السياسية:

أوشكت الصين على إطلاق أسطول من الغواصات الفتاكة التي تحمل صواريخ باليستية تحمل رؤوساً نووية، وقد يمثل هذا عاملاً للاستقرار على المدى الطويل لكنه قد يزيد من سخونة التوترات.

وقبل الخوض في تفاصيل هذا التقرير الخاص بالغواصات الصينية التي كافحت بكين على مدار عشرات السنين لتطوير أنواع فتاكة منها تحمل صواريخ باليستية نووية وأنفقت مليارات الدولارات وأصبحت أخيراً على وشك تحقيق مرادها، من المهم التوقف عند السياق الأكبر لذلك النوع من الأسلحة بالتحديد.

إذ على الرغم من أن أي مقارنة عسكرية حالياً بين القوات المسلحة الصينية ونظيرتها الأمريكية تصب بشكل عام في صالح واشنطن، وبصفة خاصة في مجال الأسلحة النووية، إلا أن ما كشف عنه العام الماضي 2020 بالتحديد يشير إلى أن قيادة الحزب الشيوعي منذ وصل الرئيس شي جين بينغ وضعت نصب أعينها هدفاً محدداً وهو تقليل تلك الفجوة العسكرية بأسرع وقت ممكن.

وكان تقرير نشر مؤخراً كشف عن جانب من تلك الاستراتيجية الصينية يقوم على بناء مدمّرات وسفن حربية برمائية وحاملات وغواصات مُسلَّحة نووياً وقوارب هجوم سريع، إضافة إلى العديد من المنصات البحرية الأخرى ضمن جهد واضح لفرض هيمنتها إقليمياً وعلى البحار الدولية، وكذلك “استبدال الولايات المتحدة، الشريك المفضل لعدد من الدول في أنحاء العالم”.

تاريخ تطوير الصين غواصات نووية
وبالعودة إلى تفاصيل سعي الصين لتطوير أسطول من الغواصات النووية الفتاكة، نجد أن بكين كانت قد بدأت في تطوير هذا النوع من الأسلحة منذ عام 1958، ولم تكمل أول غوَّاصة لها إلا في أواخر الثمانينيات، لكن الفئة 092 SSBN لم تُنشَر مُطلَقاً في دوريةٍ فعلية.

ثم بدأت الفئة الأحدث من طراز 094، التي تحمل عشرات الصواريخ ذات الرؤوس النووية الأطول مدى من طراز JL-2، في دخول الخدمة في نحو عام 2006. ويبدو أن هذه الفئة أجرت أول دورية ردع صينية تحت البحر عام 2015.

غواصات صينية
واعتباراً من أواخر عام 2018، كانت هناك أربع غواصات من طراز 094 في الخدمة. ولم تنشر بكين علناً خطةً مُفصَّلة لتوسيع أسطولها من غوَّاصات الصواريخ الباليستية النووية، لكن الجيش الأمريكي يتوقَّع من الصين بناء ما بين خمسة وثماني غوَّاصات في الإجمالي، وفقاً لتقارير وبيانات عسكرية مختلفة.

ومع تزايد التوتر في العلاقات بين بكين وواشنطن خلال العامين الماضيين بصورة خاصة، من الطبيعي أن تثير تلك الأنباء عن قرب إطلاق الصين أسطولاً من الغواصات النووية تساؤلات بشأن تأثير ذلك على تلك العلاقات وهل يمكن أن تتطور الأمور سريعاً نحو مواجهة عسكرية تسعى من خلالها أمريكا لإجهاض استراتيجية الصين قبل أن تكمل بناء قوتها العسكرية؟

تونغ جاو، الزميل في برنامج السياسة النووية في مؤسَّسة كارنيغي للسلام الدولي، في مركز كارنيغي-تسينغهوا للسياسة العالمية في بكين، أجاب عن هذا التساؤل في تقرير نشرته مجلة National Interest الأمريكية، إذ قال: “أسطول من غواصات الصواريخ الباليستية النووية من شأنه أن يقلِّل من مخاوف الصين بشأن موثوقية رادعها النووي، ويقلِّل من دوافع الدولة لتوسيع ترسانتها”.

وأضاف تونغ: “ومع ذلك، فإن مثل هذه الفوائد سوف تنخفض على خلفية نقاط الضعف المرتبطة بجيل بكين الحالي من غواصات الصواريخ الباليستية النووية. على المدى القريب والمتوسِّط، سيتطلَّب تطوير مثل هذا الأسطول من الصين أن توسِّع بشكلٍ كبير من مخزونها الصغير سابقاً من الصواريخ الباليستية الاستراتيجية، ما قد يؤدِّي إلى تفاقم تصوُّرات التهديد للخصوم المُحتَمَلين ويجعلهم يتخِذون إجراءاتٍ مضادة قد تدفع في نهاية المطاف إلى تكثيف منافسة الأسلحة الناشئة”.

وفي سياق تطوير الصين لترسانتها من الغواصات الفتاكة، أوضح تونغ في تقريره أن الأمر “كان صاخباً للغاية، وربما كانت به مشكلاتٌ أخرى تتعلَّق بالسلامة والموثوقية”. وعلاوةً على ذلك، كانت الصواريخ التي حملتها الفئة القديمة من تلك الغواصات ذات نطاقاتٍ قصيرة جداً.

