عامٌ من أوهام جهود السلام وواقعية الوحشية الإجرامية
الدكتور عبد الرحمن المختار*
عامٌ انقضى ليس ككل الأعوام، صمتت فيه كُـلُّ أفواه النفاق، وفُتحت فيه فوهاتُ النار، تحصُدُ كُـلَّ يانِعٍ ويافِعٍ وغَضٍّ دونما تمييز.
سقطت فيه كُـلُّ أقنعة القِيَمِ المستعارة، وانكشف فيه القُبْحُ، وبرز للواجهة حاملوه بهمجيةٍ ووحشيةٍ لا عهدَ للبشرية بمثلها، بل لم يُؤْثَرْ مثلُها عن وحشية الغاب، أتحدَّثُ عن قوى الغرب المتمدِّن زيفًا ونفاقًا وتضليلًا، تلك القوى الموغلة في السقوط والانحطاط، المتحللة من أدنى القيم الإنسانية، تلك القوى التي لطالما روجت خلال عقود من الزمن لرعاية وحماية ومناصرة حقوق الإنسان، تلك القوى التي أسقطت حُكَّامًا وأنظمةً ودمّـرت شعوبًا ودولًا؛ بذريعة انتهاكِها لحقوق الإنسان، تلك القوى التي تدخَّلت في شؤون الدول وتحكَّمت بمصائر الشعوب؛ بذريعة الدفاعِ عن حقوق الإنسان، تلك القوى التي تكلَّفت وتصنَّعت كَثيرًا لفرض مبادئ الغرب عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في المناهج الدراسية من الصفوف الأولى إلى الدراسات الجامعة في معظم دول العالم، تم تدريسها لأجيال وأجيال لتصبح القوى الاستعمارية الغربية قدوتها في القيم الإنسانية، هذه القوى التي صدَّعت الرؤوَس بخداعها وزيفها وتضليلِها عن حقوق الإنسان ومبادئ ديمقراطيتها المزعومة، التي لم تدخر وسعًا في الترويج لها ولما تتضمنه من حلول سحرية سلمية لمشاكل الدول داخلية وخارجية.
ورغم أن هذه القوى الاستعمارية اقترفت خلال العقود الماضية مئات الجرائم بحق الإنسانية، موزعة على عموم الخارطة الجغرافية للشعوب المستضعفة، إلا أن ماكينتها الإعلامية التضليلية كانت أقوى في الإقناع بأن الضحية مذنب ومنتهِكٌ لحقوقه الإنسانية؛ ولذلك استحق العقاب! وقد تدخلت هذه القوى الإجرامية في شؤون الدول والشعوب؛ بذريعة حماية حقوق الإنسان بصور وأشكال ومظاهر متعددة؛ فحقوق الطفولة كانت ذريعةً للتدخل، وحقوق المرأة كذلك كانت ذريعة للتدخل وحقوق الأقليات كانت ذريعة للتدخل، والحق في بيئة نظيفة كانت ذريعة للتدخل، وحق المشاركة السياسية وتولي الوظائف العالمة كانت ذريعةً للتدخل، والحق في الصحة والتعليم، والسباحة والسياحة، وغيرها كانت ذريعة للتدخل، والقائمة تطول، إلا أن الغاية من التدخل في كُـلّ الأحوال كانت واحدة، وهي السيطرة على مقدرات الشعوب ونهب ثرواتها، وحرمان أصحابها منها وتركهم في حالة فقر وعوز ينتظرون ما تجود به عليهم من ثرواتهم منظماتها الاستخبارية ذات العناوين الإنسانية.
وكم من صراعات أشعلتها هذه القوى بين أبناء الشعوب التي تدخلت في شؤونها؛ بذريعة حقوق الإنسان، فأصبحت في حالة صراع دائم بعد أن كانت هادئة مستقرة، فضربت الجميع بالجميع حتى أرهقهم الصراع دون أن يدركوا له سبَبًا واضحًا ومحدّدًا، وتلك القوى الاستعمارية تصدح وتتغنى بصوت الإنسانية على أشلاء أبناء الشعوب المخدوعة بوهم قيم الغرب الديمقراطية السلمية، التي لم تلمس منها الشعوب إلَّا الموت والدمار، ومنذ عام مضى وانقضى لم يعد يُسمَعُ فيه للقوى الاستعمارية الغربية صوتٌ عن الإنسانية وحقوق الإنسان، هذه القوى التي كانت تجلب الفتات تحت مسمى المساعدات لتخدر الشعوب التي أشعلت فيها الصراعات البينية عِرقيةً وإثنية، أما خلال العام الذي مضى وانقضى فقد استبدلت القوى الاستعمارية الغربية ذلك الفتات من المساعدات الإنسانية بشحنات الموت والدمار، فحين كانت تكلفة إطعام الفرد الواحد من الجوعى وإيوائه وكسائه لا تكلِّفُ إلَّا سنتاتٍ معدوداتٍ؛ فتكلفةُ قتلهم كلفت مليارات الدولارات، وهذه القوى تسابق الزمن في الوفاء بحق الإنسان في الموت وإن كلفها ذلك الكثير، فهي اليوم تعمل وَفْقًا لقيمها الإجرامية دون أقنعة أَو رتوش، والجميع ناله نصيبه من إجرام هذه القوى سواءٌ أكان شيخًا عاجزًا أَو طفلًا رضيعًا، لا فرقَ بين ذكور وإناث، فقد أوفت لكل إنسان حَقَّـــهُ في الموت بشكل متساوٍ ودونما تمييز، ولم تستثنِ حتى الخُدَّجَ في حاضناتهم، بل ومن لا يزالون أجنَّةً في أرحام أُمهاتهم في أشهرهم الأولى.
