السياسية:

كان الكاتب الروسي العظيم تولستوي رجلاً غنياً، يمتلك الضيعات والأراضي، لكنه لم يكن كأمثال النبلاء والأغنياء الروس، فعرف عنه عطفه على الفقراء والمعدومين فبنى لهم المدارس وبنى لهم الكنائس، كان تولستوي يقول إن سعادته من سعادة الآخرين.
رغم كل هذا وصل الروسي إلى منزلق خطير للغاية، فقد وصل به الأمر إلى التفكير في الانتحار، إلا أنه ضعف أمام الموت، وعاش كئيباً فترة طويلة من حياته هائماً لا يعرف لنفسه طريقاً واضحاً، فكان يصرخ “يا إلهي، رحمتك، أنقذني! أرني الطريق..”.

ظل هكذا واختار في النهاية أن يخرج من الكنيسة الأرثوذوكسية وأن تتبعه لعنات رجال الدين إلى قبره، وقبل موته بفترة ليست بالقصيرة بدأ جدياً يقترب من الإسلام بل أصبح مدافعاً عنه، وكتابه “حكم النبي محمد” شاهد على هذا. لقد كان بينه وبين الشيخ محمد عبده علاقة صداقة، فتبادلا الرسائل، وطرح ليون تولستوي الأسئلة تباعاً على الشيخ، وهكذا إلى أن مات، ويقال إنه أسلم. وقد طلب ألا يقرأ عليه أي قسيس، وألا يُدفن في مدافن المسيحيين، وألا يوضع على قبره صليب، ودفن كما يدفن المسلم.

قصة عظيم الروس مع الإسلام مثال واحد فقط، من قصص العظماء مع هذا الدين العظيم، الذي ما إن يعرفه المرء حتى تسكن روحه إليه وتذوب جوارحه فيه، لقد حدث هذا مع كثير من  المثقفين الأوربيين؛ ورغم أنهم لم يسلموا فإنهم ظلوا يكنّون للإسلام الاحترام الكبير.

ولكننا إذا ما عدنا إلى بلاد المسلمين وجدنا قوماً يرون في تعاليم هذا الدين تناقضاً، وفي سُنة الحبيب رجعية، وقرأنا أنهم يطالبون بتجديد الدين ووضع تفسير جديد للقرآن الكريم؛ ومراجعة للتاريخ الإسلامي واعتذار عما فعله الصحابة  والمسلمون. 

الإسلام الجديد أو الإسلام الإنساني

في 1933 ظهر البيان الإنسانوي الأول على يد روي سيلرز وريمون براغ، وتحدث هذا البيان عن دين جديد وعرَّف الإنسانوية باعتبارها حركة دينية تهدف إلى التعالي وتجاوز الأديان السابقة ذات الأصل الإلهي. (راجع إبراهيم بن عبدالله الرماح، الإنسانوية المستحيلة، ص22)

وفي خمسينيات وستينيات القرن العشرين، بدأت موجات هذا الفكر تصل إلينا بشكل لافت، وكان من تجليات الوصول، ظهور كتابات إنسانية أو إنسية عربية؛ ونقصد بالأنسنة ما هو مرتبط تاريخياً بفترة عصر النهضة في إيطاليا، والأنسنة تعني عموماً جعل الإنسان موضوع كل شيء ومرجع كل شيء، انطلاقاً من الفكر الإغريقي السفسطائي المعروف بتمجيده للإنسان.

كتب طه حسين وحسن حنفي ومحمد أركون وسيد قمني وغيرهم كثيرون، بأقلامهم أفكار المستشرقين، وحاولوا تطبيق الفكر الإنسي على الإسلام، واستغلوا جهل الناس فاعتبروا نقلهم إنجازات شخصية. وفي هذا الصدد يقول  الدكتور أحمد إدريس الطعان ما نصه:

“تلقف بعض الباحثين العرب النظريات الفلسفية الوضعية حول الأديان وطفق بعضهم يعرضها بين المسلمين على أنها من إبداعها، مستغلاً في ذلك جهل السواد الأعظم  من الأمة باللغات الأجنبية…” (راجع أحمد  إدريس الطعان، العلمانيون والقرآن الكريم، 314).

