السياسية- مركز البحوث والمعلومات:
الكثافة السكانية من أبرز معالم القوة الصينية وحضورها عالميا، إذ يعادل سكانها قرابة الـ19% من سكان العالم، وهو ما حقق لها وفرة في الأيدي العاملة الرخيصة التي استقطبت مصانع العديد من الشركات العالمية الكبرى، وباتت الصين كما يقال ” ورشة العالم “.
يصل تعداد السكان في الصين حتى العام 2020، بحسب التقديرات وبعض الإحصاءات الجزئية الصادرة عن المقاطعات والمكاتب الحكومية، إلى أزيد من 1.4 مليار نسمة، وهو رقم من المتوقع تأكيده في شهر أبريل القادم من هذا العام؛ حيث ستعلن نتائج الإحصاء الرسمي الشامل الذي يقام عادة كل عشر سنوات.
وأيا يكن الرقم الذي سيعلن عنه التعداد، فهو بحسب الخبراء سيؤكد ما بات مؤكدا ومعترفا به من قبل القيادة الصينية، وهو أن هناك واقعا ديموغرافيا مأزوماً في الصين، ووصل لمنحى خطير بات يهدد مكاسب الصعود الصيني واستمراره؛ فعدد السكان الهائل، رغم ما يمنحه من وفرة في الأيدي العاملة الرخيصة، إلا أنه لطالما ظل عبئا في ذهن القيادة الصينية وراسمي خططها، بما يعنيه ذلك من ضرورة توفير سبل العيش لهذا الكم الهائل من البشر، في ظل شح إمكانات وموارد الدولة.
ولأجل ذلك كانت سياسات تنظيم الأسرة الصارمة التي اتبعتها الحكومات الصينية المتعاقبة منذ العام 1978، وأدرجت في الدستور الصيني كسياسة وطنية سنة 1982، الساعية للحد من النمو السكاني، خصوصا في وقت كانت الصين تعمل فيه على إعادة بناء اقتصادها من جديد بعد النتائج التي وصلت إليها سياسة القفزة الكبرى للأمام، والتي أراد بها واضعها ماو تسي تونج تحويل اقتصاد البلد من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي، ولكنها باءت بالفشل الذريع، وتسببت بكارثة المجاعة التي فتكت بأرواح  ملايين الصينيين، أواخر خمسينات القرن الماضي ومطلع ستيناته.
لقد تضمنت سياسة الطفل الواحد إجراءات تهدف لتخفيض عدد المواليد الجدد وبالتالي تسارع النمو السكاني إلى أقل حد ممكن، ومن أبرز الإجراءات التي تبنتها هذه السياسة؛ فرض إنجاب طفل واحد على كل زوجين من قومية الهان ذات الغالبية في البلاد، مع عدم السماح بإنجاب طفل ثان إلا في ظروف خاصة وبعد الحصول على موافقة الحكومة. وفي سنة 1984، أدخلت الحكومة تعديلا على سياسة تنظيم الأسرة يسمح للأسر الريفية بإنجاب طفل ثان إذا كان الطفل الأول أنثى، مع السماح لأبناء الأقلية القومية التي لا يتجاوز عدد أفرادها عشرة ملايين بإنجاب طفل ثان وثالث . ويقع المخالفون تحت طائلة الحرمان من الخدمات الاجتماعية والدعم ، كم تسن عليهم عقوبات مالية طائلة .
وللإشراف على تحقيق هذه السياسات أنشئت جهة رسمية مختصة بتنظيم الأسرة المكونة من 230 ألف مسؤولا، ولها فروعها في جميع الوحدات الإدارية، لتصل خدماتها المجانية إلى أكثر من 200 مليون أسرة، وتمتلك هذه الجهة 42 مصنعا لمنع الحمل، كما يوجد فيها عيادات ومراكز للإسعافات الأولية حيث يمكن إجراء الإجهاض والتعقيم مجانا. وسنويا، يوافق أكثر من 20 مليون رجل لديهم بالفعل طفل أو طفلان على التعقيم، وهذا يشكل ما يقرب من نصف هذه العمليات في العالم، كما تخضع حوالى 11 مليون امرأة للتعقيم. وتقدر حالات الإجهاض السنوي بـ13 مليون حالة إجهاض، وتجرى غالبا في مراحل متقدمة ما يؤدي إلى عدم القدرة على الولادة في المستقبل .
