السياسية:

قد يرى البعض أن أمريكا لم تعد قائدة العالم، وأن تأثيرها تراجع بالفعل، لكن التغييرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ خسارة ترامب وفوز بايدن بالرئاسة ترسم صورة مختلفة.

فالتداعيات الأولية لفوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية وبالتالي نهاية حقبة دونالد ترامب التي اتسمت من ناحية بإعطاء إسرائيل دعماً غير مسبوق، ومن ناحية أخرى عدم الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان ودعم الديمقراطية، وهو ما أشعل المنطقة بنزاعات داخلية استدعت تدخلات خارجية من أطراف عديدة، تشير بوضوح إلى مدى التأثير الذي لا تزال تتمتع به واشنطن في قضايا المنطقة.

المشهد في واشنطن لا يوحي بالسيطرة ولكن يظل نفوذ أمريكا حاضرا في الشرق الأوسط

وإذا كانت أمريكا لم تعد بالفعل قائدة العالم، كما يرى البعض، وأن محاولات بايدن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء من خلال استعادة الدور الأمريكي الرائد على المسرح العالمي بشكل عام، يظل تأثير واشنطن ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط حاضراً وبقوة من خلال ما تشهده المنطقة من تغيرات منذ فوز بايدن وحتى قبل تنصيبه رسمياً.

وقد نشر موقع وكالة Bloomberg الأمريكية مقالاً للصحفي والكاتب سيث فرانتزمان، المدير التنفيذي لمركز الشرق الأوسط لإعداد التقارير والتحليلات، سلط الضوء على جانب من تلك التداعيات الأولية لغياب ترامب عن المشهد وتولي بايدن المسؤولية في البيت الأبيض.

المصالحة الخليجية أبرز المؤشرات

وتعتبر المصالحة الخليجية التي تمت في قمة العلا بالسعودية يوم 5 يناير/كانون الثاني الجاري معلنة نهاية حصار الدول الأربع (السعودية والإمارات وقطر ومصر) لقطر من أبرز التداعيات الأولية لفوز بايدن بالرئاسة، بحسب محللين ومسؤولين مطلعين على كواليس المصالحة.

ولفت فرانتزمان في بداية مقاله أيضاً إلى تلك المصالحات التي بدأت تندلع في جميع أنحاء الشرق الأوسط؛ إذ إنه بالإضافة إلى المصالحة الخليجية ونتائجها، تسعى تركيا أيضاً للتوصل إلى تسوية مع فرنسا واليونان وإسرائيل ومصر والإمارات والسعودية بعد سنوات من التوترات، كما تضغط مصر والأردن وفرنسا وألمانيا من أجل محادثات سلام جديدة بين إسرائيل والفلسطينيين.

وبالإضافة إلى ذلك، يشير الكاتب إلى أن ثمة احتمالات بانضمام دول عربية أخرى إلى الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، في قطار التطبيع مع إسرائيل، ويذهب إلى أن عمان وقطر هما الأرجح. ويرى في هذا السياق، أنه حتى حماس باتت تبدو منفتحةً بطريقة ما على شروط تعايش جديدة مع السلطة الفلسطينية بقيادة فتح في رام الله. وتم التوصل بالفعل إلى اتفاق يقضي بإجراء الانتخابات الفلسطينية بعد سنوات طويلة من عدم الاتفاق بين فتح وحماس بشأنها.

وفي هذا السياق تشهد المنطقة سلسلة غير مسبوقة من التصريحات والاجتماعات في الفترة السابقة على تنصيب بايدن، وهو ما يشكل نهاية لحقبة من العداء المضطرم في جميع أنحاء الشرق الأوسط، والذي أسهمت في تأجيجه انعزاليةُ الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، كما استغلتها القوى الأخرى -لا سيما روسيا- للعمل على إسقاط الهيمنة الأمريكية العالمية.

ويشير فرانتزمان إلى أن نهج ترامب بوضع مصلحة أمريكا أولاً وفوق كل شيء أفضى إلى زعزعة استقرار العلاقات التقليدية مع أوروبا والناتو وحلفاء الولايات المتحدة في آسيا، كما أدى إلى مقاربات متعددة الأطراف للصراعات المختلفة في الشرق الأوسط.

ويستشهد الكاتب بوصف ترامب لسوريا بأنها قطعة أرض ضائعة من “الرمال الملطخة بالدماء”، وكلماته إلى طلاب الأكاديمية العسكرية الأمريكية بأنه “ليس من واجب القوات الأمريكية أن تحل النزاعات القديمة في الأراضي البعيدة، فالولايات المتحدة ليست شرطي العالم”.

