السيادة الغذائية ضرورة وطنية
السياسية – مركز البحوث والمعلومات: خالد الحداء
خلال مراحل زمنية متعاقبة كان حديث الزعماء في دول العالم الثالث عن ضرورة العمل على استقلال القرار السياسي الوطني من التدخلات الخارجية، وفي سبيل تحقيق ذلك الاستقلال كانت الخطابات تضع مجموعة من الأولويات الواجب البدء في تنفيذها، ومن ضمنها ضرورة توفير الأمن الغذائي للشعوب للوصول إلى استقلال القرار الوطني في مختلف القضايا.
ولكن ذلك التناول من قبل الساسة لم يكن يعي أن استقلال القرار الوطني لن يتحقق من خلال الأمن الغذائي “رغم أهميته” والذي يهدف إلى توفير المواد الأساسية خلال فترة زمنية معينة قد تصل إلى ستة أشهر، فالاستقلال في قرارك كدولة بحاجة إلى أكثر من مجرد توفير الأغذية للسكان، فهو بحاجة إلى أن يكون ذلك الغذاء نتاج منظومة متكاملة تبدأ برؤية استراتيجية لدى الساسة وتنتهي بتطبيق تلك الرؤية لدى المزارع البسيط داخل الدولة.
ولنا في الأزمات الغذائية التي شهدها العالم والمنطقة خير دليل على عدم القدرة في التعامل مع ما يسمى “بالنظام الغذائي” الذي ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وعلى سبيل المثال كانت الشواهد على ذلك النظام تشير إلى مزيد من الإهمال للزراعة في المنطقة العربية مقابل مزيد من الواردات الغذائية الغربية ولا سيما الحبوب، ومع حلول حرب أكتوبر 1973 كان من الواضح أن عواقب ذلك المسار بدأت ملامحه في الظهور، خاصة مع اشتداد أزمة انخفاض مخزونات الحبوب وتقلص توافر المعونات الغذائية في المنطقة نتيجة ظهور أزمة في الغذاء على مستوى العالم، وأمام ذلك الواقع كان لدى دول المنطقة عدد من الخيارات للتعامل مع الأزمة، وكانت فكرة تطوير السودان كـ“سلة خبز” عربية الأبرز.
ولكن تلك المشاريع الطموحة لم تستمر طويلاً والسبب في ذلك كما يعتقد مجموعة من الخبراء، غياب الإرادة الحقيقة في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغداء “بشكل فردي أو جماعي في المنطقة العربية”، بالإضافة إلى انخفاض أسعار السلع في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وهو ما ساهم في المحصلة النهائية في الغاء أو ايقاف أي مشاريع عربية مشتركة، ومع مرور الوقت عادت الواردات من السلع الغذائية في الارتفاع وبشكل مضاعف عما كانت عليه في السابق نتيجة النمو السكاني من ناحية والقيود المفروضة على التوسع والإهمال الزراعي من الناحية الأخرى، ولم تغير الأزمة الغذائية التي شهدها العالم في 2008 التوجهات الحكومية في المنطقة العربية في البحث عن حلول محلية أو إقليمية تكون كفيلة بالخروج من الخضوع للإمبريالية العالمية، التي تسعى إلى مزيد من السيطرة على القرار السياسي في البلدان النامية من خلال التحكم في إنتاج وتجارة الغذاء (الحبوب بأنواعها) حول العالم.
وفي هذا السياق، يرى عدد من الخبراء أن تلك الأزمات في المنطقة والعالم ما هي إلا نتاج إشكالية في الخلط ما بين مفاهيم الأمن الغذائي والسيادة الغذائية، حيث أن لكل مفهوم تصوره الخاص والنابع في الأساس من مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي مختلف عن الآخر، فالمنظومة الغربية الرأسمالية “الليبرالية” على سبيل المثال تتبنى مفهوم الأمن الغذائي على اعتباره مشروع متكامل مرتبط باستراتيجيات متوسطة وطويلة المدى وموجه لصالح مجموعة محددة من الدول، وبالتالي فإن الإعلام الغربي ومنذ عقود يسعى إلى الترويج لهذا المفهوم لكونه مدخلاً لمزيد من التحكم في إنتاج الغداء وتجارته بهدف السيطرة على الدول النامية، فيما السيادة الغذائية تمثل مشروع زراعي إنساني بعيد عن كل محاولات التوظيف والهيمنة.
