السياسية:

“بوتين قاتل، وسنعاقبه”.. “الآن حان وقت خفض التوتر مع روسيا”، مدة زمنية قدرها شهر واحد فصلت بين هذين التصريحين المتناقضين اللذين أطلقهما الرئيس الأمريكي جو بايدن، ولكن الفارق في المضمون يُظهر مَن انتصر في معركة بايدن وبوتين حتى الآن.

ما الذي حدث خلال هذا الشهر، كيف تحول بايدن من تعبئة شعبه والغرب من أجل حرب ليبرالية مقدسة ضد بوتين، إلى عرض التهدئة مع اقتراح عقد قمة مع  الرجل الذي وصفه بالقاتل، وما الذي فعله بوتين ليجبر بايدن على العودة عن هذا التصعيد.

معركة بايدن وبوتين هذه ليست الأولى

لم تكن هذه أول معركة بين بايدن وبوتين (ولن تكون الأخيرة في الأغلب).

على مدار فترة رئاسة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما التي كان فيها بايدن نائباً للرئيس وشريكاً بارزاً في السلطة، حقق بوتين انتصارات استراتيجية على أمريكا، جعلت أوباما نفسه يتساءل عن سر جرأة هذا الرجل الذي يقود دولة اقتصادها يعادل حجم اقتصاد كندا (أصغر اقتصاد في مجموعة الثماني).

فخلال هذه الفترة انتزع بوتين القرم من أوكرانيا عام 2014 التي يفترض أنها كانت حليفة للغرب، وشريكة للناتو، كما ساعد مقاطعتين في شرق البلاد على الانفصال.

كانت  أزمة عام 2014 في أوكرانيا هي بداية انتصارات بوتين.

إذ رد الرئيس الروسي على عزل الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا من  خلال تظاهرات المعارضة المطالبة بالانضمام للاتحاد الأوروبي – بالتدخل في أوكرانيا، مستغلاً نشوب اضطرابات في المناطق التي انتخبت يانوكوفيتش (والبعض يرى أنه أشعلها).

بعد نجاحه في أوكرانيا انتقل لسوريا، ومنها فاز بالشرق الأوسط

ثم انتقل بوتين لسوريا، فبدأ بتمرير صفقة مثيرة للريبة بشأن السلاح الكيماوي لنظام الأسد أنقذته من تهديد أوباما بتوجيه ضربة عسكرية إذا لم ينزع سلاحه الكيماوي بعدما استخدمه الأسد ضد المعارضة في ريف دمشق ما أدى إلى وفاة  1400 شخص.

وهي صفقة تمثل نموذجاً لضعف أوباما المزمن، الذي تخلى عن السوريين في مواجهة قمع الأسد، ولم تؤد هذه الصفقة إلى نزع كامل لترسانة دمشق الكيماوية بالكامل لأن النظام أعاد استخدام السلاح مجدداً ضد المعارضة، كما حدث في خان شيخون.

وانتقل بوتين من دعم الأسد للمشاركة بشكل مباشر في القضاء على الثورة السورية عبر قصف مدنها البلاد الكبرى مثل حلب، وانتهاك أجواء تركيا عضو الناتو، وسط استمرار تخاذل إدارة أوباما، الأمر الذي أدى إلى دخول أنقرة في توتر مع روسيا أعقبه تسوية وإقامة علاقة وثيقة ومركبة معها، كان دافع أنقرة الرئيسي لها تأكدها من أن الغرب لن يكون داعماً لأي نزاع مع روسيا.

هزيمة بايدن الأولى أمام بوتين عندما كان نائباً لأوباما/رويترز

وبعد وأد الثورة السورية وتحول بوتين للحاكم الفعلي للبلاد بالشراكة مع الإيرانيين توجه، لليبيا التي هي تقليدياً مجال بعيد تماماً عن النفوذ الروسي، حيث أرسل مرتزقة فاغنر وطائرات حربية وتحالف مع حفتر وأبرم تفاهمات مع أنقرة بمعزل عن الأوروبيين والأمريكيين.

وقبل ذلك وثق علاقته بحلفاء الولايات المتحدة التقليديين في الشرق الأوسط، بشكل غير مسبوق في تاريخ المنطقة، وبطريقة سمحت بتدفق السلاح الروسي لبلد مثل الإمارات ومصر اللتين كانتا تعتمدين بشكل شبه كامل على التسليح  الغربي.

حتى إنه أصبح يحدد من هو رئيس أمريكا وشكل أوروبا السياسي

وقبل وبعد ذلك تدخل بوتين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية مرتين الأولى في عام 2016 حيث يعتقد أنه ساهم في فوز ترامب، والثانية في 2020.

وبين هذين التدخلين يعتقد أنه استخدم قراصنته الإلكترونيين لتشجيع البريطانيين على الانفصال عن الاتحاد الأوروبي وقبلها ضد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما كان مرشحاً في الانتخابات الرئاسية.

كما يعتقد أن موسكو ساهمت في التحريض ضد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بسبب حفاوتها في استقبال اللاجئين السوريين عام 2015، وهو ما أدى ضمن أسباب أخرى إلى انقلاب الرأي العام الألماني ضد سياسة فتح الباب للاجئين السوريين الهاربين من بلادهم المنكوبة.