ولقد نجحت هذه الإجراءات بصورة فعلية في تقليص نسب النمو السكاني، وتخفيض عدد الولادات، وتشیر التقدیرات إلى أن ھذه السیاسة منذ الإعلان عنها منعت إضافة ما یقرب من أربعمائة ملیون نسمة إلى سكان الصین . ولكن بعد سنوات من تطبيقها بدأت تظهر العواقب السلبية الوخيمة التي ترتبت عليها، وأضرت وبصورة عميقة بتوازن التركيب العمري والنوعي للمجتمع الصيني.
فمن ناحية التركيب العمري؛ باتت الصين تتجه وبصورة متسارعة نحو الشيخوخة؛ إذ إن عقوداً من سياسة الطفل الواحد وتغيير المواقف الاجتماعية بشأن الأسرة والزواج في الصين قد أدت إلى تراجع معدل المواليد، بعد أن أظهرت البيانات الصادرة في الثامن من فبراير عن وزارة الأمن العام الصينية أن عدد تسجيلات المواليد الجديدة عام 2020 كان 10.035 مليون، مقارنة بـ11.8 مليون عام 2019. وتجدر الإشارة إلى أن الرقم المسجل عام 2019 كان الأدنى منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام1949 .
هذا التقلص في عدد الأطفال رفع من معدل أعمار المجتمع، وتسبب في تناقص قوة العمل، وفي سنة 2012، قل عدد السكان في سن العمل، الذين لم تصل أعمارهم إلى سن الستين، ثلاثة ملايين وأربعمائة وخمسين ألف فرد مقارنة مع سنة 2011.وحسب البیان الإحصائي للاقتصاد الوطني والتنمیة الاجتماعیة في 2018، الذي أصدرته مصلحة الدولة للإحصاء الصینیة، فإن عدد سكان الصین الذین تقل أعمارھم عن 16 سنة بلغ 248 ملیونا وستمائة ألف نسمة، یمثلون 17.8% من إجمالي عدد السكان، في حین كانت نسبة ھذه الفئة العمریة في دول نامیة مثل الھند ومصر حوالي 35% . وبحسب مسؤولين صينيين فإنه من المتوقع، أن تفقد قوة العمل الصينية ثمانية ملايين فرد سنويا بعد سنة 2030. وسوف تتسارع وتيرة شيخوخة المجتمع الصيني، حيث سيبلغ عدد المسنين أربعمائة مليون فرد، وسيمثلون ربع سكان الصين، بحلول ثلاثينات هذا القرن . وقال تقريرٌ صادر عام 2019 عن الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية إن صندوق التقاعد الحكومي ستنفد أمواله على الأرجح بحلول عام 2035 . وتذهب بعض التقديرات إلى أنه وفي العام 2050 ستنشأ معادلة (1-2-4) داخل العائلة الصينية، والتي تعني أن عبء دعم الآباء والأجداد سيكون على فرد واحد فقط في العائلة وهو الابن، وبمعنى آخر، لن يكون هناك ما يكفي من الشباب للاعتناء بالجيل الكبير .
أما ما يتعلق بالتركيب النوعي؛ وكنتيجة لقانون الطفل الواحد، كان هناك ملايين الأسر الصينية التي تفضل إنجاب الذكور عوضا عن الإناث، لمساعدتها في العمل الزراعي في مناطق الأرياف، أو المساهمة في الإعالة والإنفاق على الأسرة في مناطق المدن. ولذا لجأت بعض الأسر الميسورة للسفر للخارج بغرض تحديد جنس المولود؛ حيث يحظر ذلك داخل الصين ويعاقب مرتكبه بعقوبات مالية قاسية، وفي حال تبين أن المولود أنثى يتم إجهاضه على أمل الحصول لاحقا على مولود ذكر، أما الأسر الفقيرة فبعضها يلجأ للتخلص من الطفلة الأنثى بالقتل حال معرفة جنسها بعد الولادة ودون إبلاغ السلطات بذلك.