سياسة ترامب في الشرق الأوسط

وفي المقابل، يذهب فرانتزمان إلى أن هذا النهج من ترامب كان انحرافاً جذرياً عن “النظام العالمي الجديد” الذي أسَّس له الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب ووضع من خلاله الولايات المتحدة على المسار الصحيح للاضطلاع بدور رئيسي في الشرق الأوسط إبان التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومن ثم، كانت رسالة ترامب إلى دول المنطقة أنه ينبغي عليهم المضي قدماً بمفردهم.

لكن ترامب لم يعزل الولايات المتحدة تماماً عن شؤون الشرق الأوسط كما يبدو، بل تدخل في بعض الأحيان بصورة أدت إلى تعقيد الأمور وزيادة التوترات حدة، وربما تكون تلك المكالمة الهاتفية التي أجراها مع الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر بعد أيام من انقلاب الأخير على العملية السياسية وعدوانه على طرابلس مقر الحكومة الشرعية نموذجاً صارخاً لسياسة ترامب الكارثية في المنطقة.

ففي أبريل/نيسان 2019، أجرى ترامب اتصالاً بحفتر تسبب في إثارة مزيد من الإرباك في المشهد، لأنه كان بمثابة دعم أمريكي لزعيم الحرب الانقلابي، على عكس موقف الخارجية الأمريكية ذاتها والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأشارت التقارير وقتها إلى أن سبب تلك المكالمة هو نصيحة من ولي عهد أبوظبي والرئيس المصري، حليفَي حفتر.

ويرى فرانتزمان أنه وإن كان ثمة صراعات مشتعلة بالفعل في المنطقة عندما تولى ترامب منصبه، فإن إعراض الإدارة الأمريكية وعدم اهتمامها في عهده فتحَ الطريق أمام تكثيف هذه الصراعات، وسمح بمشاركة جهاتٍ أجنبية عدة فيها: تركيا وروسيا ومصر في ليبيا؛ السعودية والإمارات وإيران في اليمن؛ تركيا وروسيا وإيران في سوريا.

فشل ترامب في ملف إيران

وعلى الرغم من أن إدارة ترامب اتخذت نهجاً صارماً فيما يتعلق بفرض العقوبات على إيران، فإن ذلك لم يمنع الأخيرة من استغلال الغياب الأمريكي لتصعيد هجماتها على سفن الشحن في الخليج، واستخدام  الطائرات المسيرة وصواريخ الكروز لشن الهجمات على منشآت البنية التحتية للنفط السعودي، ونقل الأموال والذخيرة لميليشيات تعمل عنها بالوكالة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بحسب الكاتب.

أما الآن، فيرى فرانتزمان أنه مع اقتراب تولي بايدن للسلطة، بدأ عديد من المتحاربين في تخفيف نبرتهم تحسباً لدور أمريكي أكثر فاعلية في المنطقة، أو حتى بالقصد إلى التصعيد، مثل حالة إيران التي عادت إلى تخصيب اليورانيوم والمناورات العسكرية المكثفة، أملاً في أن يدفع ذلك التصعيد الرئيسَ الأمريكي المنتخب إلى التنصل بسرعة من سياسات ترامب.

ويضيف الكاتب أن التوقعات بعودة بايدن إلى نهج ما قبل ترامب قد بدأت تتحقق، بالنسبة إلى بعض المراقبين، لا سيما مع اختيار الرئيس المنتخب لمسؤولين من ذوي الخبرة الكبيرة بشؤون الشرق الأوسط لتولي المناصب الوزارية الرئيسية: أنتوني بلينكن (المرشح لمنصب وزير الخارجية) ولويد أوستن (المرشح لوزارة الدفاع) وجيك سوليفان (المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي)، كما يستشهد الكاتب بالارتباط العميق لبايدن بشؤون المنطقة وطول أمد علاقته بها، علاوة على اتصاله الشخصي بعديد من الأطراف الرئيسية فيها.

ومن ثم، يخلص الكاتب إلى أن قادة المنطقة يميلون، على أقل تقدير، إلى التخفيف من حدة عدائهم المتبادل والانتظار لرؤية النهج الذي سيتبعه النظام الجديد للتعامل مع مخاوفهم وطموحاتهم.

ويختم فرانتزمان مقاله بالتشديد على أنه لم يقصد بمقاله القول إن الأعمال العدائية والصراعات في المنطقة ستنتهي مع أداء بايدن اليمين، لكن ينحو إلى أن تولي بايدن قد يضع حداً للانطباع الذي لا ينفك يسود بأن البلدان يمكنها استخدام أي وسيلة للحصول على ما تريد، والذي يذهب إلى أن السبب الأساسي في انتشاره هو غياب الولايات المتحدة عن قيادة النظام الدولي وتراجع حرصها على الالتزام بقواعده، فيما، على الجانب الآخر، يشكل إعلان بايدن الأخير بأن “أمريكا عادت” إيذاناً بعودة الشرق الأوسط إلى التنبه لدور الولايات المتحدة وقواعدها في المنطقة.
وكالات