الصين لا تحتاج إلى حاملة طائرات للدفاع عن نفسها، فلماذا إذن صنعتها وتتفاخر بها؟
السياسية:
كانت حاملات الطائرات تمثل رمز الهيمنة البحرية للقوى العظمى، وبخاصة الولايات المتحدة، والآن مع دخول الصين نادي الكبار بحرياً وامتلاكها حاملة طائرات محلية الصنع، تبرز أسئلة تتعلق بأهداف بكين الاستراتيجية.
وتمتلك البحرية الأمريكية حالياً العدد الأكبر من حاملات الطائرات بفارق شاسع عن باقي الدول في هذا النادي المحدود، إذ تمتلك واشنطن 20 حاملة طائرات إجمالاً (منها 3 في الخدمة ومثلها احتياطي والباقي إما قيد التحديث أو التخطيط للتطوير)، بينما تمتلك الصين حاملتي طائرات وهناك ثالثة قيد الإنشاء.
رقمياً لا يبدو أن هناك وجهاً للمقارنة بين قوة بكين وواشنطن فيما يخص حاملات الطائرات، لكن هذا السلاح تحديداً يحمل مواصفات خاصة للغاية، تجعل العدد ليس العامل الأكثر حسماً عند عقد المقارنات، أو وضع الأهداف الاستراتيجية من امتلاكه واستخدامه.
كيف تطوّرت أهمية حاملات الطائرات استراتيجياً؟
رصد تقرير بعنوان “ماذا يمكن لحاملات الطائرات أن تحقق للصين؟”، نشرته مجلة The National Interest الأمريكية، كيف وضع الرئيس الأمريكي الأسبق ثيودور روزفلت عام 1908 مخطط تقسيم العمل بالنسبة للقوات البحرية.
وكان روزفلت يرى أنَّ المدفعية المرتكزة على الشاطئ يجب أن تعمل بالتزامن مع زوارق الطوربيدات الصغيرة لدرء الهجمات البحرية، فيتولى رجال المدفعية والطوربيدات حماية الموانئ الأمريكية، ما يؤدي إلى تحرير الأسطول القتالي الأمريكي ليجوب البحر المفتوح.
وبحسب رأي جيمس هولمز، رئيس الاستراتيجية البحرية بكلية الحرب البحرية في واشنطن، الذي أعد التقرير للمجلة الأمريكية، تعتبر استراتيجية روزفلت مقنعة للغاية، حيث من شأنها أن تجعل الأسطول القتالي “أسطولاً طليقاً”، وأن يصبح اليد الطولى للسياسة الخارجية الأمريكية بعيداً عن السواحل الأمريكية.
كان ذلك قبل أكثر من قرن من الزمان، شهدت الحرب والسياسة خلاله تغييرات جذرية ربما تجعل البعض متشككاً في جدوى استراتيجية امتلاك حاملات طائرات الآن بعد التطور الهائل في أنظمة التسليح ووجود الصواريخ العابرة للقارات، والتي يمكنها ضرب أي هدف على بعد آلاف الأميال، دون تعريض الآلاف من البحارة والعسكريين على متن حاملات الطائرات للخطر المباشر، لكن يبدو أن هذا التصور غير دقيق.
أفضلية صينية في البحار
أواخر أبريل/نيسان الماضي، نشرت وسائل إعلام رسمية مقطع فيديو جديداً لأول حاملة طائرات محلية الصنع للبحرية الصينية، وهي حاملة الطائرات شاندونغ، يشير إلى أن تلك الحاملة يمكنها أن تُجري قريباً المزيد من التدريبات العسكرية في أعالي البحار، في تأكيد جديد على الاستراتيجية الجديدة التي قالت تقارير أمريكية إن بكين تعمل من خلالها على بناء مدمرات وسفن حربية برمائية وحاملات وغواصات مُسلَّحة نووياً وقوارب هجوم سريع، إضافة إلى العديد من المنصات البحرية الأخرى ضمن جهد واضح لفرض هيمنتها إقليمياً وعلى البحار الدولية.
