكن الدور المصري في حرب غزة هو الأول من نوعه، فقد شاركت القاهرة في التفاوض بشأن معظم اتفاقات وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركات المقاومة الفلسطينية منذ عام 2008. وربما يكون المصريون الوسيط الوحيد المقبول لجميع الأطراف: إسرائيل والسلطة الفلسطينية وحركة حماس والأطراف الإقليمية الأخرى مثل الإمارات والسعودية.

وهو ما أشار إليه محلل سياسي مصري في تصريحات لموقع The Times of Israel في مارس/آذار، قائلاً إن قطر، التي تعد الراعي الإقليمي لحركة حماس، لا تستطيع الاضطلاع بهذا الدور، لقربها الشديد من الحركة الإسلامية، والإمارات قريبة جداً من محمد دحلان، والسعوديين نأوا بأنفسهم كثيراً عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بحسب تقرير الموقع.

وكان لافتاً وجود تنسيق قطري مصري خلال حرب غزة، كما أعلن الجانبان عقب اتصال هاتفي بين وزير الخارجية المصري سامح شكري ونظيره القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، حيث أكد “استمرار التنسيق في الإطار الثنائي، كما في الأطر الإقليمية والدولية، بما فيه تحقيق مصلحة الشعب الفلسطيني، والتوصل إلى وقف لإطلاق النار”.

في المقابل، فإن كلاً من حماس والسلطة الفلسطينية علاقتهما متوترة مع الإمارات، لأسباب متعددة منها دور الإمارات في الترويج لصفقة القرن التي كان يمكن أن تؤدي فعلياً لابتلاع القدس ومعظم الضفة الغربية.

وسبق أن رفضت السلطة الفلسطينية مرتين تلقي مساعدات صحية أرسلتها أبوظبي، معلّلة رفضها بأنّ التنسيق الإماراتي تمّ مع إسرائيل، بدلاً من أن يتمّ معها.

وفي ظل حالة الجمود التي كانت تسود عملية السلام، كانت الإمارات تستطيع أن تقود الضغوط لنشر التطبيع في المنطقة، وهو ما بدا في الحالات البحرينية والمغربية والسودانية.

ولكن عند اندلاع أزمة القدس، ثم حرب غزة، فإن ظهور حماس كطرف فلسطيني قوي، جعل من لديه قناة حوار معها ومع إسرائيل هو الوسيط الأهم، وهذا ما حققته مصر، خاصة أنه في ضوء المصالحة مع قطر بات هناك تنسيق بين الطرفين، فيما تريد حماس تعزيز علاقتها مع القاهرة لتسهيل العمل على المعابر وإعادة الإعمار.

تبرع ضخم يفتح الباب لدور مصري في إعادة الإعمار

بعد حرب عام 2014 وعدوان إسرائيل على غزة، استضاف المصريون مؤتمراً ضخماً في القاهرة حول إعادة إعمار القطاع.

ومع الوقف الحالي لإطلاق النار، تأمل مصر في استضافة محادثات مماثلة حول إعادة إعمار غزة، وربما مؤتمر آخر للمانحين الدوليين. كما ستستضيف مصر قريباً محادثات غير مباشرة بين إسرائيل وحركة حماس قد تفضي إلى تبادل للأسرى بين الجانبين ووقف إطلاق نار طويل الأمد.

كما تعهدت مصر بتقديم 500 مليون دولار لجهود إعادة الإعمار، لكن يُستبعد أن تُسلَّم تلك الأموال لجهة أخرى، خاصة حماس. وبدلاً من ذلك، يقول خبراء إن شركات مقاولات مصرية هي التي ستتولى تنفيذ المشروعات بنفسها.

يقول وينتر، من معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، إن ذلك يعني أن “مصر ستصبح معبراً للتمويل، وأن شركات مصرية ستتولى تنفيذ مشروعات إعادة الإعمار. وهكذا، ستكون هناك استفادة سياسية، وأيضاً استفادة مالية مباشرة”.

بالإضافة إلى ذلك، أتاح الموقع الفريد للقاهرة أن تكون المستضيفة تقليدياً لمحادثات المصالحة بين الفصائل السياسية الفلسطينية. وقد أعلن محمود عباس يوم الأحد 30 مايو/أيار عن قبوله عرضاً مصرياً لعقد اجتماع فلسطيني آخر لقادة الفصائل لبحث الوحدة الفلسطينية التي طال انتظارها.

لكل هذا وغيره، يقول عز الدين شكري فشير: “لا توجد دولة أخرى يمكنها أن تضطلع بدور مصر في هذا السياق. ولما كان بايدن لديه نهج سلبي تجاه مصر، فإن مصر أشد اهتماماً بالاضطلاع بهذا الدور” في ظل الظروف الحالية.

عربي بوست