السياسية – رصد تلفزيوني :

في أقل من عام، تعود مالي مجدداً إلى واجهة السياسة الدولية مع انقلاب جديد نفذه جنود في وقت متأخر من أمس الاثنين، 24 مايو (أيار)، ضد الرئيس الانتقالي في البلاد باه نداو ورئيس وزرائه مختار عوان، احتجاجاً على تعديل حكومي أجرته السلطات الانتقالية، بعد انقلاب أغسطس (آب) الماضي، على الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا.

وعلى الرغم من التاريخ الطويل من الاضطرابات السياسية والأمنية الذي تشهده تلك الدولة الواقعة في منطقة الساحل الأفريقي (غرب)، منذ استقلالها عن فرنسا في 22 سبتمبر (أيلول) عام 1960، فإن تفاعل الأطراف الإقليمية والدولية بشكل متسارع مع أحداثها، سواء عبر “التدخل المباشر أو غير المباشر”، عكسه التدخل العسكري الفرنسي في مالي منذ يناير (كانون الثاني) 2013، وبعده بسنوات تدخلت دول المجموعة الخماسية لمنطقة الساحل (مالي وموريتانيا والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد)، عكس مدى ما تتمتع به تلك الدولة من أهمية استراتيجية على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

ويثير النزاع والتنافس السياسي المحتدم والمتواصل في مالي، هذه الدولة غير الساحلية والبالغ عدد سكانها 19 مليون نسمة، شكوكاً في شأن التداخلات الخارجية بها وتضارب مصالحها، تحت مظلة محاربة “الجماعات المتطرفة”، التي اتسع دورها منذ عام 2012 في شمال البلاد، وقادت لإطاحة الرئيس أمادو توماني توريه (تولى رئاسة البلاد في الفترة 2002 – 2010)، ثم تمدد نفوذها إلى وسط البلاد، وبوركينا فاسو والنيجر المجاورتين، على الرغم من عملية “سرفال” (برخان لاحقاً) العسكرية الفرنسية التي دخلت عامها التاسع.

نقمة “الثروة” والتنافس الدولي

في عام 2013، عكس التدخل العسكري الفرنسي الواسع في مستعمرتها السابقة مالي لحماية جنوبها من خطر السقوط بيد “المتطرفين” (أنصار الدين) بعد السيطرة على شمال البلاد، الأسئلة حول أهداف التدخل الخارجي في دول القارة السمراء صاحبة الموارد الطبيعية الضخمة، وحجم تنافس الأدوار الدولية للاحتفاظ بموطئ قدم بها، بما يعزز مصالحها الاستراتيجية.

فالأهداف المعلنة المتعلقة بكبح جماح “التهديد الإسلامي” القادم من الشمال، وإعادة إعمار البلد، والاستجابة لاحتياجات السكان الأمنية، وبسط العدالة، لم يتحقق أي منها، وفق ما كتبته صحيفة “لوموند” الفرنسية، في الذكرى الثامنة للتدخل الفرنسي قائلة إنه “بعد ثماني سنوات من العمليات التي أطلقها الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند لوقف زحف الإرهابيين على العاصمة المالية باماكو، لم تتمكن باريس من تحقيق أهدافها واندلعت الصراعات المسلحة ذات الطابع العرقي في منطقة الوسط، وعادت الانقلابات مرة أخرى إلى الجنوب، وتحطمت الوعود الفرنسية مع فشل الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، الذي عوقب في أغسطس 2020، بإطاحته في انقلاب عسكري، كما أنها لم تمنع تصاعد العنف بين المدنيين ولا الاختراقات الإسلامية (وسط مالي)، ولا نقل العدوى إلى النيجر وبوركينا فاسو المجاورتين”.

وعلى وقع استمرار هذه الاضطرابات، يعزو مراقبون بشكل رئيس تصاعد التدخل الخارجي، سواء الإقليمي والدولي إلى حجم الثورات الطبيعية التي تمتلكها تلك المنطقة في غرب القارة السمراء، بعد أن أضحت الاكتشافات الضخمة من اليورانيوم والنفط والغاز والنحاس والفوسفات والبوكسيت والأحجار الكريمة والذهب مثار اهتمام القوى الدولية، لا سيما فرنسا، المستعمرة السابقة (تعتمد على الطاقة النووية لتوليد أكثر من 60 في المئة من كهربائها)، ما يعني كذلك أن تأزم الوضع الأمني يبقى مثار تهديد ملح لمصالح تلك الدول.

وفي عام 2011، ذكرت تقارير وزارة المناجم المالية، أن باماكو، إحدى أهم الدول الأفريقية التي تمتلك احتياطات ضخمة من النحاس واليورانيوم والفوسفات والبوكسيت والأحجار الكريمة والذهب والنفط والغاز.