لكن في حالة تحقيق الجيش الصيني أهدافه الاستراتيجية البحرية فمن الممكن جداً أن تكون حاملات الطائرات غير ضرورية للدفاع عن غرب المحيط الهادي وبحريّ الصين الجنوبي والشرقي، لكنَّ يظل وجود حاملات الطائرات يمثل ميزة في تصميم الأسطول الصيني وليست خطأً، فحاملات الطائرات غير الضرورية للدفاع المحلي يمكنها أن تحمل العلم الصيني إلى مناطق بعيدة، لإبراز النفوذ بعيداً عن منطقة شرقي آسيا، وبالتالي يمكن القول إن الموارد التي جرى ضخها في بناء حاملات الطائرات هذه لم تذهب سُدى، بحسب تقييم “هولمز” في تقرير للمجلة الأمريكية.
ويشير تقسيم العمل بين عناصر البحرية الصينية إلى وجود هدف مؤقت يتمثل في “الحرمان البحري” في مياه وأجواء المحيط الهادي إلى أبعد نقطة ممكنة من سواحل برها الرئيسي، لمنع الخصوم من الاستغلال الفعال للممرات المائية الحيوية. ويأمل قادة الجيش الصيني في نهاية المطاف أن يتمكنوا من “التحكم” في بحري الصين الشرقي والجنوبي، وإقامة حزام حماية في المحيط الهادي، وانتزاع السيطرة الكاملة والدائمة من البحرية الأمريكية والأساطيل الحليفة مثل قوة الدفاع الذاتي البحرية اليابانية أو البحرية التايوانية، بحسب تقرير المجلة.
وإذا ما سار كل شيء على ما يرام بالنسبة لهم، فإنَّهم قد لا يحتاجون حتى إلى أسطول من السفن الحربية الضخمة للتحكم في المحيط الهادي أو منع الدخول إليه.
ومن المهم الإشارة في هذا السياق إلى التقارير الغربية التي نشرت مؤخراً بشأن اعتماد بكين على ميليشيات بحرية تنتشر في بحر الصين الجنوبي لتنفيذ مهام محددة تفادياً لمواجهة عسكرية مفتوحة مع واشنطن.
وتتشكل تلك الميليشيات من المئات من سفن الصيد ذات اللون الأزرق والآلاف من الرجال الذين يرتدون زياً بنفس اللون، وعلى الرغم من نفي الصين لتلك التقارير، فإن تلك السفن الصينية التي تدور المزاعم حول كونها ميليشيات بحرية تصدرت عناوين الأخبار، في مارس/آذار الماضي، عندما احتشدت أكثر من 200 سفينة صيد صينية حول منطقة الشعاب الصخرية “ويتسون ريف” Whitsun Reef، وهي ملكية فلبينية في سلسلة جزر “سبراتلي” Spratly الواقعة في بحر الصين الجنوبي.
تغيرت استراتيجية الصراع، ولكن!
يقول ألفريد ثاير ماهان، أبرز مؤرخي القوة البحرية، إنَّ القادة البحريين يستحوذون على القيادة البحرية من خلال حشد قوة نارية متفوقة في مناطق على الخريطة في أوقات تكون فيها حاجة لتهديد خصم أو هزيمته. ويتعين تكوين الأسطول من أجل “السيطرة على البحر، ولقتال أكبر قوة يُحتَمَل أن تواجهه بفرص نجاح معقولة”.
ولو كان المؤرخ حاضراً في عصرنا السريع اليوم، حيث يمكن للذخيرة العسكرية دقيقة التوجيه أن توجه ضربات على بُعد مئات الأميال خارج البحر، لكان بلا شك عدَّل “صيغته الواسعة” بخصوص حجم الأساطيل لتلائم عصر الصواريخ، بحسب رأي “هولمز” في تقرير The National Interest.
إذ لم يعد الصراع من أجل السيادة البحرية مجرد مسألة تتعلق بجبهات المعارك التي تشتعل في مواجهة بعضها البعض بعيداً في أعالي البحار، فقد صار بإمكان القوة البرية أن تكون قوة بحرية.
لكن بالعودة إلى حاملات طائرات البحرية الصينية، نجد أن حاملات الطائرات تلك تدعم احتمالية أن تتمكَّن البحرية الصينية من المغامرة في البحر بفرص نجاح مقبولة ضد أعتى القوى التي قد تواجهها، والتي يُفتَرَض أنَّها ستكون أسطول المحيط الهادي الأمريكي وحلفائه الآسيويين، وكان ماهان سيوافق على ذلك.
