محمد هلسة*

تؤكّد شواهد المواجهة الدائرة على حدود فلسطين الشمالية أن حزب الله لا يتعافى فقط بل يستعيد زمام المبادرة والانضباط ويقود حرب استنزاف متدرّجة مدروسة، كان آخر شواهدها الحية الضربة القاسية التي وجّهتها مسيّراته الانقضاضية في معسكر لواء جولاني في منطقة بنيامينا في حيفا المحتلة، وأوقعت في صفوف "جيش" الاحتلال عدداً كبيراً من القتلى والجرحى فاق السبعين، على الأقل، وفق ما أعلن الجانب الصهيوني.

هذا التصعيد اللافت من جانب حزب الله يُنظر إليه في الجانب الصهيوني، وتحديداً من قبل بنيامين نتيناهو على أنه سلاح ذو حدّين، حدّ الإيذاء والاستنزاف وحدّ التوظيف؛ ففي حدّ الإيذاء والاستنزاف يجبي حزب الله من الجبهة الداخلية الصهيونية أثماناً باهظةً مؤلمة متصاعدة في مسارين؛ أولهما المُسيّرات والاستهدافات الصاروخية التي يزيد في توسيع مدياتها ونوعها وبالتالي النتائج المؤلمة التي تترتّب عليها إسرائيلياً، وأهمها فقدان المستوطنين الشعور بالأمن وتصدّع سردية فلسطين كملاذ آمن للمشروع الاستيطاني وساكنيه.

كما أنها تعزّز "تماثلية الألم" إن جاز التعبير، بمعنى أن الفلسطيني واللبناني ليسا وحدهما من ينزحان ويعانيان ويلات الحرب، بل بإمكان المقاومة أن تُجرّع الصهيوني من الكأس المُرّة ذاتها وأن توسّع دائرة المستوطنات المخلاة، وهو ما أكده حزب الله حين أعلن أن استمرار الحرب يعني أن تتحوّل حيفا إلى "كريات شمونة" من حيث الاستهداف والأثمان.

وثانيهما، استنزاف المواجهة البرية التي تُكلّف "جيش" الاحتلال الصهيوني أيضاً أثماناً باهظة في عديده وعتاده وعُدّته، وهو ما يُفسّر الإرجاف والتردّد الإسرائيليين في خطوات المناورة البرية فخطوة حذرة بطيئة إلى الأمام وعشر خطوات سريعة نازفة إلى الخلف.

يبدو جلياً أن المقاربة التي يتبنّاها حزب الله اليوم تقوم على مضاعفة الأثمان مع تصعيد المواجهة واستمرار المحافظة على "تدرّج عتبة بعتبة" في التصعيد بما يضمن له استمرار المحافظة على مخزونه الاستراتيجي من الأسلحة كماً ونوعاً، والتي كان من الممكن أن تنفد من جعبته لو أنه ذهب إلى رد انفعالي انتقامي على الهجوم الصهيوني في الساعات والأيام الأولى من التعصيد وتحديداً بعد اغتيال أمينه العام، إذ فهم حزب الله جيداً أن نتنياهو كان يسعى في إطار الاغتيالات والكثافة النارية الجوية التي صبّها على الضاحية الجنوبية لبيروت، إلى جرّ الحزب لحرق مراحل المعركة ومنعه من توريط "إسرائيل" في حرب استنزاف طويلة مؤلمة في مجرياتها ومآلاتها.

أما فيما يخص "حدَّ التوظيف" فإن نتنياهو، وإن لم يُعلن ذلك صراحة، كان يعلم في قرارة نفسه أن حزب الله لم ينكسر وبأنه ما زال، بعد عمليات البيجرز واللاسلكي والاغتيالات التي طالت قادته، قادراً على إلحاق الأذى الشديد بـ "إسرائيل". بل إن نتنياهو، الماكر، يؤمن بأنه سيحتاج إلى توظيف ضرب قاعدة جولاني في بنيامينا ومثيلاتها، لمنع حدوث تصدّعات في موقف الجبهة الداخلية الصهيونية من جدوى استمرارية الحرب، عبر الذهاب إلى الإعماء والإشغال بالنار لصرف أنظار الداخل الصهيوني عن الأثمان الكبيرة التي تتكبّدها جبهته، إذ سيقول للإسرائيليين الآن "إن حزب الله ما زال يتمتع بقدرات قتالية، حتى بعد ضربنا له، ولذلك علينا أن نستمر في القتال حتى نُلحق به الهزيمة"!، وهو ما عبّر عنه بالقول بأنه "أبلغ الولايات المتحدة أن ردّ إسرائيل على عملية المُسيّرات في حيفا سيكون قاسياً، وبأنه سيلاحق حزب الله حتى في بيروت".