وعلى خطى العَلمانيين الغربيين الذين استطاعوا تحرير الأوربيين من قيود الدين وحصر المسيحية والرجوع بأوروبا نحو الوثنية، كما يذكر الدكتور عبدالمجيد الشرفي في كتابه “لبنات” ص 54:

“… حيث أصبحت تعني (العلمانية) حسب موقع كل طرف إما التحرر من قيود الدين وسلطة رجاله، وإما انحسار النصرانية والرجوع إلى الوثنية”.

على خطاهم؛ سار بعض المفكرين المعجبين بالفكر الغربي وعلى رأسهم محمد أركون، الذي لا ينفك طيلة كتابه “القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني”، يذكر المستشرقين وكتبهم حول القرآن وحول الإسلام، وهو ينطلق حسب قوله، من أفكارهم ويطبق ما وصلوا إليه من معارف وطرق تحليلية، خاصةً “الفيلولوجيا”، على النص القرآني وعلى التراث والمجتمع الإسلامي عموماً. 

ففي صفحة 43 من الكتاب المذكور، يقول ما نصه:

“لقد حاولت أن أطبق النظريات الأنثروبولوجية للعالِمين كاردينير ولينتون على دراسة الفكر والمجتمع والسياقات الإسلامية…”.

وطبعاً كما واضح ومعروف، فإن استخدام تلك الطرق والمناهج في التحليل والتأويل تؤول إلى تفريغ النص الديني من محتواه، بل إزالة القدسية عنه وتحويله من كتاب إلهي ووحي إلى كتاب تاريخي، حسب أركون، وبالتالي إضفاء صبغة بشرية على القرآن وتعاليمه وهو ما يعني عدم قدسيتها وإمكانية إنكارها ووضعها جانباً على الهامش كما حدث مع الإنجيل مثلاً.

وكما كتب بارون دي هولباخ عن ظاهرة الدين وكونه اختراعاً بشرياً، أعاد وكرر حسن حنفي في كتابه “التراث والتجديد” ص 127-130 الخطاب نفسه، إذ يقول:

“إن الله لفظة نعبر بها عن صرخات الألم وصيحات الفرح… تعبير إنشائي أكثر منه وصفاً خبرياً… هو رد فعل على حالة نفسية…”.

والمعنى واضح، ونفسه كما قلنا يوجد في كتابات الكاتبين هولباخ وتلميذه ماركس وغيرهما، فالله ليس سوى سلوة للضعفاء والمساكين، والجنة ليست سوى تعويض عن جحيم وألم الأرض، وهكذا.

إذن نحن هنا نرى ونكتشف أن الذين يسمون أنفسهم مفكرين ينتمون للإسلام، يسعون وبكل الوسائل إلى إفراغ الدين من كل قيمة وتحويله إلى ترانيم وكلمات جوفاء تقال في الاحتفالات، وهم يأملون أن يتنازل الشيوخ عن تمسكهم بالشرع والفقه، كما حدث وتنازل الباباوات والقساوسة، وعوض أن نسعى لإدخال العالم في الإسلام لماذا لا ندخل الإسلام في العالم، كما حدث مع المسيحية.

إسلام على المقاس

في الحقيقة يصعب تحقيق ما يصبو إليه العلمانيون العرب؛ وذلك لوجود اختلاف تام بين الإسلام، الذي لا يمكن أن نطلق عليه لفظ “الدين”؛ لكونه يتجاوز هذا الإطار الضيق، وينطلق ليمس كل مجالات الحياة البشرية وبذلك يتجاوز الدين كما هو متعارف عليه؛ ثم الاختلاف البين في نظرة الإسلام لكل من الدنيا والآخرة، فإن كان الدين المسيحي يحمل مبادئ أولية للعلمانية “دع ما لله وما لقيصر لقيصر”، فإن الإسلام يرفض هذا التقسيم فيقترح بدله “لله ما في السموات والأرض” و”إن الحكم إلا لله”، بذلك فأي فكرة تبيح فصل الدين عن السياسة مثلاً فكرة لن تجد له أي إشارة في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية.

يبقى الأمر إذن بالنسبة للعلمانيين هو محاولة علمنة حياة المسلمين وبالتالي علمنة تدينهم لا دينهم، وهذا حدث بالفعل ونجح بمقدار هائل، وذلك راجع بالأساس للثقافة التي يتلقفها المسلمون من قنوات الاتصال مع الغرب، وكذا لسيطرة الفكر الليبرالي على الحياة العامة، وتأثير الاقتصاد مما لا يمكن إغفاله.