وبذا تشكلت معضلة انخفاض معدل الإناث عن الذكور، وتسبب هذا الخلل إلى بروز مشاكل أخرى، تتعلق بانخفاض معدل الخصوبة، وعدم وجود ما يكفي من النساء للحفاظ على النمو السكاني للصين، مما ألجأ البعض من القادرين ماديا للزواج من نساء أجنبيات، أما البعض الآخر فلجأ إلى خطف النساء من المناطق الغربية الأقل نموا في جمهورية الصين الشعبية والزواج بهن؛ ففي عام 2009 ، أعلنت الشرطة أن هناك 36000 عروسا مخطوفة من أقاليم فقيرة مثل يونان وقويتشو وسيتشوان وهوبى .
إن إدراك هذه العواقب دفع بالحكومة الصينية لمراجعة سياستها المتعلقة بتنظيم الأسرة؛ فألغت في العام 2016 قانون الطفل الواحد، وسمحت برفع الحد الأقصى إلى طفلین لجمیع الأسر، وبالفعل شھد ذلك العام ارتفاعا طفیفا في عدد الموالید، ولكن معدل الموالید انخفض مرة أخرى في عام 2017 ، واستمر في الانخفاض في السنوات التالية, ومن جملة الأسباب التي عززت من هذا الانخفاض حدوث خلافات بين الحكومة المركزية وحكومات المقاطعات على رفع معدل الإنجاب؛ إذ تؤيده الحكومة ويرفضه المسؤولون المحليون بذريعة محدودية الموارد المالية .
أيضا يعزي الخبراء هذا التراجع لعوامل أخرى تتعلق بقلة المحفزات وارتفاع تكاليف السكن والغذاء والرعاية الصحية والتعليم، مما يجعل من قرار إنجاب الأطفال أمرا صعبا يحتاج إلى دراسة واستعداد، كما أن عقودا من سياسات التشجيع على تحديد النسل خلقت جيلا من غير المهتمين بالأطفال حتى ولو كانوا قادرين على إنجابهم وتحمل مسؤولياتهم.
 ولازالت الحكومة تسعى جاهدة لتطبيق إجراءات جديدة أكثر شمولا لتحسين الخصوبة ونوعية القوى العاملة والتركيبة السكانية، في إطار خطتها الخمسية الجديدة 2021- 2025، عبر تقديم دعم مالي وسياسي كبير لتشجيع الأزواج على إنجاب عدد أكبر من الأطفال ؛ إذ تعي القيادة الصينية جيدا أن تحقيق “الحلم الصيني” الذي تسعى له، لا يمكن إنجازه ضمن المؤشرات الديموغرافية الحالية، والتي وللمفارقة نتجت عن سياساتها الرامية للوصول إليه، وهي لا تهدد طموحات الصين فقط بل تهدد وجودها أيضا.
المراجع:
  – السيطرة على عدد السكان،http://www.chinatoday.com.cn
   – علي حسين محمود باكير، مستقبل الصين في النظام العالمي (دراسة في الصعود السلمي والقوة الناعمة)، أطروحة قدمت كجزء من متطلبات رسالة الدكتوراه، كلية الحقوق والعلوم السياسية: جامعة بيروت العربية، 2016.
   – العملاق الصيني – المشاكل الداخلية،https://sd.ww2facts.net
–  نجحت الصين في تراجع معدل مواليدها لكنها لم تكن تحسب حساباً لهذه الكارثة!.. فما الحل أمام بكين؟، عربي بوست https://arabicpost.net
   – في یوم الأطفال العالمي..الصین تحتاج إلى المزید منهم،http://www.chinatoday.com.cn/
 –   مصطفى كامل، الصين.. إنجاب الأطفال يشعل خلافا بين الحكومة والمسؤولين المحليين ‎  https://www.aa.com.tr/ar
–   خطوة قادمة قد تزيد عدد سكان الصين بسرعة جنونية  https://arabic.rt.com/world/