بايدن يريد الثأر

كان أحد الأسباب الرئيسية للانتصارات الروسية هي سياسة إدارة أوباما التي كان بايدن  شريكاً بارزاً بها.

إذ كانت إدارة أوباما ميالة للانسحاب من المشكلات، ولم ترد على تصرفات بوتين، وتخاذلت في دعم الربيع العربي، ما أدى إلى تحرك روسي لملء الفراغ، وتجرؤ في مواجهة غياب الردود الأمريكية، والأهم أن نجاحات بوتين حولته إلى ملهم للمستبدين العرب من أصدقاء أمريكا، وشريكاً حتى لتركيا التي هي تاريخياً خصم كبير لروسيا.

جاء بايدن محملاً بالآثار النفسية لهذه الهزائم التي تلقاها هو وأوباما والتي ضاعفها الإعجاب الذي لم يخفه سلفه دونالد ترامب لبوتين، واستغل الرئيس الأمريكي الجديد تقارير الأجهزة الأمنية الأمريكية بشأن حدوث تدخل جديد لبوتين في الانتخابات الأمريكية ليوجه لبوتين خليطاً من السباب والوعيد، ملوحاً بأن زمن نجاة روسيا من العقوبات على ممارستها قد ولى.

فقبل شهر واحد، قال بايدن إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “سيدفع الثمن” لجهوده في تقويض الانتخابات الأمريكية لعام 2020، وذلك خلال مقابلة له مع قناة ABC News.

ورداً على سؤال عن العواقب التي يقصدها، قال بايدن: “سترون قريباً”.

وأشار بايدن خلال المقابلة، إلى محادثة أجراها مع بوتين في مكتبه بالكرملين في عام 2011، وذكر أنه قال لبوتين حينها إنه لا يعتقد أن للرئيس الروسي روحاً. واستذكر بايدن أن رد بوتين كان بالقول: “إذن، نحن نفهم بعضنا البعض”.

وعندما سأله المذيع عما إذا كان يعتقد أن بوتين “قاتل”، قال الرئيس الأمريكي: “امممهم، أعتقد ذلك”.

كما قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض آنذاك، في تغريدة إن واشنطن لن تعتمد على العقوبات فقط في تعاملها مع روسيا، متحدثة عن وسائل لن يتم الإفصاح عنها.

وبينما استدعت روسيا سفيرها إلى واشنطن على خلفية وصف بايدن لبوتين “بالقاتل”، فإن رد بوتين الكلامي كان أقل حدة، فلم يبادل بايدن السباب، بل رد عليه كالأطفال.

إذ قال بوتين بهدوء لافت: “في الطفولة، عندما كنا نتجادل مع بعضنا البعض، كنا نقول: من يسئ (للآخرين)، فإنه يسئ لنفسه”.

ولكن رد بوتين الحقيقي جاء بعد أقل من شهر، وجاء فعالاً وموجعاً.

من أوكرانيا مجدداً، بوتين يضع الغرب في مأزق

جاء الرد في البلد الذي حدثت فيه الهزيمة الأولى للغرب منذ الحرب الباردة.

فحرك بوتين جيوشه مهدداً أوكرانيا فاتحاً ملفات عدة لكييف، تاركاً الغرب في حيرة من نواياه، هل هو مجرد تهديد استعراضي أم أنه قد يدمر أوكرانيا، كما هدد بعض مسؤوليه، أم سيكتفي باقتطاع مزيد من الأجزاء منها، حيث قيل إنه قد يفكر في الاستيلاء على أراضٍ أوكرانية لخلق جسر بري يصل روسيا بالقرم في ظل معاناة سكان شبه الجزيرة من نقص المياه.

المشكلة أن الغرب لا يمتلك ترف التعامل مع التهديد الروسي بأنه كلمات جوفاء لأن بوتين بالفعل سبق وأن غزا أوكرانيا، فما المانع من أن يكررها.

في المقابل، فإن كل الدعم الغربي لأوكرانيا حتى لو تخطى بعضه حاجز الكلام وامتد لتزويدها ببعض الأسلحة، وتدريب جيشها، لن يقلص الفجوة الهائلة بين أوكرانيا وروسيا، خاصة أن الغرب باستثناء كرمه في تصريحاته كان بخيلاً في دعم أوكرانيا التي تمتلك جيشاً متهالكاً عبارة عن بقايا ما ورثته من الحقبة السوفييتية.

وفي الوقت ذاته، لا يمكن تخيل أن الولايات المتحدة ستدخل في حرب مع روسيا قد تطور لمحرقة نووية من أجل أوكرانيا، أو أن ألمانيا أو دول شرق أوروبا التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها في مواجهة روسيا ستفيد كييف بشيء.

أما فرنسا فالمنطقة بعيدة عنها ولا تعنيها (والواقع أن باريس أشبه بطابور خامس يعمل لصالح روسيا في قلب أوروبا).

لكل هذه الأسباب قرر بايدن إلغاء زيارة السفن الحربية الأمريكية لأوكرانيا كرسالة لوقف تصعيد لا يمكن ضمان نتائجه مع روسيا.