إنها القوى الاستعماريةُ الغربية التي انكشف زيفُها وخداعُها وتضليلُها، وسقطت في غزةَ والضفةِ والضاحيةِ كُـلُّ أقنعتها، لتتضحَ للجميع حقيقتُها بجرائمها غير المسبوقة بحق الإنسان والإنسانية، فعلى مدى عام كامل اقترفت أفعالَ إبادة جماعية مُستمرّة ومتتابعة ومتنقلة، ودمارًا شاملًا لكل مقومات الحياة الإنسانية، إنها القوى الاستعمارية الغربية التي كانت منظماتها الاستخبارية تحرص أشد الحرص على توفير وإيصال احتياجات الأسر من المحارم الورقية وحفاظات الأطفال والمستلزمات النسائية إلى المنازل، بعناوينَ إنسانية زائفة، واليوم دمّـرت آبار المياه وشبكات الصرف الصحي، وأرسلت للأطفال والنساء القنابلَ والصواريخَ التي مزّقتهم إلى أشلاء، إنها القوى الاستعمارية الغربية المنسلخة من كُـلّ القيم الإنسانية، هي اليوم في أوضح صورة لحقيقتها الشيطانية، لم يعد بوسعها بعد انكشافها ارتداءُ قِناع الإنسانية، الذي شنت من خلاله لعقود من الزمن على الشعوب حروبَها الناعمة، لا خيارَ أمامها اليوم إلا المواجهة بوجهها القبيح الذي حرصت سابقًا على إخفائه بأقنعة زائفة.
ومع أن أفعال جرائم الإبادة الجماعية والدمار الشامل قد كشفت عن الوجه الحقيقي البشع للقوى الاستعمارية الغربية، إلا أن أنظمةً عربيةً لا تزال مُصِرَّةً على تغطية كُـلّ ذلك القبح، هذه الأنظمة -ومن خلال وسائلها الإعلامية- لا تزال تروج لمساعٍ زائفة، وأدوار وهمية تبذلها القوى الاستعمارية الغربية لما تسميه وقف إطلاق النار، وُصُـولًا إلى وقف الحرب في غزة، آخرها ما تناقلته وسائل الإعلام عن سفاح البيت الأبيض بايدن، ونائبته الشمطاء هاريس دون حياء تصميمهما (العمل على وقف الحرب في غزة وإطلاق سراحِ الرهائن) هذا الترويج الذي لم يتوقف منذ عام وزيارات وزراء خارجية القوى الاستعمارية لم تتوقف كذلك، بل إن زيارات بعضهم تجاوزت عدد أشهر العام، ولا نتيجة سوى المزيد من الأشلاء والدماء والدمار، وكأن الجهود المزعومة للقوى الاستعمارية الغربية، إنما تصُبُّ في مجال استمرار الجريمة وتسعير نارها، والاستمرار في تضليل الشعوب العربية، وترويضها على مناظر الأفعال اليومية لجريمة الإبادة الجماعية، لتعتاد تلك المناظر وتتقبلها بوصفها أصبحت روتينًا عاديًّا يوميًّا لا يؤثر عليها بحال من الأحوال.
ومع أن القوى الاستعمارية الغربية مُستمرّة في توسيعِ أفعالها الإجرامية لتشمل مساحة واسعة من جغرافية الشعوب العربية وهي تعلن بكل وضوح وبجاحة ووقاحة عزمها تغيير وجه المنطقة، تحت مسمى (مشروع الشرق الأوسط الجديد)، وقد فشلت محاولاتُها السابقةُ في فرض هذا الواقع الذي خططت له؛ بفعل المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان وبإسناد من بقية جبهات محور المقاومة، إلا أن الأنظمة العربية الوظيفية تعمل وبوتيرة عالية على تضليل شعوب الأُمَّــة العربية، وصرفها عن جرائم القوى الاستعمارية الغربية التي يتسع نطاقها يومًا بعد يوم، ليشملَ مساحاتٍ أوسعَ من الجغرافيا العربية، بل تجاوزها إلى الجوار الإسلامي المساند لمظلومية الشعب العربي الفلسطيني، ولم يقف الدور الوظيفي للأنظمة العربية عند مُجَـرّد تضليل الشعوب العربية وصرفها عن جرائم القوى الاستعمارية الغربية، بل تجاوز ذلك إلى ما هو أخطرُ، حين أعلنت هذه الأنظمة وبشكل متزامن مع التهديدات التي تتعرض لها الجمهورية الإسلاميّةُ في إيرانَ، عن إجراء مناورات عسكرية (درع السند) تستخدم فيها أحدث الطائرات والمعدات العسكرية، في دولة الباكستان بالقرب من الحدود الإيرانية، وجميع الدول المشاركة في هذه المناورة، وفي هذا التوقيت بالذات إنما تخدم القوى الاستعمارية الغربية، التي اقترفت على مدى عام كامل إبادة جماعية بحق أبناء الأُمَّــة العربية، امتدت من قطاع غزة إلى الضفة الغربية والضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، ولم يكن للأنظمة العربية الوظيفية موقف إدانة لتلك الجرائم، بل إن مواقفها المعلَنة وغير المعلَنة مساندةٌ للقوى الإجرامية، وها هي تساندُها اليومَ في ترهيب الجمهورية الإسلامية وإيصال رسالة إليها مفادُها أنها ستكون في المرحلة المقبلة في مواجهة حربٍ إقليمية إذَا ما استمرَّت في إسنادِ المقاومةِ الإسلاميةِ في فلسطين ولبنان!
* المصدر : المسيرة نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه