السياسية:

علقت صحيفة The Guardian الأمريكية على نشر تقرير الاستخبارات الأمريكية حول مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وقالت الصحيفة إن حملة جو بايدن لإعادة حقوق الإنسان لقلب السياسة الخارجية الأمريكية، التي روج لها كثيراً، اصطدمت بحائط القوة الكبيرة للواقعية السياسية، يوم الجمعة 26 فبراير/شباط، مثلما يحدث عادةً مع هذه الحملات.

ومثلما وعدت امتثلت إدارة بايدن للقانون الذي وضعه الكونغرس وتجاهله سلفه. ونشرت ملخصاً غير سري للتقييم الاستخباراتي الذي يقول إنَّ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان “وافق” على قتل مؤيد الإصلاحات السعودي والصحفي في The Washington Post جمال خاشقجي، وتتقطيع جثمانه أشلاءً.

وبالنسبة لجميع مزاعم إدارة ترامب بأنها لا تستطيع نشر التقرير خوفاً من الكشف عن “مصادر وأساليب” وكالة المخابرات المركزية، كان التقييم الموجز استنتاجاً منطقياً من المواد المتاحة للجمهور. وضمت فرقة القتل المُكوَّنة من 15 عضواً سبعة مختارين من بين الحراس الشخصيين للأمير محمد، في نظام “ملكي استبدادي يطالب بالطاعة المطلقة”. ومن ثم لم تكن مهمة تجسسية خطيرة، كما تقول الغارديان.

العقل المدبر لتصفية خاشقجي فلت من “حظر خاشقجي”

ومع ذلك لم يكن ولي العهد مدرجاً في قائمة السعوديين الـ76 الذين فُرِضَت عليهم عقوبات بموجب “حظر خاشقجي” الجديد الذي كشف عنه وزير الخارجية، أنتوني بلينكين، والذي يفرض قيوداً على التأشيرات الممنوحة للأجانب “الذين ينفذون أنشطة خطيرة مناهضة للمعارضة خارج الحدود الإقليمية، سواء قمع الصحفيين أو النشطاء أو غيرهم من الأشخاص الذين يُعتقَد أنهم منشقون بسبب عملهم، أو مضايقتهم، أو مراقبتهم أو تهديدهم أو إيذائهم”.

وفي حال تطبيقه بالكامل يمكن أن يؤدي “حظر خاشقجي” إلى طرد جماعي للدبلوماسيين وغيرهم من وكلاء الحكومة، ليس فقط من المملكة العربية السعودية بل أيضاً من ديكتاتوريات مثل الصين، التي تورطت بقوة في ترهيب المواطنين الصينيين والأمريكيين الصينيين الذين يعيشون في الولايات المتحدة.

بيْد أنَّ الحظر هو رد فعل عام على جريمة محددة جداً، أفلت عقلها المدبر من العقاب، باستثناء اتهامه بالاسم وفضحه. وجمَّدت وزارة الخزانة الأمريكية أصول النائب السابق لرئيس المخابرات السعودية، ومنعت جميع التعاملات مع قوة التدخل السريع، المعروفة باسم فرقة النمر، لكن راعيها وقائدها الملكي، ولي العهد، لم يُمسَس به.

علاوة على ذلك، كما نوهت كريستين ديوان، الباحثة الأولى المقيمة في معهد Gulf States Institute، بأنَّ الحظر الذي فرضته إدارة بايدن “يميز بين القمع المحلي ومطاردته في الخارج”، ولا يُعاقِب إلا على الأخير صراحةً. 

الامتناع عن فرض عقوبات على ولي العهد يُظهر حجم نفوذ الرياض

كان تأكيد جو بايدن أن الأمير محمد وافق على قتل جمال خاشقجي إنهاءً واضحاً لحقبة الصداقة بين سلفه والزعيم الفعلي للمملكة، ومؤشراً على علاقة مختلفة تماماً مع الإدارة الجديدة.

لكن الرياض رأت في قرار الامتناع عن معاقبة ولي العهد إثباتاً للنفوذ الذي ما زالت تتمتع به حتى مع المسؤولين المعادين لها. فرغم نبذها، تظل طرفاً فاعلاً رئيسياً، وبالنظر إلى ما كان يمكن أن يحدث، كان الشعور السائد في العاصمة السعودية مساء يوم الجمعة هو الارتياح.

فالتقرير الذي طال انتظاره لم يفعل أكثر من إضافة اسم وكالة المخابرات المركزية إلى النتيجة شديدة الوضوح بأن الأمير محمد أقوى من ألا يأذن بعملية اغتيال نفذها أقرب مساعديه إليه. وفي أروقة السلطة في المملكة، اُعتبر أن هذه الوثيقة دقيقة الصياغة لا تقدم شيئاً لدعم نتيجتها الرئيسية.

الرياض مارست ضغوطات كبيرة في واشنطن وآتت أكلها

ومارست الرياض ضغوطاً مكثفة لإقناع الأمريكيين بأن فرض عقوبات على الأمير محمد سيولد قطيعة ويبدو أنها انتصرت اليوم. إذ أقر المسؤولون الأمريكيون بأن تكلفة الإجراءات الصارمة، التي خضعت لدراسة جادة في الأسابيع الأخيرة، باهظة للغاية. وكان الارتياح في البلاط الملكي جلياً.

ففيما يخص الرياض كان التناقض بين الأسابيع الأولى من ولاية ترامب والأسابيع الأولى لخليفته صارخاً. ففي أوائل عام 2017 كان الملك سلمان والأمير محمد يستعدان لاستقبال ترامب استقبال الأبطال الفاتحين، وإحياء صداقة تاريخية قطعها باراك أوباما بتحوله إلى إيران. وظل الأمير محورياً  لإدارة ترامب في المشهد الإقليمي؛ فكان بمثابة حصن لصد إيران، وراعياً لاتفاقات سلام بين البحرين والإمارات وإسرائيل، قد تنتهي بإقامة الرياض نفسها علاقات رسمية مع إسرائيل.

وبعد أربع سنوات وجد الأمير محمد نفسه مرة أخرى في مواجهة فضيحة اعتقد أنه تخلص منها. إذ انكشف مقتل خاشقجي عن طريق الميكروفونات التي أخفاها ضباط المخابرات التركية، وتسبب ذلك في حرج واضطراب بالغين، كما تقول الصحيفة البريطانية.

أما المحاكمة الصورية لفرقة الاغتيال التي أعقبت ذلك- جميعهم من المساعدين المقربين لولي العهد- فشوهت صورته وصورة المملكة. وكل هذا في الوقت الذي عرض فيه ترامب عليه تستراً كاملاً. 

“حل وسط نشأ من واقع استحالة تغيير بن سلمان حالياً”

وكان التقييم الاستخباراتي والإجراءات العقابية بمثابة لكمة ثنائية، لكن سُحِبَت اللكمة الثانية، وهو حل وسط نشأ من الواقع البارد المتمثل في أنَّ “أي أمل بأنَّ الملك سلمان سيخفض بطريقة أو بأخرى مرتبة الأمير محمد بن سلمان في خط الخلافة لصالح المملكة، هو مجرد حلم بعيد المنال”. إذ إنَّ مكانة ولي العهد راسخة بدرجة لن تسمح بحدوث هذا، إضافة إلى أنه في منتصف الثلاثينيات من عمره؛ مما يعني أنَّ حظوظه جيدة بأن يصبح قائداً سعودياً طوال جيل أو أكثر.

ويشير المسؤولون الأمريكيون إلى أنَّ “كل إدارة تتعامل تجارياً مع قادة ملطخة أيديهم بالدماء من أجل المصلحة الوطنية، بدءاً من فلاديمير بوتين وشي جين بينغ. وما يجعل الأمير محمد مختلفاً هو أنه من المفترض حليف استراتيجي رئيسي في الشرق الأوسط”.

وتدير الولايات المتحدة خمس قواعد في السعودية. وفي ظل سعي إدارة بايدن لإحياء الاتفاق النووي المُبرَم عام 2015 مع إيران (المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة)، تسعى إلى إظهار أنها ليست مهمة سهلة في المنطقة. وكانت الغارة الجوية مساء الخميس، 25 فبراير/شباط، على رجال الميليشيات المدعومة من طهران في سوريا، دليلاً على ذلك. ومثل باراك أوباما من قبله، سيحتاج بايدن إلى السعي للحصول على موافقة السعودية على الأقل وإلا سيخاطر بتوحيد النظام الملكي في المنطقة وفي الكونغرس لتخريب أي اتفاق مستقبلي.