وعن التطورات الأخيرة، قال تونغ إن الصين “حصلت على قدرةٍ نووية تحت الماء بشكلٍ واضح لأول مرة. وهذا يمثِّل بداية حقبة جديدة للقوات النووية الصينية المتمركزة في البحر”.

كيف يمكن أن ترد أمريكا على هذا التهديد؟
في المقابل، وضعت البحرية وقوات مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) وخفر السواحل وثيقة استراتيجية جديدة تسمى Advantage at Sea (الأفضلية في البحر)، تتبنى موقفاً شديد الحزم من التوسع الصيني، وتسرد تفاصيل عددٍ مما تصفه بالطموحات الصينية العدوانية الهادفة إلى “تقويض الحوكمة البحرية الدولية، ومنع الوصول إلى المحاور اللوجستية التقليدية، وإعاقة حرية البحار، والسيطرة على استخدام المضايق الرئيسية، وعرقلة انخراط الولايات المتحدة في الخلافات الإقليمية.

كما استجاب الجيش الأمريكي للجيل الجديد من الغواصات النووية الفتاكة من خلال تعزيز قدراته المضادة للغوَّاصات. وهنا يوضح تونغ: “بين الجهود الصينية لإنشاء رادع نووي بحري موثوق، ومساعي الولايات المتحدة لتعزيز الإجراءات المضادة للغوَّاصات، تتصاعد التوتُّرات تحت سطح بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ الأوسع”.

غواصة الصواريخ الباليستية الأمريكية “أوهايو”

لكن طراز 094 من غوَّاصات الصواريخ الباليستية النووية المستقبلية في الصين يمكن أن ينتهي به الأمر بتشجيع الاستقرار بدلاً من الصراع. واليوم فإن صواريخ SL-2 التي تحملها هذه الغوَّاصات تمثِّل ما يقرب من نصف ترسانة الصين النووية التي يبلغ قوامها 100 صاروخ طويل المدى. ومن المُرجَّح أن ترتفع هذه النسبة مع دخول المزيد من غوَّاصات الصواريخ الباليستية النووية إلى الخدمة.

ونظراً لأن لديها القدرة على البقاء أكثر من الأسلحة النووية التي تُطلَق من الأرض والجو، يمكن أن تغيِّر صواريخ SL-2 مواقف القادة الصينيين تجاه الردع النووي للبلاد. يكتب تونغ: “إذا ساهمت غوَّاصات الصواريخ الباليستية النووية بشكلٍ كبير في موثوقية الرادع النووي الصيني، فسيكون لدى الصين حافز أقل لتوسيع ترسانتها النووية”.

بعبارةٍ أخرى، قد تحتاج الصين في النهاية إلى عددٍ أقل من الأسلحة النووية بشكلٍ عام إذا كانت نسبةٌ أكبر من الأسلحة عبارة عن صواريخ تُطلَق من الغوَّاصات. وفي عصرٍ تتصاعد فيه التعزيزات النووية في الولايات المتحدة والصين، يمكن للترسانة الصينية الأصغر نسبياً والأكثر ثباتاً أن يكون لها تأثير يهدِّئ هذه التوتُّرات، وفقاً لتونغ.

وفي هذا السياق، كان تقرير للبنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية) قد أشار في يناير/كانون الثاني 2020 إلى أن الصين تسعى لمضاعفة مخزونها من الرؤوس الحربية النووية خلال العقد الحالي (حتى 2030)، لتتضمن تلك الترسانة الصينية صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية ويصل مداها إلى مسافات تهدد الولايات المتحدة.

لكن حتى في حالة تنفيذ بكين لذلك بالفعل، أي مضاعفة ترسانتها من الرؤوس النووية، ستظل تلك الترسانة أصغر كثيراً من نظيرتها الأمريكية، في ظل امتلاك واشنطن نحو 3800 رأس نووية في حالة جهوزية للإطلاق بخلاف أضعاف ذلك الرقم كاحتياطي، بينما يقل العدد لدى بكين عن 200 رأس نووية إجمالاً.

لكن يجب على بكين إقناع القوى الأخرى بأن أسطولها المتنامي يسهم ليس فقط في أمنها القومي، بل في استقرار العالم بأسره. يقول تونغ: “لدى الصين بعض الخطوات أحادية الجانب التي يجب أن تتخذها لضمان أن نمو أسطولها من غوَّاصات الصواريخ الباليستية النووية لا يؤدِّي إلى تعطيل ديناميات الأمن القومي ومصالحها الأمنية الخاصة قدر الإمكان”.

على سبيل المثال، يجب على الصين بناء العديد من هذه الغوَّاصات التي تحتاجها حقاً من أجل الحفاظ على قوة ردع موثوقة في البحر. ويمكن أن تكون أربع أو خمس غوَّاصات من طراز 094 كافية لكي تكون هناك غوَّاصة واحدة في كلِّ دورية طوال الوقت. وإذا قامت بكين ببناء أكثر من خمس غوَّاصات، فقد يعني ذلك أن الحزب الشيوعي قد سمح للمشاعر القومية غير العقلانية بتشكيل هيكل قوته.

ويكتب تونغ مُحذِّراً: “إذا سمحت الصين للمشاعر القومية بحملها على بناء قدرة نووية بحريةٍ تتجاوز أي احتياجات أمنية عملية، فقد يثير ذلك شكوكاً لدى الدول الأجنبية حول نوايا بكين الاستراتيجية ويسهم في تصعيد منافسة استراتيجية مدمِّرة وغير ضرورية في الأسلحة”.

عربي بوست