التعامل اليوم بمبادئ الليبرالية والبراغماتية خاصة، يجعل المسلم يقع ضحية انفصام خطير، فهو من جهة يؤمن بدين يقر بوجود الأخلاق والمبادئ السامية ومن جهة كل ما حوله مُعلمن يتجاوز هذه المبادئ ويعوضها بمبادئ أرضية. وهنا يختار مكرهاً أو حتى دون أن يشعر، العلمنة والطريق الليبرالي أو الأخلاق الرأسمالية، ولعل الأمر يذكّرنا لزاماً بالبروتستانت، فمع مارتن لوثر، مؤسس المذهب البروتستانتي، حللت المعاملات الربوية وانقلب الدين المسيحي من دين يشجع على الرهبنة لدين يحفز على الاستثمار والربح، وهذه كانت اللبنة الأولى للفكر الرأسمالي (راجع ماكس فيبر، أخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية).
ويرى ماكس فيبر في كتابه، أن الإسلام لم يشجع على التجارة؛ لإيمان المسلمين بأن الرزق بيد الله وأن كل شيء يرجع إليه، وهو بذلك أخطأ كما لا يزال يخطئ كثيرون، فالإسلام لم يدعُ للتواكل والكسل. والدليل أن معظم الصحابة كانوا تجاراً؛ والرسول صلى الله عليه وسلم كان تاجراً من قبل. بل الذي وقع فيه ماكس فيبر هو ربطه للإسلام بدعوة “المرجئة” وهي طائفة من طوائف الإسلام.

على العموم، الحديث عن علمنة الإسلام غير ممكن إلا باختراع تعاليم جديدة له وقراءات شاذة، دون ذلك، الأمر صعب.

قراءات شاذة

 
يتكئ دعاة الإسلام الجديد أو “إسلام السوق”؛ على تأويلات شخصية لآيات القرآن؛ تأويلات يرونها تجديداً للخطاب الديني ونشراً للتسامح، وهذا أمر حسن فمن هذا الذي هو ضد التسامح.. ولكن، التسامح لا يعني ليَّ عنق الآيات لتناسب أهواء الناس وأفكارهم، فالإسلام لم يأت ليساير هوى الناس بل جاء ضد هواهم، وكذلك سيبقى. فلا يعتقد أن أي تلاعب بمعاني الآيات انتصار للتنوير، بل هو تغيير للدين وإحداث لدين جديد لا علاقة له بالدين الإسلامي الحقيقي. 

إن هؤلاء “المجددين”  غير مدركين أنهم حين يقدمون هذه التجديدات والرؤى فإنهم يؤسسون لدين جديد مختلف عن الإسلام الذي أنزل.

قصة “إسلام عبسلام”

الجالية المغربية تنتظر فصل الصيف بفارغ الصبر؛ ففصل الصيف موسم عودة الطيور المهاجرة لعشها القديم، وفي الصيف تمتلئ جنبات مرتين وتطوان بالجالية؛ وتزدحم الطرقات بسياراتهم، ولا تكاد تسمع في شواطئ تطوان إلا اللغات الأجنبية، وكلمات من قبيل “سخوت” التي تعني “جيد”، و”يا يا” أي “نعم” وكلاهما بالهولندية؛ حتى ليخيل إليك أنك بأحد شوارع أمستردام.

في أمستردام قضى الشاب عبدالسلام، الذي نناديه “عبسم” باللجهة الجبلية أو “عبسلام” بما هو متعارف عليه في  مدينة تطوان، سنين من عمره، وهذا الصيف سيعود إلى المغرب مرة أخرى؛ وحين يقرر ذلك؛ يقترح على أحد الشبان الهولنديين مرافقته، وهكذا يحل فتى الأراضي المنخفضة بالمغرب لأول مرة، ويعود عبدالسلام لمسقط رأسه.

بعد أن يقضي الشابان ما شاء الله أن يقضيا في المغرب؛ وقبل أن يعودا أدراجهما؛ يطلب الصديق الهولندي من عبدالسلام طلباً لم يكن ليخطر على بال  الأخير؛ فقد  أعجب الفتى الأشقر أزرق العينين بأخت عبدالسلام، رغم أنه لم يرها إلا الهوينى ولم  يكلمها إلا دقائق معدودة، فلا تجمع بينهما لا مائدة الطعام ولا جلسة الشاي؛ فتقاليد المنطقة واضحة وجلوس النسوة، خاصة غير المتزوجات، أمام الضيوف غير أخلاقي وليس من الدين في شيء؛ وهذا معروف في معظم بلاد الإسلام مع وجود بعض الاستثناءات طبعاً. رغم هذا يصر الشاب على أن يتزوج الفتاة؛ وحين يستشعر عبدالسلام جديته؛ يوافق ولكن على أن يسأل أباها أولاً ويطلبها منه؛  والذي عليه أن ينتظر رد الفتاة طبعاً؛ فلا زواج في الإسلام دون موافقة الفتاة.