لكن على عكس عصر ماهان، لم يعد مزيج القوة النارية يحتاج لمنح الأفضلية لـ”السفن الرئيسية” مثل حاملات الطائرات أو المدمرات، فهناك مصادر أخرى للقوة الحربية، إذ يمكن للمركبات الصغيرة مثل الغواصات التي تعمل بالديزل والكهرباء أو زوارق الدوريات التي تجوب سطح المحيط بسرعة أن تطلق الصواريخ المضادة للسفن على أسطول العدو بنفس السهولة التي يمكن أن تضطلع بها مقاتلة محمولة على متن حاملة طائرات أو مركبة سطح قتالية رئيسية بالمهمة، بحسب التقرير.
وفي الواقع، يُعَد المزج بين أسراب الزوارق الصغيرة الخفيفة الرخيصة المسلحة بالصواريخ والقوة الجوية والصاروخية المتركزة على الساحل مكوناً محورياً في استراتيجية “منع الوصول والحرمان من الدخول”، أو ما تُعرَف بـ”A2/AD”، لدى الجيش الصيني. (تتلخص هذه الاستراتيجية في منع أو حرمان العدو من دخول أو عبور أو الاقتراب من منطقة معينة، سواء في البر أو البحر أو الجو من خلال قدرات وأسلحة مثل الصواريخ المضادة للطائرات والصواريخ المضادة للسفن وغيرها).
وكلما زادت وفرة أصول “منع الوصول والحرمان من الدخول” لدى الصين، زادت القوة النارية التي يمكنها إطلاقها، وزادت فرص نجاح الجيش الصيني، وشعر قادة الجيش الصيني براحة أكبر لسحب أسطول سفن السطح القتالية -بما في ذلك حاملات الطائرات- من المجموعة وإرسال الأسطول الرئيسي إلى مكان آخر، فلا مغزى من إرسال الأصول الباهظة للقيام بمهمة ما في حين يمكن للأصول الرخيصة أن تفي بالغرض.
الصين كقوة عظمى على المسرح الدولي
هذه المعطيات كلها تطرح التساؤلات حول جدوى الإنفاق الضخم على حاملات الطائرات بالنسبة للصين، لكن هذه التساؤلات منطقية في حالة واحدة فقط، وهي أن يغيب عن بكين روح المُغامرة في استراتيجيتها ودبلوماسيتها خارج الإقليم، ولا يبدو أنَّ الحال كذلك بالنظر إلى التقدم السريع الذي أحرزته الصين باتجاه تأسيس وجود حقيقي في المسارح المهمة، لاسيما في منطقة المحيط الهندي ومنطقة الخليج العربي، والتي تمثل مدخلاً بالغ الأهمية لأمن الطاقة الصيني وبالتالي لازدهارها الاقتصادي.
الرئيس الصيني شي
وكلما زاد عدد القطع التي يمكن لقادة البحرية الصينية الاستغناء عن مشاركتها ضمن مهام “منع الوصول والحرمان من الدخول” قريباً من الوطن، كان الأسطول الخارجي الذي يمكنهم إرساله إلى المناطق البعيدة في المحيط الهندي -مثل جيبوتي، موطن أول قاعدة عسكرية صينية بالخارج، أو ميناء جوادار، وهو ميناء مولته الصين غربي باكستان ويطل على الطرق نحو منطقة الخليج- أكثر حيوية ونشاطاً.
ويمكن لبعض أسلحة “منع الوصول والحرمان من الدخول” الصينية بلوغ المحيط الهندي من الأراضي الصينية، ما يساعد بكين على تحديد جدول الأعمال في المنطقة، لكن تبقى القوة الجوية على متن حاملات الطائرات محتفظة بقيمتها للمهام الخارجية، خصوصاً تلك التي تجري خارج غطاء الأمان الذي توفره منطقة منع الوصول والحرمان من الدخول وخارج متناول مطارات الجيش الصيني على اليابسة.
الخلاصة هنا هي أن حاملات الطائرات مفيدة للغاية في المهمات خارج الإقليم، والواضح أن الرئيس الصيني شي جين بينغ يتفق في رؤيته الاستراتيجية مع الرئيس الأمريكي الأسبق ثيودور روزفلت في استيعاب المنطق المترابط للعمليات والاستراتيجية البحرية والبرية.
وبالتالي فإن إجابة تساؤل “هل تحتاج الصين إلى حاملات الطائرات؟” ملخصها، كلا إذا كان الهدف حماية البر الرئيسي، ونعم إذا كان الهدف القيام بمهام في أعالي البحار حول العالم لإثبات قوة الصين كدولة عظمى.
عربي بوست