السياسية:

في انتعاشةٍ جديدةٍ للمناقشات الدبلوماسية الهادئة، تسعى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن جاهدةً لإيجاد طريقةٍ لإنقاذ الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، الذي تخلَّى عنه الرئيس السابق دونالد ترامب، رغم تفاقم المواجهة العلنية بين واشنطن وطهران بشأن هذه القضية في الأسابيع الأخيرة، وفقاً لمصادر دبلوماسية. 

وغيَّر فريق بايدن، أمس الخميس 18 فبراير/شباط، نهجهم علناً، مشيراً لإيران إلى استعداده للمشاركة في المفاوضات لإيجاد طرقٍ يمكن من خلالها لكلا الجانبين العودة إلى الاتفاق، كما تقول مجلة  Foreign Policy الأمريكية. 

كما أعلن ريتشارد ميلز، القائم بعمل السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة، الخميس 18 فبراير/شباط 2021، سحب الولايات المتحدة تأكيد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، إعادة فرض كل عقوبات الأمم المتحدة على إيران في سبتمبر/أيلول، إلا أن إيران ردت بفتور على الفكرة الأمريكية، التي طرحها وزير الخارجية أنتوني بلينكن خلال اجتماع عبر الفيديو مع نظرائه من بريطانيا وفرنسا وألمانيا الذين تجمعوا في باريس.

وكرر بلينكن الموقف الأمريكي بأن إدارة الرئيس جو بايدن ستعود إلى الاتفاق المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، إذا عادت إيران إلى الامتثال التام للالتزامات الواردة فيه.

وفي بيان مشترك قالت الدول الأربع إن “الوزير بلينكن أكد مجدداً أنه إذا عادت إيران للوفاء التام بالتزاماتها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة فإن الولايات المتحدة ستقوم بالمثل وهي مستعدة للدخول في مناقشات مع إيران تحقق هذا الهدف”.

فيما قال مسؤول أمريكي إن واشنطن ستقبل أي دعوة من الاتحاد الأوروبي لإجراء محادثات بين إيران والقوى العالمية الست التي تفاوضت على الاتفاق، وهي بريطانيا والصين وفرنسا وألمانيا وروسيا والولايات المتحدة.

وقال المسؤول لوكالة رويترز، مشترطاً عدم الكشف عن اسمه، بعدما قال مسؤول كبير في الاتحاد إنه مستعد للدعوة إلى عقد اجتماع بين أطراف الاتفاق: “نحن مستعدون للمشاركة إذا عُقد مثل هذا الاجتماع”.

ورحبت بريطانيا وفرنسا وألمانيا باعتزام بايدن العودة إلى الدبلوماسية مع إيران. لكن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف رد بأن على واشنطن اتخاذ الخطوة الأولى.

خطوة أمريكية هامة

بعد أن تعهَّد بايدن بإعادة اتفاق 2015 خلال الحملة الرئاسية وبذل جهودٍ دبلوماسية أوسع مع الحلفاء لتحقيق هذه الغاية، وجَّهَ الرئيس الأمريكي وزير خارجيته أنتوني بلينكن والمبعوث الخاص لإيران روب مالي لإشراك حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين، مثل بريطانيا وفرنسا، وكذلك الصينيين والروس، الذين كانوا أيضاً طرفاً في الاتفاق، وتعد هذه خطوة هامة من الجانب الأمريكي، فيما ناقش بلينكن، أمس الخميس، القضية في مؤتمرٍ عُقِدَ عبر تقنية الفيديو مع الأطراف الأوروبية الثلاثة الرئيسية في الاتفاق: فرنسا وألمانيا وبريطانيا. 

وكانت النتيجة بياناً نادراً ما شُهِدَ مثله خلال ولاية ترامب يقدِّم جبهةً أمريكية أوروبية موحَّدة “أعادت التأكيد على مركزية الشراكة عبر الأطلسي”، وطالب طهران بـ”عدم اتِّخاذ خطواتٍ إضافية” لخرق الاتفاق. وفي تحوُّلٍ طفيف، وافقت إدارة بايدن الخميس أيضاً على “الدخول في مناقشاتٍ مع إيران لتحقيق هذه الغاية”، وهو تحوُّلٌ عن إصرارها الصارم سابقاً على عودة طهران أولاً إلى الامتثال قبل اتِّخاذ أيِّ إجراءاتٍ أخرى. 

وأصدر المتحدِّث باسم وزارة الخارجية نيد برايس، في وقتٍ لاحق، بياناً قال فيه إن الإدارة “ستقبل دعوةً من الممثِّل الأعلى الأوروبي لحضور اجتماع الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وهي الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، بالإضافة إلى ألمانيا وإيران، لمناقشة طريقٍ دبلوماسي للمُضي قدماً”. 