“السعودية دولة مهمة يصعب للغاية تجنبها”

وقال ستيفن كوك من مجلس العلاقات الخارجية: “إذا أردنا إخراج السعوديين من اليمن، فسنحتاج إلى تعاونهم، ونحن بحاجة للعمل معهم على خطة العمل الشاملة المشتركة. إنها دولة كبيرة ومهمة يصعب للغاية تجنبها”.

وقدم أوباما دول الخليج بمبيعات أسلحة قياسية، وهو تكتيك ندم عليه العديد من المسؤولين الأمريكيين، الذين كانوا في إدارة أوباما وهم في الإدارة الحالية أيضاً، باعتباره تواطؤاً في عمليات القتل الجماعي للمدنيين اليمنيين.

وسعى فريق بايدن إلى تصحيح ذلك من خلال الإعلان عن إنهاء التدخل العسكري الأمريكي في الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، لكن تخلل هذا القرار أيضاً منطقة رمادية. إذ ستبيع الولايات المتحدة أسلحة دفاعية لكن ليس أسلحة هجومية. لكن في الواقع التمييز بين الاثنين قابل للتأويل، كما تقول الغارديان.

وترى إدارة ترامب بما فعلته عقاباً من نوع آخر لابن سلمان، قد يكون نبذ الإدارة الجديدة لولي العهد، وثمة مقترحات لاعتراض صعوده إلى العرش في نهاية المطاف. وهذا الاعتراض لم يتحول إلى خطة بعد، على أنه لا يزال على قائمة أمنيات الأعضاء البارزين في فريق بايدن، الذين يفضل بعضهم يقين العصور السابقة، بكل معتقداتها المتشددة، على سلوك الأمير محمد الجامح.

وحين أجاب الملك سلمان اتصال بايدن يوم الخميس أخيراً، دافع الرئيس الأمريكي عن اعتبارات حقوق الإنسان التي كان ترامب يتجاهلها، لكنها عادت بقوة، مثلما عاد ادعاء أمريكا بأنها حامية القيم الإنسانية العالمية.

ومن الواضح أنه لا مزيد من الإفلات من العقاب أو من مزيج المصالح السياسية والمكاسب الشخصية التي كان يتمتع بها في عهد ترامب. ولن يكون كبير مبعوثي بايدن أحد أفراد الأسرة المقربين ممن يملكون إمبراطورية تجارية. ولا يُخفي ولي العهد السعودي، إذا تحولت إعادة ضبط العلاقات التي تنادي بها الإدارة الجديدة إلى قطيعة كاملة، تقرُّبه من فلاديمير بوتين واستعداد الصين لمحاولة ملء الفراغ.

وبنيامين نتنياهو بدوره يرى شريكاً في ولي العهد، وأقل من حليف في بايدن. وقد يختار كلاهما دعم واشنطن ظاهرياً، والاستمرار في اعتبار إيران تهديداً إقليمياً رئيسياً، في ظل سعي الولايات المتحدة لدفع قادة إيران للعودة إلى الاتفاق النووي.

وحلفاء وأعداء كلا البلدين سيراقبون الموقف عن كثب، وكذلك أعداء الأمير محمد، الذين من بينهم الموالون للرجل الذي أطاح به من منصب ولي العهد، محمد بن نايف، والذي يخضع للإقامة الجبرية منذ أكثر من عام. وقد تعرض للتهميش هو وجميع المنافسين المحتملين الآخرين بلا رحمة. لقد كان لجريمة القتل المروعة التي وقعت في إسطنبول بالغ الأثر على أوراق الأمير محمد، لكنها لم تعترض طريقه إلى العرش بعد.

وفي نفس الأسبوع الذي أُعلِن فيه “حظر خاشقجي”، أطلق النظام الملكي السعودي مبادرة مستقبل الاستثمار لهذا العام، والمعروفة باسم “دافوس في الصحراء” وبحسب جميع الروايات، عاد للمشاركة بقوة المصرفيين الاستثماريين وأباطرة الأسهم الخاصة الذين ابتعدوا في السنوات التي أعقبت مذبحة خاشقجي. ومن ثم، قد يُنظَر إلى الأسبوع الجاري على أنه الأسبوع الذي باءت فيه الجهود المبذولة لجعل الأمير محمد منبوذاً جميعاً بالفشل.

عربي بوست