السيادة الغذائية الحل الأمثل:
تحت مبدأ التضامن ما بين الشعوب في الوقت الحالي يستمر تجاوز وعدم الاهتمام بالسيادة الغذائية، من خلال الترويج أن استيراد الغذاء يمثل حلاً مناسب لمشاكل الغذاء حول العالم، هذا التضامن وحسب العديد من الخبراء يحافظ على ما يسمى بـ”الأمن الغذائي” على المدى القريب للشعوب المستوردة (الدول النامية) ولكن على المدى الطويل فإن الفقر والجوع وفقدان السيادة هو المصير المحتم لتلك الدول، والمعروف أن الأمن الغذائي كمفهوم ظهر في عقد الستينيات من القرن العشرين من خلال تبنية من قبل الأنظمة الإمبريالية وانتقل تالياً إلى الدول النامية التي كانت مازالت حديثة الاستقلال أو مازالت خاضعة للاستعمار الغربي.
ولا غرابة أن تسعى الحكومات والمنظمات الغربية والمؤسسات الدولية “البنك والصندوق الدوليين وغيرهم” للترويج إلى ضرورة تحقيق الأمن الغذائي في العالم على اعتبار مسألة توفير الاحتياجات الغذائية لا تشترط ارتباطها بعملية الإنتاج المحلي، بمعنى أن الانتاج المحلي ليس من واجبات الدولة الضرورية وأنه بالإمكان التعويض في حالة النقص من خلال استيراد الغذاء ولا سيما الحبوب من الدول المصدرة (التي تملك فائضاً في إنتاجها) وفي مقدمتها روسيا الاتحادية وبقدرة إنتاجيه تبلغ 36 مليون طن سنوياً من القمح، والاتحاد الأوروبي ثانياً بقدرة تصديرية تبلغ 27 مليون طن، وتحل كندا ثالثاُ بحوالي 24 مليون طن، ورابعاً الولايات المتحدة بـ 23.5 مليون طن، وأوكرانيا في الترتيب الخامس بنحو 19 مليون طن سنوياً.
وفي مقابل الدول المنتجة للغذاء وبحسب التقارير الدولية فإن 9 دول عربية بلغ استيرادها نحو 40.2 مليون طن من القمح خلال العام 2019-2020، وهو ما يمثل 21.9% من واردات القمح العالمية، وتأتي مصر في مقدمة الدول العربية بحوالي 12.5 مليون طن سنوياً ومن ثم الجزائر بـ 7 مليون طن والمغرب بحوالي 4.8 مليون طن والعراق رابعاً بـ3.3 مليون طن، واليمن بحوالي 3.3 ومن ثم السعودية بحوالي 3.2، وفي المرتبة السابعة تأتي السودان بـ 2.7 مليون طن، والإمارات بنحو 1.8 مليون طن، وتونس تاسعاً بحوالي 1.6مليون طن سنوياً.
والملاحظ من خلال الأرقام السابقة أن الدول العربية التي كانت بمثابة سلال غذائية تاريخياً في المنطقة “مثل مصر والعراق” أصبحت اليوم من أكبر الدول استيراداً لحبوب القمح، وبفواتير سعرية مرتبطة بمستوى “العرض والطلب” في أسواق البورصة العالمية.
وأمام هكذا واقع كان لا بد من الخروج من هذه الدوامة من خلال تبني مفاهيم جديدة تتعامل عبر رؤية بديلة تقوم على حتمية الإنتاج المحلي للحبوب والأغذية الاستراتيجية، وهذا ما كان من خلال مفهوم “السيادة الغذائية” الذي ظهر في منتصف التسعينيات من القرن العشرين على يد مجموعة من الحركات الفلاحية الشعبية في عدد من الدول في أمريكا اللاتينية وشرق أسيا، وقد تكون الخصوصية في بعدها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي هي الدافع الرئيس وراء تبني مفهوم ينظر إلى أن من حق الشعوب في استعادة الأراضي الزراعية من تسلط الأنظمة السياسية المستبدة واحتكار الشركات الغذائية والزراعية وشركات البذور والكيماويات الزراعية الكبرى العابرة للقارات، بمعنى أن السيادة الغذائية “عبارة عن مفهوم تحرري شعبي مقاوم يهدف إلى تحقيق السيادة الحقيقية على الأرض وإنتاج الغذاء”.