وفي عام 2018، تبوأت مالي المرتبة الثالثة أفريقياً في إنتاج الذهب، بواقع 61.63 طن بعد كل من جنوب أفريقيا وغانا، حيث سجل المعهد المالي للإحصاء ارتفاعاً في صادرات البلاد من الذهب بواقع 15.4 في المئة، مع بلوغ صادرات تلك الدولة البالغ مساحتها 1.24 مليون كيلومتر مربع، 2.4 مليار دولار أميركي، بما يساهم ما نسبته سبعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي و70 في المئة من إجمالي حجم الصادرات.

100 مليون طن

وفي وقت تقدر فيه احتياطيات مالي من خام اليورانيوم بنحو 100 مليون طن، تحصي تقديرات فرنسية، إنتاج باماكو من الفوسفات بنحو 150 ألف طن مع وجود احتياطيات قدرها نحو 20 مليون طن، و600 ألف من فوسفات الكالسيوم و200 ألف طن من الحجر الجيري، أما على صعيد خام البوكسيت والحديد، فتتجاوز احتياطيات تلك الدولة الأفريقية أكثر من 1.2 مليار طن من الأول وأكثر من ملياري طن من الثاني.

وعلى الرغم من الاحتياطيات المعدنية الكبيرة في مالي، لا تزال الأخيرة واحدة من أفقر الدول الأفريقية والعالم، إذ يقول صندوق النقد الدولي، إن نسبة الفقر في البلاد بلغت أكثر من 42 في المئة في عام 2019، مع نسبة بطالة تقترب من حاجز 10 في المئة.

ولا تزال مالي ضحية للتأزم السياسي والأمني والفشل الاقتصادي المتواصل، ويعزو مراقبون عدم قدرة هذه الدولة الحبيسة إلى تعاظم الأدوار الخارجية على الرغم من بعض المساعي الإقليمية بين حين وآخر للمساعدة على الخروج من ذلك النفق المظلم، وبحسب وكالة الصحافة الفرنسية، فإن “رائحة البترول وأخبار اكتشاف المعادن النفيسة كاليورانيوم والذهب في هذا البلد يطرح أكثر من تساؤل حول دوافع المساعي الدولية والإقليمية”.

ووفق ما نقله التلفزيون الألماني “دي في” في تقرير سابق العام الماضي، عن ناتالي يامب، المستشارة لحزب “الحرية والديمقراطية لجمهورية ساحل العاج”، فإنه وبعد “60 عاماً لم تنل الدول الأفريقية الفرانكفونية استقلالاً حقيقياً ولا حرية بعد، وأن الأمر يبدأ من المدارس التي تقرر مناهجها في فرنسا”.

بؤرة للتنظيمات المتطرفة

وكان من بين أبرز النتائج المترتبة على الانفلات الأمني والفساد المستشري والاستبداد الذي خلفته الأنظمة المتلاحقة في مالي طوال العقود الستة الماضية منذ استقلالها، اتساع وانتشار الجماعات المتطرفة والإسلامية، لا سيما في شمال البلاد، ما ضاعف من بواعث القلق لدى الدول الخارجية، التي رأت فيها تهديداً مباشراً “للمصالح الغربية ورعاياها في المنطقة، وكذلك أنظمة حلفائها”، بحسب توصيف صحيفة “لوبارزيان” الفرنسية.

ووفق هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، بدأ الصراع في شمال مالي يأخذ بعداً خطيراً، مع اتساع أدوار الجماعات الإرهابية والمتطرفة في عام 2012، ما أنذر حينها بحرب قد تكون طويلة المدى في المنطقة.

وكانت أزمة شمال مالي أثارت انتباه العالم في عام 2011 مع سقوط نظام الزعيم الليبي معمر القذافي، وانتقال تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والطوارق إلى هذه المناطق المتنازع عليها بين الحكومة المالية وبين الانفصاليين الطوارق، إذ قدرت بعض المصادر أعدادهم بأكثر من أربعة آلاف مسلح مزودين بسيارات عابرة للصحراء وأسلحة متطورة. وبعد أشهر، تمكن هؤلاء بالتعاون مع تنظيمات متطرفة أخرى من السيطرة على مدن الشمال المالي بعد تأسيس “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” (حركة علمانية ذات طابع محلي)، وبدأت الحرب تأخذ أبعاداً أخرى مع ظهور تنظيمات إسلامية مقاتلة استولت هي الأخرى على أجزاء من الأرض ومساحات من النفوذ والقوة، وأصبح الطريق سالكاً أمامها نحو مدن الجنوب.

وعليه كانت أبرز الجماعات المتطرفة في مالي، هي تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وهو ذلك التنظيم الجزائري الذي انبثق عن الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية عام 2007، وقاده الإسلامي المتشدد عبدالمالك درودكال، ويعد من أقوى التنظيمات الإسلامية التي نقلت عملياتها من الجزائر إلى شمال مالي وتحالفت مع فصائل أخرى من الطوارق.

