السياسية:

حظيت زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى السودان بتغطية خاصة في وسائل الإعلام المصرية والعربية والعالمية بدرجات متفاوتة، نظراً للظروف السياسية المحيطة بكلا البلدين الشقيقين، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها السيسي للسودان منذ رحيل عمر البشير عن سدة الحكم.

وأتت الزيارة في ظروف أقل ما توصف به أنها مختلفة جذرياً عن الزيارة التي قام بها الرئيس المصري في 2015، حيث شهدت تلك الزيارة توقيع اتفاقية “إعلان المبادئ” بين مصر والسودان وإثيوبيا، كإطار للتعاون حول ملف سد النهضة. وبعد مرور 6 سنوات أتت الزيارة محمّلة بتغيّرات كثيرة وعميقة، حيث وصلت المفاوضات حول سد النهضة إلى طريق مسدود، بسبب التعنت الإثيوبي، وقيام الثورة السودانية التي أوجدت نظاماً سياسياً جديداً بديلاً عن نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، وما جرى في نهر العلاقات المصرية السودانية من تغييرات مهمة ولافتة، حيث التعاون بين البلدين قد وصل لمستويات عالية، تعكس عمق العلاقات الأخوية بينهما، وتقاربت وجهتا النظر المصرية والسودانية حول ملف سد النهضة، ما حدا بإثيوبيا إلى إظهار روح العداء تجاه السودان، وهو ما جعل التعاون المصري السوداني يشهد دفعة كبيرة نحو الشراكة الاستراتيجية لمواجهة التحديات المشتركة التي تهدد أمنهما معاً.

وقبل تلك الزيارة بأيام، انتهت زيارة رئيس الأركان المصري الفريق محمد فريد للسودان، ضمن وفد عسكري رفيع المستوى، لبحث سبل التعاون العسكري بين مصر والسودان. وقد صرّح فريد في نهاية الزيارة بأن هدف الزيارة هو سعي القاهرة لترسيخ الروابط والعلاقات مع السودان في كافة المجالات، خاصة العسكرية والأمنية، والتضامن كنهج استراتيجي تفرضه البيئة الإقليمية والدولية و”أن السودان ومصر .يواجهان تحديات مشتركة، وأن هناك تهديدات متعددة تواجه الأمن القومي في البلدين”.

الأمن القومي لنسور النيل

مع اندلاع المظاهرات ضد نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير، المتحالف مع التيار الديني في السودان، وتحوُّلها إلى ثورة شعبية، بدا واضحاً أن السودان على موعد مع تغييرات كبرى، ليست فقط في الداخل السوداني، ولكن مع محيطه الإقليمي والدولي. ولم يكن مشهد المرأة السودانية “الكنداكة” وهي تقف عالياً تغني وتحمّس الشباب الثوري وتدفعه لتغيير الأوضاع إلا استدعاءً عفوياً من الضمير الجمعي السوداني، الذي لم ينسَ أنه صاحب حضارة، وأنه يجب أن يكون له مكان في المستقبل بين الأمم المتحضرة، حيث تمثل “الكنداكة” رمزاً للملكات الحاكمات للحضارة النوبية القديمة في السودان ذي التاريخ العريق.

ومع مضي عملية التحول السياسي قدماً بمساعدة دول إقليمية وأخرى دولية، وظهور كيان سياسي جديد، بدأ السودان يسير رويداً رويداً نحو الاندماج مع العالم، بعدما عزله نظام البشير وجعله هدفاً للعقوبات الدولية، إلا أن “الكنداكة” السودانية فوجئت بتداعيات موروثة جعلتها تستدعي مظاهر القوة لمواجهة تعنت إثيوبي في ملف سد النهضة، ومواجهة محاولات إثيوبية متكررة لاغتصاب الأراضي السودانية، الأمر الذي جعلها تستدعي الموروث الحضاري والديني واللغوي لتحسين العلاقات المتوترة بينها وبين شقيقتها في الشمال “مصر”، ومحاولة إصلاح ما لحقها من تدمير في حقبة البشير. 

وهكذا ظهر التعاون العسكري والتدريبات الجوية المشتركة بين السودان ومصر، لتعطي إشارة واضحة للجارة الجنوبية إثيوبيا بأن السودان ومصر لن يفرطا في حقوقهما مهما حدث، حتى ولو اضطرتا لاستخدام القوة المسلحة لانتزاع الحقوق، وهو ما جعل إثيوبيا تعادي النظام السوداني وتتهمه بالعمالة “لطرف ثالث” تلميحاً إلى مصر، وهو ما رفضته “الكنداكة” السودانية التي استعادت قواتها المسلحة الأراضي التي احتلتها إثيوبيا وقت اشتعال الثورة السودانية، وهو ما أعطى إشارة بأن السودان لن يقف مكتوف الأيدي أمام الغطرسة الإثيوبية في ملف سد النهضة، خصوصاً أنه قد تضرر بشدة من جراء الملء الأول للسد.

لقد كانت الثورة السودانية مبعث قلق وترقب لدى الدول الإقليمية والدولية على حد سواء، لهذا ليس مستغرباً أن نجد اهتماماً عالمياً بما يحدث في السودان. فقبل نهاية النظام السابق قام البشير بعقد اتفاقية مع روسيا، يتم بموجبها إعطاء روسيا قاعدة عسكرية بحرية مطلة على البحر الأحمر، ظناً منه أنها ستكون حماية لنظامه من أمريكا، لكن القدر لم يمهله وسقط النظام. لكن الروس طالبوا بتنفيذ الاتفاقية، إلا أن ظهور السفن الحربية الأمريكية في الموانئ السودانية عقب مشهد الانفلات الأمني السوداني منع الحضور الروسي.

وأصبح السودان مهدداً من تداعيات سد النهضة، والحرب في ليبيا، وصراع مكتوم من القوى الكبرى على الكعكة السودانية، كل هذا وسط مشهد اقتصادي وسياسي واجتماعي داخلي معقد، ما جعل النظام السوداني مدفوعاً للتعاون الحيوي والضروري مع النظام المصري، الذي لديه رغبة عارمة لا تقل عن نظيره السوداني لتلبية الرغبة السودانية، مدفوعاً بأسباب أمنية استراتيجية تهدده هو الآخر في حال عدم التعاون.

ماذا تقدم مصر للسودان؟

على القاهرة أن تقدم للخرطوم ضمانات أمنية فعلية أمام التهديدات المحيطة بها، وهي قادرة على ذلك نظراً للقدرات العسكرية المصرية والخبرة الكبيرة التي يتمتع بها الجيش المصري. والتدريبات الجوية المشتركة “نسور النيل 1” التي بدأت بين الجيشين إشارة لا تخطئها العين، ويجب أن تتحول إلى شراكة استراتيجية ممتدة على المدى الطويل وراسخة في عقيدة البلدين. وأن تتحول القاعدة البحرية الجوية المصرية على البحر الأحمر “برنيس” إلى مظلة حماية، تكون بديلاً لتصارع القوى الدولية على إنشاء قواعد بحرية، إلى حين أن يستطيع السودان أن يقف على قدميه وينمي قدراته العسكرية الذاتية.وعليه، يجب أن تدرك القاهرة أن الشراكة الاستراتيجية مع الخرطوم مسألة حتمية تفرضها ضرورات الأمن القومي، كما تحدث رئيس أركان القوات المسلحة المصرية.
ويجب التأكيد على أن أي محاولة لجعل تلك الزيارات والاتفاقيات مع السودان مناورات تكتيكية تنتهي متى حُلت قضايا الأمن المائي مع إثيوبيا، ستجعل الصدام مع النظام السوداني أمراً وارداً في المستقبل، وتضع السودان في موقف البحث عن حليف إقليمي ودولي آخر بديل لمصر. 

* تحليل: ياسر رافع
كاتب مصري
المادة الصحفية تعبر عن وجهة نظر الكاتب
موقع “عربي بوست”