والسيادة هنا ليست مجرد حالة عابرة ولكنها حالة رفض واعية ومحاولة جادة لوقف سياسات الاستعمار الزراعي كمرحلة أولى ومن ثم تفكيك منظومة الاتجار في الغذاء ومحاربة السياسات الغذائية القائمة، وذلك عبر صياغة جملة من المبادئ العامة تؤسس لمشروع زراعي يرتكز على مبدأ أولوية المزارع كفاعل أول في عملية الإنتاج، من خلال اشراك المزارعين في تحديد السياسات الزراعية في مختلف المراحل للوصول في المحصلة النهائية إلى توفير الغداء المناسب للشعوب بعيداً عن الاستغلال ومصادرة القرار السيادي داخل الدولة لصالح الدول الاستعمارية.
السيادة الغذائية وفيروس كورونا:
اعتبرت الأزمة الصحية التي هزت العالم خلال عام 2020 وانتشار فيروس كورنا المستجد (كوفيد-19)، خير شاهد على فشل اتفاقيات الشراكة الحرة التي تُعول على آلية استيراد الاحتياجات الغذائية عبر الأسواق الحرة والشركات متعددة الجنسيات، التي تعتمد على ما يسمى “سلاسل الإمدادات الغذائية الدولية، وتفاقمت الأزمة مع تكرار حالات الإغلاق التي شهدتها أغلب الدول المسيطرة على إنتاج وتصدير الغداء، ومع تزايد المخاوف حذرت منظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية من خطر “نقص الغذاء” على مستوى العالم في حال تفاقم الوضع الصحي وخروجه عن السيطرة.
وعلى الرغم من الانفراجه التي يعيشها العالم مع البدء في التلقيح ضد الفيروس، إلا أن جائحة كورونا فتحت الباب مجدداً أمام ضرورة الاعتراف بأهمية البدء في تحقيق السيادة الغذائية، كونها الحل الأمثل في تجاوز ما أفرزه نظام العولمة والقائم في الأساس على استنزاف الموارد الطبيعية وتهميش الزراعة المحلية للوصول إلى مصادرة القرار السيادي في العالم الثالث.
وفي هذا السياق تشير مريم الجعجع مدير المنظمة العربية لحماية الطبيعة إلى “إن السيادة الغذائية هي شرط مسبق لتحقيق الأمن الغذائي الحقيقي والمستدام وبأنه لا سيادة على القرار السياسي دون السيادة على الغذاء، وأن هذا الربط بين إنتاج الغذاء والاستقلال جرى استغلاله من قبل قوى امبريالية عبر عقود طويلة وكانت النتيجة تهميش المزيد من المزارعين وتدمير وسرقة الموارد الإنتاجية وإغراق الأسواق بالمنتجات”، وأضافت الجعجع خلال مشاركتها في ندوة تحت عنوان «السيادة الغذائية اليوم في ظل جائحة كورونا» “إن أزمة كورونا على صعوبتها إلا أنها قد تشكل فرصة للنهوض بالزراعة من خلال العمل على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، عبر تعزيز الإنتاج الغذائي المحلي والوصول إلى الموارد، والتشبيك والعمل مع المجتمع المدني في المنطقة العربية، ومحاولة بلورة ومتابعة توصيات تجسد أصوات صغار الفلاحين وتنقل حلولاً حقيقية فعالة”.
يبقى القول، أنه لا وطن دون سيادة ولا سيادة دون وطن وبالتالي فإن السيادة الغذائية بمفهومها الواسع لا تهدف فقط إلى ضمان حق الشعب في الحصول على الغداء المناسب، ولكنها تعني حق الشعب في إنتاج غذائه بنفسه، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال تحقيق السيادة الفعلية على الموارد الطبيعية “الأرض والمياه والثروات الأخرى”، بغية تحقيق منظومة غذائية وطنية متكاملة وما دون ذلك تعد سيادة هشة لا يمكنها في المحصلة النهائية من تحقيق الاستقلال الفعلي.