جماعة إسلامية أخري، هي “أنصار الدين”، بقيادة أياد آغ غالي، وهي التي شكلها الطوارق، وتتسم بالتدين ذي الطابع المحلي وتضم كثيرين من الطوارق المنحدرين من أصول عربية، وعلى الرغم من أن تلك الجماعة تنفي أي علاقة لها بـ”القاعدة”، لكن قادتها لم ينكروا الاستفادة من مساعدتها في صد هجمات الجيش المالي في مناطق الشمال.

كذلك تأتي حركة “التوحيد والجهاد”، ذلك التنظيم المنشق عن “القاعدة” في بلاد المغرب الإسلامي، والذي يضم بين صفوفه أغلبية من المقاتلين الجزائريين والموريتانيين والطوارق العرب، ويعتبر من أكثر التنظيمات المقاتلة ذات الطابع السري وله امتدادات في دول الجوار، حيث نفذ عمليات عدة في الجزائر وموريتانيا، ويعتقد أنه ذو علاقة بتنظيم “بوكو حرام” الذي ينشط في نيجيريا وبوركينا فاسو، وقد تمكن مقاتلو هذا الفصيل من السيطرة على مدينة غاو والتحصن فيها إلى غاية بدء العمليات الجوية الفرنسية.

وبحسب توصيف مارك تريفيديش كبير القضاة الفرنسيين المتخصص في ملف الإرهاب لـ”بي بي سي”، فإن “ما حدث في مالي في عام 2012 و2013، كان أول مظاهر النزعة الإرهابية التي تعرفها منطقة الساحل والصحراء التي تضم دولاً أفريقية عدة”، لا سيما أن منطقة شمال مالي ينتشر فيها السلاح والتهريب، وتتميز بوعورة تضاريسها ووجود عدد كبير من المقاتلين الأجانب، بالإضافة إلى ضعف الدولة فيها.

وتحولت مالي تدريجياً إلى واحدة من أكثر الدول الأفريقية “بؤرة للجماعات المتطرفة، وكذلك الجريمة المنظمة بكل أنواعها من تجارة المخدرات والأسلحة إلى الاتجار بالبشر”.

انقلابات عسكرية

ومنذ استقلالها عن فرنسا في سبتمبر عام 1960، مر التاريخ السياسي لمالي، بخمسة انقلابات كبرى مثلت معالم الانتقال من حكم عسكري إلى آخر، تخللتها فترات من الحكم المدني كفواصل مدنية تصاحبها اضطرابات وحروب أهلية امتدت من الشمال إلى الوسط، والتي جاء آخرها أمس الاثنين.

وجاء أول الانقلابات في البلاد بعد ثماني سنوات من الاستقلال، عندما قاده موسى تراوري ضد الرئيس موديبو كيتا عام 1968، وجاء الانقلاب الثاني بعد أكثر من 22 عاماً من تولي تراوري الحكم، إذ أطاح الجنرال أمادو توماني توريه عام 1991، ترواري، قبل أن يتولى الحكم الرئيس ألفا عمر كوناري عام 1992، ليصبح أول رئيس منتخب ديمقراطياً، واستمر في السلطة 10 أعوام، حتى سلم السلطة لأمادو توماني توريه في عام 2002.

وفي مارس (آذار) من عام 2012، أطاح الجيش في ثالث انقلاب عسكري تشهده المستعمرة الفرنسية السابقة، حكم توريه، بعد أن اتهمه الحرس الرئاسي بـ”الفشل في التصدي لتمرد الطوارق والجماعات الإرهابية المتمركزة في شمال البلاد”، وأعلن المتمردون حل المؤسسات الدستورية وإغلاق حدود البلاد، وعينوا النقيب أمادو سانوغو رئيساً لـ”اللجنة الوطنية لاستعادة الديمقراطية وإعمار الدولة” المكلفة قيادة البلاد، قبل أن يتراجع مقراً فترة انتقالية انتهت بانتخاب إبراهيم أبو بكر كيتا رئيساً للبلاد.

وكان رابع انقلاب تشهده مالي في 18 أغسطس الماضي، بعد أن أطاح الجنرال أسيمي غويتا الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا، ابن الـ75 عاماً، بعد أشهر من الاحتجاجات الشعبية الغاضبة بقيادة الإمام محمود ديكو الذي تحول مع الزمن إلى رمز للثورة والرفض ومواجهة الفساد.

وجاء الخامس، أمس الاثنين، بعد أن اعتقل ضباط من جيش مالي الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار عوان ووزير الدفاع سليمان دوكوريه في الحكومة المؤقتة ونقلهم إلى قاعدة عسكرية في كاتي خارج العاصمة باماكو، بعد ساعات من الإعلان عن تعديل في الحكومة تم فيه استبدال اثنين من أفراد الجيش.

وكان نداو وعوان مكلفين الإشراف على مرحلة انتقالية تستمر 18 شهراً للعودة إلى الحكم المدني بعد انقلاب أغسطس الماضي، لكن كثيرين في الحكومة والمعارضة كانوا قلقين إزاء سيطرة الجيش على مناصب مهمة.

المادة الصحفية : تم اخذها من الاندبندنت