وتحول خطاب الرئيس الأمريكي من وصف بوتين بالقاتل، والتلويح بعقوبات خفية ضد الدبّ الروسي، إلى الدعوة لوقف التصعيد.

إذ قال بايدن في تصريحات للصحفيين: “كنت واضحاً مع الرئيس (الروسي فلاديمير) بوتين بأنه كان بإمكاننا المضيّ إلى أبعد من هذا، لكني آثرت ألا أفعل ذلك.. اخترت التصرف بشكل متناسب”.

معركة بايدن وبوتين الثانية من فاز بها؟

كان لافتاً أن بايدن قد أشار في معرض عرض التهدئة الذي قدمه إلى إمكانية عقد لقاء قمة مع بوتين لمعالجة قضايا الخلاف، بينما قالت موسكو إنها لا تتوقع “أي شيء إيجابياً” من إدارة بايدن.

نال بوتين أول أهدافه وأهمها امتلاك ورقة ضغط على الغرب في مواجهة العقوبات المالية التي تمثل ورقة الضغط الأمريكية والأوروبية الرئيسية ضد روسيا.

حتى العقوبات التي فرضها بايدن مؤخراً، لا تبدو قاسية، إذ أعلن البيت الأبيض طرد 10 دبلوماسيين روس من أعضاء البعثة الدبلوماسية في واشنطن، قائلاً إن لهم علاقة بالهجوم السيبراني الذي هز أمريكا قبل عدة أشهر.

كما أدرجت وزارة الخزانة الأمريكية 32 من الكيانات والأفراد في قائمة سوداء، قالت إنهم نفذوا محاولات مرتبطة بالحكومة الروسية مباشرة للتدخل بانتخابات الرئاسة الأمريكية في 2020، وغيرها من “أفعال التدخل ونشر المعلومات المضللة”.

النقطة الوحيدة في العقوبات التي يمكن أن تكون شديدة التأثير على روسيا، تركت كخيار في يد بايدن.

إذ  تشمل الإجراءات الأمريكية أمراً تنفيذياً من بايدن يتيح للحكومة الأمريكية فرض عقوبات على أي قطاع في الاقتصاد الروسي واستخدامه للحد من قدرة روسيا على إصدار دين سيادي.

وقد تكون مسألة فرض عقوبات على تمويل الدين السيادي الروسي (التي قد تمنع روسيا من الاقتراض من أسواق المال الدولية)، هي النقطة الرئيسية للمفاوضات المحتملة بين الجانبين.

إذا تمكن بوتين من منع الأمريكيين من فرض عقوبات على الديون السيادية الروسية مقابل تخفيف التوتر في أوكرانيا (ويبدو أن هذا ما سيحدث)، فإن هذا يمثل نجاحاً كبيراً له؛ لأن  مثل هذه العقوبات يمكن أن تلحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد الروسي لاسيما الروبل.

هل يقبل بوتين بحل الأزمة الأوكرانية؟

قد يكون التوتر الكبير الذي شهدته أوكرانيا دافعاً لمحاولة حل أكثر ديمومة للأزمة الأوكرانية (ولكن ليس شاملاً)، وقد يتجاوب بوتين مع هذا الطرح إذ تلقى المقابل المناسب في أوكرانيا والملفات الأخرى.

في الملفات الأخرى سيكون المقابل هو مطالبته بتخفيف أو إزالة العقوبات الأمريكية والأوروبية على بلاده، (ووقف الفيتو الأمريكي على خط غاز السيل الشمالي 2 مع ألمانيا).

أما في أوكرانيا فالأمر أكثر تعقيداً، فلن تقبل موسكو بإعادة شبه جزيرة القرم الاستراتيجية لكييف.

ولكن الأمر مختلف فيما يتعلق بإقليم دونباس الانفصالي، فقد يقبل بوتين بإعادة دمجه مع أوكرانيا بشروط مفيدة له وللانفصاليين معاً، وهي شروط قد تسعى إلى أن تجعل أوكرانيا دولة فيدرالية، مع إعطاء الأقاليم التي يتحدث أغلب سكانها بالروسية حق امتلاك الفيتو على انضمام كييف للاتحاد الأوروبي والناتو.

وفي هذا الإطار يقول الخبير العسكري الروسي فيكتور ليتوفكين إن مصير اتفاقات مينسك سيتحدد وفق تطورات الوضع في دونباس، وإن على أوكرانيا أن تكون دولة فيدرالية لحل هذه القضية.

يريد بوتين أن تكون أوكرانيا ساحة تقاسم نفوذ بين روسيا والغرب، وليس منصة غربية على حدود بلاده.

قد يبدو قبول ذلك مرفوضاً من الأوكرانيين والأوروبيين والأمريكيين، ولكن بوتين أثبت  أنه يستطيع تحقيق كثير من أهدافه، كما أثبتت تجربته التعاونية والصراعية في الوقت ذاته مع تركيا في سوريا وليبيا وأذربيجان أنه يمكن التوصل معه لتسوية حتى ولو مرهقة.
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن رأي الموقع