نصر الله يا ابن محمد!
بقلم: أحمد مجذوب البشير*
كأنما أراد الله لك يا ابن محمد (ص).. كأنما أراد أن يكون عروجك مدويا صارخا كما كان وجودك باذخا مشرقا.. لم تكتف بالانتماء نسبا للدوحة المحمدية.. لكنك كنت محمديا في حركاتك وفي سكناتك.. في نومك وصحوك.. في تفاصيل حياتك.. وفي عبادتك.. في صلاتك وعند حجك..
استقبلت القبلة لا تلوي على شئ ولا تروم سوى تحقيق مصاديق توحيد الوجهة والإلتجاء للواحد القهار وحده.. الذي هو فوق كل قاهر.. والجبار فوق كل متجبر.. والسند لكل مستضعف، النصير لكل صاحب حق مهضوم ومغتصب..
جسدت هذه المعاني طوال عهدك المحتشد بالأحداث الجسام.. مثلت للأمة بؤرة للوعي ومنصة للإرشاد.. لتدرك اين تصوب سهامها ومن هو عدوها الحقيقي الظاهر والمستتر.. فأعدت للقضية الفلسطينية زخمها وألقها ومركزيتها وصدارتها على كل قضية اخرى.. بعد أن كادت ان تبتلعها إتفاقيات الخنوع والاستسلام في كامب ديفيد واوسلو.. وصيرت السبيل والهرولة نحو التطبيع مع الكيان المغتصب عسيرا على الازدراد والهضم والمجاهرة.. وجعلت غالبه يتم في جنح الليل وداخل الغرف المظلمة.. يخجل بعض المطبعين عن الإفصاح والجهر به..
كنت ياسيد المقاومة المصباح الذي ينير أماكن العتمة التي يدار داخلها التأمر على قضايا الامة.. كنت صوت الحق الابلج فيها.. الذي يخرس نعيق الباطل اللجلج.. كنت محركا للأحداث صانعا لها .. يحبس العالم كله انفاسه عندما تطل من شاشة التلفزة.. بطلتك الوقورة ولغتك الواثقة المعبرة.. لتحلل أحداثا او تعلن عن موقف.. أو تأتي بجديد.. يترقبك المراقبون والمحللون والساسة صناع القرار .. ليقرأوا ثيرمتر الأحداث وبوصلتها الى أين تتجه.. وانت تفعل كل ذلك.. لم يألوا المتربصين جهدا وهم يضعون في طريقك العقبات والمتاريس والعراقيل.. وتزرع الألغام التي تعطل المسير والانطلاق.. فتثار فتنة في الداخل اللبناني هنا.. وفتنة للتوريط في المحيط الجغرافي هناك.. واحيانا خطابا مناطقيا مسموما.. واخر طائفيا مذموما..
اضف لكل ذلك التحديات الضخمة على الصعيد السياسي والعسكري مع عدو شرس يتمتع بكل الدعم من الحليف القريب والبعيد.. في مقابل مؤامرات ودسائس لا تكتفي بالقتل المعنوي بل تصل لمرحلة الاغتيال المباشر. وفي ظل كل هذه الأجواء كان عقلك راجحا وصبرك حليما وارادتك صلبة.. تدري متى تناور وكيف ترد الصاع.. وكيف تفاوض.. ولمن تصفح وتعفو.... ووفق هذا النهج بنيت تحالفاتك ونسجتها.. بدرجه ادهشت واثارت استغراب المراقبين.. وأدركت من هم خصومك واعدائك الحقيقيين ومن هم المغرر بهم الذين لا يدركون ولا يدرون انهم لا يدركون..