ومن دون أدنى شك، سيذهب نتنياهو الآن لضرب العمق اللبناني وضرب بيروت، وعلى الأرجح ربما يتجاوز بيئة حزب الله إلى البُنية المدنية للكلّ اللبناني، وربما بُنية الدولة الرسمية ومؤسساتها المدنية وربما أيضاً أجهزتها الأمنية. وهو بذلك يقفز أيضاً عما قيل إنها رغبات وتمنيات أميركية على الإسرائيليين بأن لا يستهدفوا بيروت بشكل شامل حتى لا يخلق هذا الاستهداف أزمة للولايات المتحدة مع حلفائها في الداخل اللبناني، الذين هم خصوم حزب الله، وبالتالي إحراجهم، خاصة بأن حزب الله ما زال يستهدف مواقع أمنية وعسكرية لـ "الجيش" الصهيوني وينأى بنفسه، حتى اللحظة، عن استهداف البنية الاستيطانية "المدنية"، في حين أن "إسرائيل" تذهب، كما فعلت وتفعل في قطاع غزة ولبنان، إلى ضرب البنى المدنية التحتية والبشرية وارتكاب فظاعات ومجاز بحقّ المدنيين.

وبالعودة إلى الضربة المؤلمة التي وجّهها حزب الله لقاعدة جولاني العسكرية في بنيامينا، فإن نتنياهو، نظرياً على الأقل، أمام ثلاثة مسارات للتعاطي مع هذا التصعيد من جانب حزب الله:

المسار الأول: هو أن يؤدي هذا التصعيد في الاستنزاف الصهيوني، في مرحلة معيّنة، لا يبدو بأنها قريبة، إلى دفع نتيناهو إلى التراجع عن سردية "النصر المطلق" والدخول في مسار تسويات تمنع "إسرائيل" و"جيشها" من الغرق في وحل هذه المواجهة، وتحديداً البرية منها.

لكن، كما قلنا، لا يبدو أن هذا الخيار يلوح في الأفق القريب خاصة مع تجنّد الجبهة الداخلية الصهيونية مع نتيناهو وتنافس خصومه السياسيين في الدعوة إلى الاستمرار في الحرب وتوسيع المواجهة، زد على ذلك عجز المنابر والمنظومة الدولية، وعجز الإقليم العربي عن التأثير على الدعم الأميركي المطلق الذي يسمح لـ "إسرائيل" بإدامة إشعال نار الحرب.

والمسار الثاني الذي يبدو أيضاً أنه في حالة استعصاء على نتيناهو، لكنه يستمر بالتلويح به نظرياً، وهو الاستمرار في ضرب حزب الله لكسر قدراته. والواضح بأنه لم يعد لدى نتيناهو الكثير من الأهداف ليضربها لدى حزب الله، لا على مستوى القيادة البشرية ولا على مستوى قدراته القتالية التسليحية، خاصة بأنه وصل لذروة هذه الاستهدافات مع الساعات الأولى أو الأيام الأولى من المواجهة والتصعيد، وقدّمها للداخل الصهيوني على أنها ذروة الإنجاز. وبالتالي يبدو وكأنّ بنك الأهداف الصهيوني لدى حزب الله يكاد ينفد، ما يجعل يد نتنياهو مغلولة وخياراته محدودة، خاصة في إطار المواجهة البرية التي لا يرغب بالغرق في وحلها الكارثي عليه وعلى مجتمعه.

أما المسار الثالث والأخير الذي يبدو بأنه الأكثر ترجيحاً وجدوى بالنسبة لنتنياهو، والذي لطالما لجأ إليه وأتقنه حين استحكمت حلقات الاحتجاج والغضب الصهيوني حوله، وهو استمرار مجازر الإبادة والتدمير الممنهج وحرق الأخضر واليابس في مسعى لكسر الخصم عبر القوة التدميرية وتصدير صورة أن "إسرائيل" قادرة على إيذاء خصومها أينما كانوا ومنعهم من تهديدها. لذا فإننا سنشهد مزيداً من انفلات ماكينة القتل الصهيونية في لبنان عبر القوة النارية الجوية في مسعى للضغط أكثر على حزب الله وعلى الدولة اللبنانية ككل، في محاولة لانتزاع مواقف سياسية تتوافق ورغباته الجامحة.

لكن ما غاب عن نتنياهو أن انفلات القوة العمياء الهوجاء لن يجلب له ولمستوطنية سوى مزيد من الاستنزاف، إذ على الأرجح، سيذهب حزب الله في حال تصاعدت جرائم الاحتلال وتوسّعت في لبنان، إلى كسر وتجاوز سقف الأثمان الذي يجبيه من الجبهة الداخلية الإسرائيلية، عندها فقط سنسمع "صراخها" كما قال نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، ولعل ضجيج صراخ الجبهة الداخلية الصهيونية يسقط بنيامين نتنياهو عن شجرة غروره العالية ويخرجه من المعضلة التي أدخلته إليها ضربة بنيامينا..!

* المصدر :الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب