العلاقات الروسية الإيرانية شراكة تؤدي أغراضها
السياسية – مركز البحوث والمعلومات :-
تبدو العلاقات الروسية الإيرانية هذه الأيام كما لم تكن من قبل؛ ويبدو الحراك الديبلوماسي بينهما مكثفا، ومستوى التنسيق مرتفعا على أكثر من صعيد، ومؤخرا نجد السؤال الكبير حول العلاقة بين الدولتين يرتسم أمامنا، هل يمكن أن نقول أن العلاقة بين الدولتين وصلت لمرحلة التحالف الاستراتيجي؟ أم أنها محكومة بظروف مؤقتة وسرعان ما ستتغير اتجاه الرياح ويبحث كل بلد عن ما سيخدم مصالحه أكثر؟!.
إن للعلاقة بين البلدين محددات أساسية تشكل معالمها وترسم آفاقها المستقبلية؛ فهناك إرث تاريخي مشترك من التفاعلات المختلفة بينهما، وهما معا يقفان على أرضية من المصالح المشتركة، ويجمعهما عداء مشترك للولايات المتحدة ولسياساتها الأحادية، وإن اختلفا فيما يتعلق بالعلاقة مع دولة الكيان الصهيوني.
على الرغم من العمق التاريخي للعلاقات بين البلدين الجارين روسيا وإيران، والتي وصفها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، بأنها ” أقدم من تاريخ أميركا “، غامزا من قناة السعي الأميركي لتخريب العلاقة بينهما ومؤكدا عمقها التاريخي ومتانتها، إلا أن هناك جانبا من التوجس وعدم الثقة يتخلل هذه العلاقة، خصوصا من الطرف الإيراني الرسمي أو الشعبي؛ فمسار العلاقات الطويلة بينهما شهد فترات من الشد والجذب والتقارب والعداء، وخاضا عدة حروب، استولت بعدها روسيا القيصرية على مناطق جغرافية شاسعة من يد الدولة القاجارية في القرن التاسع عشر، بموجب معاهدتي “كلستاي” و”تركمانجاي”، واللتان يتذكرهما الإيرانيون إلى اليوم بألم ومرارة. وظلت التدخلات العسكرية الروسية المباشرة في إيران تتكرر بين الفينة والأخرى حتى سقوط الدولة القيصرية، والتي جاء الاتحاد السوفيتي بدلا عنها ليتعاون مع بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية في احتلال إيران بحجة منع ألمانيا النازية من السيطرة على حقول النفط الإيرانية، وليدخل بعدها البلدان في نمط جديد من أنماط الصراع بينهما؛ حيث مساعي الاتحاد السوفيتي في التأثير الأيديولوجي على أحزاب وتيارات في الداخل الإيراني، وتقديم الدعم للحركات الانفصالية الآذرية والكردية. وظل البلدان على طرفي نقيض أثناء الحرب الباردة، فإيران الشاه حليف للولايات المتحدة رأس المعسكر الغربي الرأسمالي، والجار السوفيتي قائد المعسكر الشرقي الشيوعي. وبعد قيام الثورة الإسلامية ظلت العلاقات متوترة رغم ما تبنته هذه الثورة من شعارات العداء للولايات المتحدة، إذ دعمت موسكو الجانب العراقي في حربه مع طهران، كما وقفت طهران بشدة ضد الاحتلال الروسي لأفغانستان البلد المسلم. وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه؛ دخلت العلاقات الإيرانية الروسية مرحلة جديدة من التفاعل، مع توقيع اتفاقية التعاون المشترك لبناء مفاعل بوشهر النووي العام 1992، وإن لم تشهد اندفاعة كبيرة آنذاك جراء سعي روسيا يلتسن آنذاك لاسترضاء الولايات المتحدة الأميركية، واتسام سياسته بالتبعية لها؛ إذ على الرغم من وقوع روسيا في أزمات اقتصادية، وإدراكها أن السوق الإيرانية المتعطشة للسلاح وللطاقة النووية واحدة من الفرص لإنعاش اقتصادها، فوقعت مع إيران عقودا عسكرية وتقنية، إلا أن الضغوط الأميركية دفعت موسكو للتراجع عن تنفيذ تلك العقود مع طهران، كما أوقفت العقد الخاص بتزويدها بمفاعل الأبحاث النووي في العام 1998. وبعد وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة شهدت العلاقات بعض التحسن، وعاودت روسيا بناء مفاعل بوشهر النووي وراحت تحدث بعض سكك الحديد الإيراني، ولكن أيضا صوتت روسيا مع قرارات مجلس الأمن ضد إيران بسبب برنامجها النووي منذ إحالة الملف النووي الإيراني إلى المجلس عام 2006، وأوقف الرئيس مدفيديف عقوداً كانت روسيا وإيران وقعتها عام ٢٠٠٧، لتسليم إيران منظومة صواريخ أرض- جوS300 بذريعة تطبيق قرار مجلس الأمن القاضي بمنع تصدير السلاح لإيران رغم أن المنظومة هي دفاعية بالأساس، وهو ما وأدخل البلدين في دعاوى قضائية، قبل أن يتم تسوية الخلافات بين طهران والغرب فيما يتعلق بالسلاح النووي، والتوصل للاتفاق حوله العام 2015، ورفعت العقوبات عن إيران ذلك الوقت، قبل تخلي ترامب عن الاتفاق ومعاودته لسياسة الضغوط القصوى مع طهران، ومن ثم انسحاب شركات روسية إلى جانب شركات من جنسيات أخرى من مشاريع كانت تنفذها في إيران، تخوفا من العقوبات التي قد تطالها.
إذن؛ تبدو الذاكرة التاريخية القريبة أو البعيدة للإيرانيين حول موسكو محملة بمخاوف من المطامع القيصرية القديمة، أو البراجماتية التي تصل حد الانتهازية أحيانا والتي تتميز بها السياسة الروسية منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. ولعل تلك الهواجس قد أخذتها روسيا بعين الاعتبار، وهي تحاول طمأنة طهران، في سبيل إرساء علاقات أكثر ثقة واستقرارا معها؛ إذ نجد الرئيس بوتين في لقائه مع المرشد الأعلى علي خامنئي في طهران في نوفمبر 2015، ووفقاً لوكالة أنباء “فارس”، يشيد بإيران ويصفها بـ” الحليف الموثوق”، كما يؤكد للمرشد قائلا: “نحن ملتزمون بأننا لا نطعن شركاءنا من الخلف كما يفعل البعض، ولا نفعل شيء خلف الستار ضد أصدقائنا على الإطلاق، وإذا كانت لدينا خلافات نتفاهم حولها من خلال المحادثات”.
ومع أن البلدين كليهما بلدان نفطيان ويمتلكان ثروات غازية هائلة، تجعل منهما متنافسان أكثر منهما شريكان في سوق الطاقة؛ إلا أنه يمكن القول لدى طهران طموحات كبيرة في إشراك روسيا في تطوير قطاعها الطاقوي سواء في إنشاء المحطات النووية وتطويرها، أو في استكشاف أو إصلاح وتطوير القطاعات النفطية والغازية، ومن المتوقع أن يشهد هذا القطاع تطورها كبيرا في حال نجحت المفاوضات الجارية حاليا حول النووي الإيراني.
كما يسعى البلدان إلى التعاون في قطاع الكهرباء والماء وهناك مشاريع مقترحة لربط شبكة الكهرباء العامة الإيرانية مع روسيا عبر جمهورية أذربيجان واستحداث محطات كهرومائية وحرارية، وأيضاً التعاون في مجال الشحن والنقل بالإضافة إلى مجال الأمور المالية والمصرفية ولاسيما عضوية إيران في بنك أوراسيا، وإنشاء مصرف مشترك إيراني روسي، ولدى إيران مساعٍ، تدعمها روسيا، للانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، (يضم: روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا وأرمينيا وقيرغيزستان )، كعضو دائم، (هي الآن عضو مؤقت)، وكذا لمنظمة شانغهاي للتعاون، ودول البريكس، وتعميق التعاون مع رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان). وهي في ذلك حريصة على تنويع الشركاء الاقتصاديين وعدم الاكتفاء بشريك وحيد، حتى لا تتحول العلاقات بينهما إلى علاقات تبيعة اقتصادية، كما أن هذا يساعد بالتأكيد على إخراج إيران من عزلتها التي فرضتها العقوبات الأميركية عليها، ويسهم في كسر الحصار المطبق على اقتصادها.
وبالرغم من هذه الطموحات الكبيرة في الشراكة الاقتصادية بين البلدين، ومرور 20 عاما على توقيع الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم 12 مارس 2001، على معاهدة “أساس العلاقات المتبادلة ومبادئ التعاون” بين البلدين، والتي تتكون من 21 مادة ترسم آفاق التعاون بينهما في مختلف المجالات، إلا أن بنود هذه الاتفاقية لم تأخذ حقها في التنفيذ الكامل على الأرض، بفعل العقوبات التي فرضت على طهران وعلى الدول التي تخالف هذه العقوبات، وحرصا من روسيا على مصالحها مع الغرب. وبحسب خبراء روس فإن إيران تحتل المرتبة 51 بين مستوردي المنتجات الروسية و 61 بين المصدرين لروسيا، ومنذ توقيع المعاهدة قبل 20 عاماً، شهد البلدان زيادة ملحوظة في التجارة من 950 مليون دولار في عام 2001 إلى ملياري دولار في عام 2005، ومن بعدها لم يتجاوز سقف التبادل التجاري بين البلدين هذا الرقم.
إذن يمكن القول إن العلاقات بين روسيا وإيران يغلب عليها الطابع السياسي والعسكري والأمني؛ فروسيا مهتمة ببيع طهران الصناعات والتقنيات العسكرية الخاصة بها، وتعتبر إيران ثالث شركائها التجاريين في هذا الجانب، وتوجد بين البلدين صفقات ضخمة لشراء الصواريخ والدبابات وتقديم قطع الغيار والصيانة اللازمة لكل ما يمتلكه الجيش الإيراني من عتاد روسي الصنع، ولديهما اتفاق لتبادل المنتجات النووية.
كما أن روسيا عضو في الاتفاق النووي المبرم بين إيران والمجموعة السداسية الدولية عام 2015، وهي تدعم موقف طهران سياسيا في مواجهة الموقفين الأميركي والأوروبي من تنفيذ الاتفاق النووي، والعقوبات الأميركية المفروضة على إيران منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق عام 2018.
ولدى البلدان تنسيق عالي المستوى سواء من الناحية العسكرية أو من الناحية الأمنية والاستخباراتية، في آسيا الوسطى وسوريا والعراق، وتم الإعلان عن غرفة عمليات أمنية مشتركة مقرها بغداد تضم سوريا والعراق وروسيا وإيران. كما أن إيران، في العام 2016، منحت روسيا الإذن باستخدام قاعدتها الجوية في همدان، التي أطلقت روسيا منها أسطولًا من القاذفات المتجهة إلى سوريا، لاستهداف تنظيم داعش وجبهة النصرة حول حلب ودير الزور وإدلب، وكانت تلك أول مرة يعمل فيها جيش أجنبي في الأراضي الإيرانية منذ حوالي 100 سنة، علما بأن المادة 146 من الدستور الإيراني تحظر بشكل صارم تمركز القوات الأجنبية على الأراضي الإيرانية، حتى لغايات سلمية. ومؤخرا؛ وفي تطور استراتيجي لافت كشفت وكالة الأنباء الروسية “سبوتنيك” عن إنشاء غرفة عمليات (روسية إيرانية سورية) بهدف تأمين تدفق آمن ومستقر لإمدادات النفط والقمح وبعض المواد الأخرى إلى الموانئ السورية على البحر المتوسط، وكسر الحصار الأمريكي الأوروبي الخانق المفروض على سوريا، وخاصة بعد أزمة محروقات هي الأكبر التي تشهدها سوريا منذ عقود طويلة، بسبب الإطباق المحكم على مسارات الإمداد إليها، سواء عبر قيام الجيش الأميركي بسرقة حقول النفط السورية شرقي البلاد، أو من خلال المنع الصارم لناقلات النفط من الوصول إلى الموانئ السورية، ومع تعرض الناقلات الإيرانية للاعتداءات أكثر من مرة، تم اعتماد آلية تنص على مرافقة سفن حربية روسية لناقلات النفط الإيرانية القادمة إلى سوريا، فور ولوجها البوابة المتوسطية لقناة السويس، وحتى وصولها إلى المياه الإقليمية السورية، بهدف حمايتها من القرصنة أو أي استهداف ذي طبيعة مختلفة.