لقد ابانت هذه التحديات عن مقدرات متعددة وقدرات مبهرة لسيد شهداء المقاومة.. فهو جماع اشتات انصهرت فيه.. لا تستطيع تصنيفه أو حصره في مجال دون آخر.. فهو ليس برجل دين يعتمر العمامة ويصعد المنابر للوعظ والارشاد.. ولا بسياسي برغماتي يتلاعب بالألفاظ وبالمواقف.. ولا هو بالأكاديمي الذي يطرح القضايا من خلال النظريات الاكاديمية الباردة المجانبة للواقع.. ولا هو بعالم الاجتماع والتاريخ الذي يحلل الظواهر من هذه الزاوية او تلك، من غير نظرة شاملة وكلية للأحداث وسياقاتها.. كان السيد الشهيد كل هذا وأكثر.. وتراني استشهد بما قاله عنه في بيان نعيه اليوم الدكتور ايمن نور رئيس حزب الغد المصري بأنه (كان رجل دولة من طراز رفيع ينسج القضايا ويطرحها في قالب جاذب وموضوعي.. وذو كاريزما طاغية)..
هكذا كنت يا سيد شهداء المقاومة.. كنت رجل الموقف.. ورجل الفكرة.. ورجل المبدأ.. ومن يجعل هذه القيم ديدنه في الحياة واكسيرها وسر وجودها.. طبيعي ان يصطفى وينال الدرجات العليا مع محمد وآله والصادقين من امته الذين سبقوا ولم يغيروا ولابدلوا تبديلا.. وان العين لتدمع والقلب ليفجع وانا على فراقك لمحزونون.. وما نقول الا ما يرضي الله.. فإنا لله وانا اليه وَراجعون.. وسلام على سيد شهداء المقاومة في المقام الذي اختاره له.. من انعم عليه بالوجود ووفقه وسدده للسير في خط الرسالة التي نذر لها نفسه وبذل في سبيلها روحه ودمه حتى اتاه اليقين..
ويبقى التحدي امام محور المقاومة هو كيفية تجاوز هذا المنعطف.. واستيعاب الصدمة ومن ثم تجاوزها.. والعمل على استعادة فاعليته وسد ثغراته والاستفادة واخذ الدروس مما حدث.. والتمسك بمفهوم وحدة الساحات.. الذي من أجله نال السيد نصرالله الشهادة.. وهو مفهوم يستعاد الان الى ساحة الصراع مع العدو... حيث انه مصطلحا قديما.. كان معروفا وممارسا في خمسينات القرن الماضي وفي ذروة الصراع العربي الإسرائيلي.. ذلك الأوان الذي لم تكن فيه القضية الفلسطينية قضية تخص الفلسطيني فقط والبقية اما وسطاء او متفرجون او مساندون للاحتلال..
انما كانت قضية امة بكاملها.. أمة تريد أن تستأصل كيانا غريبا زرع في قلبها.. ولهذا في ذلك الحين كل الحروب التي اندلعت في تلك الحقبة كانت كل جيوش ما يسمى بدول الطوق او طوق الطوق.. كانت تشارك بوحدات عسكرية في هذه الحروب.. وكانت لمصر عبد الناصر القيادة والريادة في ذلك..
الان نفس المفهوم يعاد الى ساحة الفعل المقاوم.. بصورة جديدة بقيادة جديدة.. بعد أن تبدلت مواقف بعض الدول العربية من مرحلة الاستئصال والنزاع الى مرحلة التطبيع او الحياد في حده الأدني.. وبذلك اصبحت هي جزءا من المشروع الصهيوني في المنطقة.. وتبدلت القيادة من مصر قديما لإيران حديثا.. والتحدي الان هو الحفاظ على جذوة روح محور المقاومة ومتقده في جميع الساحات وعلى كافة الاصعدة.. ولقد علمتنا التجارب ان استشهاد القادة بهذه الكيفية ما هو الا بشارة خير وقوة دفع للاقدام والمثابرة.. لا عامل تراجع ونكوص وتقهقر وانهزام..
* المقال تم نقله من موقع قناة العالم ويعبر عن وجهة نظر كاتبه