كان أبو عبدالسلام رجلاً متديناً على حق، فوافق على الزواج بعد موافقة الفتاة؛ ولكن بشرط واحد أساس؛ أن يُسلم الفتى الهولندي، وهذا شرط مهم كما هو معروف للجميع. وهنا نصل إلى الهدف الأساس من هذه التدوينة، فلم اشترط أبو الفتاة الإسلام على الفتى الهولندي، سأله الأخير: “واش الإسلام دعبسلام”، ربما سأله بالهولندية وعبسلام يترجم أو ربما تعلم العربية/الدارجة؛ لا يهمنا المهم أن سؤاله واضح مختصر؛ فكان جواب الأب: “نعم الإسلام د عبسلام”. فوافق الفتى من فوره دون أدنى تفكير؛ الأمر الذي تعجب منه الكل إلا عبد السلام، فلماذا وافق الفتى بهذه السرعة؛ ما السر وراء ذلك؟

الذي جعل الفتى يوافق بهذه السرعة على الشرط؛ معرفته القديمة وصداقته المتينة بعبدالسلام، وشرط كهذا ليس بشرط أصلاً، فإذا كان الإسلام هو ما يفعله عبدالسلام فالفتى الهولندي مسلم مسبقاً؛ وذاك أن عبدالسلام كبعض المغاربة والمسلمين -قديماً وحديثاً- نسوا دينهم وتعلقوا بالحياة وألفوا حياة المجون والعربدة. فلا يمر اليوم على عبدالسلام والصديق الهولندي دون الذهاب لنادي الرقص الليلي؛ ولا يعرف الفتى عن عبدالسلام سوى أنه سكُير وماجن ولا يعرف القِبلة أين هي بالضبط؛ ولم يسمعه وهو يتحدث عن الإسلام إلا نادراً ولا يراه يصلي إلا في بعض الأحيان؛ التي يشفق فيها عبدالسلام على نفسه.

اتفق الطرفان على الشرط، سَعد الكل ما عدا عبدالسلام، همس في أذن صاحبه طالباً منه أن يتبعه إلى السطح؛ هناك ألقى على أسماع صديقه خبراً أعتقد أنه سيقلب الأحداث وربما تسبب في ما لا يرجو، ولكنه قرر أن يخبر صديقه ويبعد عن نفسه وجع الضمير الذي قد يلازمه مدة طويلة، فحكى له حقيقة الإسلام، وعن كونه ديناً يحرم كل الموبقات والرذائل من الزنا وشرب الخمر والقمار، التي يفعلانها معاً، ويفرض على الناس خمس صلوات والصوم والحج والحجاب للنساء.. إلخ، وكخلاصة أفهمه أن الإسلام الذي يعرفه أو” إسلام عبسلام” ليس هو الإسلام الحقيقي.

نهاية لا بد منها

يجب علينا ألا نبخس الناس حقهم في التعبير وإبداء الرأي ولو حتى في الدين، وهذا حق مكفول، هم كذلك لا يحق لهم منع الناس من انتقادهم والتعبير عن رأيهم بحرية، هكذا فقط تتقدم الأمم.

إنا نرى أن من يدعو إلى غير ما عُرف عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يدعو لدين “عبدالسلام” لا دين الله، فعوض أن يدعو العالم إلى اتباع الإسلام يدعو الإسلام اتباع العالم. ولو كان هذا العالم يسير نحو الهاوية، والإسلام لم يأت ليساير أهواء الناس وخيالهم -كما قلنا- بل العكس. فقد تحدى قريش وأخلاقها وقلب مفاهيمها، وهذا ما شجع الصحابة الذين كانوا قد ملوا مدنية قريش المزيفة، وهو الذي مازال يشجع كثيرين على اعتناقه، لكونه يخلّصهم من الزيف والوهم، لأنه جاء بالعلم وباليقين.

*علي الرباج
أستاذ مادة الجغرافيا والتاريخ
* الماده الصحفية تعبر فقط عن وجه نظر الكاتب .. موقع “عربي بوست”