وقال دبلوماسيون أوروبيون إنهم مسرورون بانفتاح إدارة بايدن للتحدُّث مع طهران، على الرغم من الأجواء المشؤومة التي سادت في الأسابيع الأخيرة نتيجة قرار طهران زيادة تخصيبها اليورانيوم وإنتاج المعدن الذي يمكن استخدامه في صنع القنابل. وأعقب ذلك هجومٌ صاروخي على مدينة أربيل العراقية من قِبَلِ ميليشياتٍ مدعومة من إيران أسفر عن مقتل مقاول أمريكي. وحتى الآن لم ترد إدارة بايدن على هذه الأحداث. 

وقال مسؤولٌ أوروبي مُطَّلِع على المفاوضات، تحدَّث شريطة عدم الكشف عن هويته للمجلة الأمريكية: “إنها إشارةٌ أخرى إلى أن الأمريكيين مستعدون للعودة إلى المناقشات”. وفي إفادةٍ صحفية موجزة مساء الخميس، وصف مسؤولٌ رفيع المستوى في إدارة بايدن المبادرة بأنها “تحوُّلٌ طبيعي سليم”، لأنه بدون مفاوضاتٍ جديدة لن تتخذ واشنطن ولا طهران أيَّ خطوةٍ نحو الحل. وقال مسؤولٌ أمريكي كبير آخر: “يمكن مناقشة أيِّ قضيةٍ من أي نوع على الطاولة”. 

هل أتى ضغط إيران بنتيجة؟

ويأتي التغيير في الموقف بينما يمر الوقت على جهود بايدن لإنقاذ الصفقة الإيرانية. وأقرَّ البرلمان الإيراني موعداً نهائياً يحل في 23 فبراير/شباط الجاري للتخلي عن الشروط التي تسمح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتحقُّق من امتثال إيران في غضون مهلة قصيرة. وقد رفضت طهران بالفعل طلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية لزيارة مواقع غير مُعلَنة يُعتَقَد أنها جزءٌ من برنامج إيران النووي، وأبلغت الوكالة أنه إذا لم تُستعاد الاتفاقية النووية لعام 2015 على الفور، فإنها ستتوقَّف عن تنفيذ “إجراءات الشفافية”، ويشتمل ذلك على إغلاق كاميرات المراقبة في المواقع النووية. 

ويمكن لمثل هذه الخطوة أن تقضي على الاتفاق النووي تماماً، لا سيما أنها تأتي على رأس تصعيد إيران للتوتُّرات مؤخراً. وقال دبلوماسي أوروبي آخر طلب عدم الكشف عن هويته: “إذا فقدنا أعيننا وآذاننا على الأرض، فقد لا تكون هناك عودةٌ إلى الوراء”. 

لكن أياً من الطرفين لم يتراجع بعد عن إصراره على أن يتحرَّك الآخر أولاً. ويقول المسؤولون المُطَّلِعون على تفكير الإدارة إن بايدن وبلينكن قلقان من أن يُنظَر إليهما على أنهما ضعيفان إذا قدَّما أيَّ تنازلاتٍ في البداية. إنهما قلقان بشكلٍ خاص من تنفير الجمهوريين في الكونغرس الذين يحتاجان أصواتهم في أولوياتٍ أكثر إلحاحاً، بما في ذلك حزمة إغاثة بايدن البالغة 1.9 تريليون دولار المتعلِّقة بكوفيد-19، وخططه الطموحة للاستثمار في البنية التحتية والحدِّ من تغيُّر المناخ. 

يصر بلينكن مراراً على أن طهران يجب أن تعود إلى الامتثال الكامل قبل أن تنضم الولايات المتحدة إلى الاتفاق. وتقول إيران إنها ستطرد المفتشين إذا لم تقدِّم واشنطن تخفيفاً للعقوبات أولاً. 

ومع ذلك كان بعض المتشدِّدين في واشنطن غير راضين عن التطوُّرات الأخيرة، فهم قلقون من احتمال أن يرضخ بايدن في النهاية لإنقاذ صفقة شارك فيها عن كثب عددٌ من كبار مستشاريه في السياسة الخارجية، بمن فيهم مستشار الأمن القومي جيك سوليفان. وبصفته كبير مستشاري السياسة الخارجية لبايدن، الذي كان نائباً للرئيس آنذاك، التقى سوليفان في عُمان، عام 2013، مع مفاوضين إيرانيين لبدء محادثاتٍ أدَّت بعد عامين إلى عقد خطة العمل الشاملة المشتركة، كما يُطلَق على اتفاق إيران النووي. وكان روب مالي طرفاً رئيسياً في تلك المفاوضات. 

التنازلات الأمريكية

قال ريويل مارك غيرشت، الخبير المحافظ في شؤون الشرق الأوسط الذي عارض الاتفاق النووي: “إنها نتيجةٌ مفروغ منها أن إدارة بايدن سوف تقدِّم التنازلات أولاً، وأن العقوبات ستُرفَع بشكلٍ غير متناسب، بينما تظلُّ إيران في انتهاكها الكبير لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ناهيكم عن خطة العمل الشاملة المشتركة”. 