إن التوافق بين روسيا وإيران في هذه الجوانب قائم على تقدير دقيق للأولويات الجيوسياسية والاستراتيجية، التي تستند إلى تصورات مماثلة حول النظام العالمي؛ ورفضهما للهيمنة، ومعارضة فكرة وجود دولة واحدة أو نظام واحد يفرض قيمه ومعاييره الخاصة على القوى الأخرى في العالم، خصوصا عند استخدام القوة لأجل ذلك، دون الاعتبار لسيادات الدول، أو من خلال دعم الثورات الملونة المنادية بالديمقراطية والتي يرى فيها البلدان وجها من وجوه التدخلات المرفوضة في السياسات الداخلية للدول، إضافة لتشاركهما المخاوف من الجماعات الإرهابية المتشددة التي تستهدف أمن واستقرار البلدين.
وبالرغم من الحديث عن كون هذا التوافق مجرد توافق ظرفي سينتهي ويزول بمجرد زوال أسبابه، وأن هناك نقاط افتراق واختلاف بين البلدين لن تساعد على بقائه واستمراريته، على غرار العلاقات الروسية الجيدة مع خصوم طهران كدولة الكيان الصهيوني، وحلفائها من دول الخليج، التي ترتبط معها روسيا بصفقات بمليارات الدولارات، إلا أنه يمكن القول إن العلاقات بين البلدين تشهد نموا تصاعديا، يوسع من الأرضية المشتركة التي ينطلقان منها، ويزيد من فرص التعاون القائم في مدى أوسع مما هي عليه، ويؤكد رغبة الدولتين في البناء على الوضع الحالي وترسيخه وتعزيزه، خصوصا أن الجوار الجغرافي بينهما يحتم عليهما استغلال إمكانية تثبيت الاستقرار في المنطقة، من خلال دعم المشاريع المشتركة الثنائية والمتعددة، وتبني الدعوات لإنشاء حلف دفاعي من أبناء المنطقة بعيدا عن التدخلات الخارجية، والقيام بمساع للحوار بين أطرافها، وهو ما يهيئ لهما معا تحقيق طموحاتهما القيادية الخاصة على مستوى الإقليم (كما هو حال إيران)، أو العالم (كما هو حال روسيا).
وما يؤكد هذا التوجه، هو الحديث عن إعداد البلدين لاتفاقية تعاون شامل، على غرار تلك التي وقعتها إيران مع الصين، وأن زيارة لافروف الأخيرة لطهران تضمنت توقيع مذكرة تفاهم تتعلق بهذا الصدد، الأمر الذي يعني انتقال العلاقة بينهما من طور الشراكة المؤقتة والجزئية القائمة على ظروف الوضع الراهن، إلى مرحلة التعاون الشامل الذي يرقى لدرجة التحالف الاستراتيجي، والسعي لإيجاد بيئة مستقرة ملائمة لإنجاح ذلك، من خلال تنشيط ودعم الوساطات الرامية لتقريب وجهات النظر بين طهران وخصومها الخليجيين. وحقيقة الأمر؛ أيا يكن نمط أو شكل هذه الشراكة في الوقت الراهن أو حتى في المستقبل القريب، فهي تؤدي دورها وتحقق أهداف الطرفين منها، على الأقل من ناحية تأثيرها السياسي أو الاستراتيجي، خصوصا ما يتعلق منها بتحدي الهيمنة الأميركية وإفشال سلاح عقوباتها وكسر هيبتها، تمهيدا للوصول لنظام عالمي أكثر عدالة وأكثر استقرارا.