وداخل إدارة بايدن، اشتعلت المناقشات بين كبار المساعدين حول ما إذا كان هذا هو أفضل مسار أو ما إذا كان ينبغي اتِّباع طرقٍ أخرى- ربما تكون أعقد- تتجنَّب الصفقة الأصلية، وفقاً لخمسة أشخاص مُطَّلِعين على المناقشات تحدَّثوا إلى صحيفة Politico الأمريكية. 

وفي غضون ذلك يشعر مؤيِّدو اتفاق 2015 بالقلق من أن بايدن يبدو متمهِّلاً في العودة إلى الاتفاق. فهم يخشون أن تؤدِّي الوتيرة الحذرة لبايدن إلى السماح لمنتقدي الصفقة، بمن فيهم ديمقراطيون كبار وساسة إيرانيون يتطلَّعون إلى الانتخابات المقبلة، بتشكيل النقاش. وهم قلقون أيضاً بشأن الجهود الإيرانية المستمرة للضغط على بايدن للتحرُّك بشكلٍ أسرع لرفع العقوبات كجزءٍ من العودة إلى الصفقة الأصلية، وتشمل أحدث مكائد إيران فرض موعد الأسبوع المقبل للحدِّ من وصول المفتشين الدوليين إلى المواقع التي يحتاجون الوصول إليها. 

وظهرت دلائل أخرى على تسارع الجهود الدبلوماسية قبل الموعد النهائي الإيراني حين أجرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مكالمةً هاتفية نادرة الحدوث يوم الأربعاء، 17 فبراير/شباط، مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، أخبرته فيها أن إيران بحاجةٍ إلى “إشاراتٍ إيجابية” قبل إحراز أيِّ تقدُّم. وردَّ روحاني بأن السبيل الوحيد للمضي قدماً هو أن تلغي الولايات المتحدة أولاً عقوباتها “غير الإنسانية وغير القانونية” على إيران. وأخبَرَ روحاني ميركل بأنه سيكون “من المستحيل” تغيير الاتفاق النووي من خلال إضافة مفاوضات حول برنامج إيران الصاروخي وتأثيرها الإقليمي في دعم جماعاتٍ مثل حزب الله والميليشيات في دولٍ مثل العراق- وهو تعديلٌ رئيسي وضروري لتأمين الدعم الجمهوري لأيِّ صفقةٍ جديدة. 

ماذا تبقى في يد طهران؟

وقبل الموعد النهائي في 23 فبراير/شباط، من المُتوقَّع أن يكون المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، في طهران، السبت 20 فبراير/شباط، لإجراء مزيدٍ من المحادثات. وفي غضون ذلك، يبدو أن إيران تريد جوزيب بوريل، رئيس السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي ورئيس اللجنة المشتركة لخطة العمل الشاملة المشتركة، أن ينسِّق عودةً متزامنةً إلى الاتفاق بين طهران وواشنطن. وفي محادثاتٍ أخرى غير مُعلَنة، قام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف- أحد كبار مهندسي اتفاق 2015- بالضغط على بوريل لإعداد خريطة طريق تدعو إلى إجراءاتٍ متبادلة من قِبَلِ الولايات المتحدة وإيران. 

لكن مسؤولاً كبيراً في إدارة بايدن شارك في المفاوضات قال لمجلة Foreign Policy، أمس الخميس، إن المناقشات لم تبدأ بعد بشأن مسألة ما إذا كانت واشنطن تدرس تقليص العقوبات تدريجياً في نفس الوقت الذي تخفض فيه طهران تخصيب أو انتهاكاتها الأخرى للاتفاق النووي. 

ومن المُقرَّر أن يلقي بايدن كلمةً أمام زعماء العالم اليوم الجمعة في جلسةٍ بالفيديو عبر الإنترنت لمؤتمر ميونيخ، الذي من المؤكَّد أن تراقبه إيران ودولٌ أخرى تحاول الكشف عن نوايا بايدن بشأن الاتفاق النووي. 

وبحسب صحيفة Politico، قالت وزارة الخارجية الأمريكية أمس الخميس إن الولايات المتحدة ستقبل دعوةً مُتوقَّعة من الاتحاد الأوروبي لحضور اجتماعٍ لأطراف الاتفاق الأصلي، بما في ذلك إيران، فيما لم يتَّضِح توقيت الاجتماع على الفور. 

وفي إيجازٍ للمراسلين الصحفيين، وصف مسؤولٌ كبير في وزارة الخارجية احتمال لقاء الإيرانيين وجهاً لوجه بأنه “خطوةٌ” أكثر من كونه تقدُّماً كبيراً. 

وبشكلٍ عام، تشير التطوُّرات حتى الآن إلى أن الاستعادة الكاملة للصفقة الأصلية قد تكون سلسلة مفاوضات أكثر فوضويةً وأطول أمداً مِمَّا توقَّعه العديد من المراقبين- إذا حدث ذلك من الأصل. 

عربي بوست