عبدالرحمن مراد*

تستند دولة الاحتلال الصهيوني على القوة في الوجود في المنطقة، ولذلك فهي أكثر حرصاً على هذا المعيار؛ لأَنَّه لو تصدع في الوجدان العام لتداعى جدران الوهم الإسرائيلي وسقطت دولة الاحتلال عند أول احتكاك لها مع فصائل المقاومة، ولذلك نراها تسارع في الرد على كُـلّ استهداف يمس مبدأ القوة سواء حدث ذلك الاستهداف من جبهات الإسناد في محور المقاومة أَو من فصائل المقاومة الفلسطينية نفسها، وهي من خلال موجة الاغتيالات التي تقوم بها اليوم لقادة المقاومة تؤكّـد حرصها على الصورة النمطية التي في المتخيل العام والقائمة على أن “إسرائيل” دولة لا تقهر وهي تملك من القوة ما يجعلها قادرة على الصمود وقهر من يستهدفها، وقد رأينا بعد استهداف خزانات النفط بالحديدة خطابهم الذي كان يركز على مفردة القوة وكيف استطاعت الطائرات الإسرائيلية أن تجعل ألسنة اللهب تتعالى حتى يمكن رؤيتها من يافا أَو تل أبيب، وحين اغتالت الشهيد البطل فؤاد شكر كانت تتباهى بقدرتها على السيطرة على الوضع الأمني، وحين اغتالت الشهيد إسماعيل هنية في إيران فقد أرادت أن ترسل رموزها للعالم أن يدها طويلة وقادرة على النيل من خصومها في عقر دارهم أَو في أي مكان، وقد أرادت أن تحقّق هدفاً مزدوجاً من اغتيال هنية في إيران وهو تأكيد قوتها وتفكيك محور المقاومة بحيث تظهر طهران غير قادرة على حماية حلفائها في طهران، فضلاً عن قدرتها في تحقيق الحماية والإسناد في الجبهات، والرسالة كانت مشبعة بالرموز والإشارات لجبهات الإسناد والمقاومة وقد بدأ الاشتغال على ذلك في الخطاب الإعلامي والسياسي والشعبي في شبكات التواصل الاجتماعي، كُـلّ الاشتغال الإسرائيلي اليوم يصب في بوتقة الحفاظ على القوة كمعيار وحيد للوجود وفي كسب ثقة الرأي العام العالمي الذي تصدع في حرب غزة ورفح؛ بسَببِ التوحش الذي مارسته الآلة العسكرية الإسرائيلية.

بدأت خطة استعادة السيطرة على زمام الأمور من خطاب نتنياهو في الكونجرس الأمريكي، الذي تم إخراجه بالطريقة التي لفتت أنظار الناس إليه من خلال الوقوف والتصفيق المتكرّر إلى درجة إحصاء تلك الحركات لتقول للعالم أنها تواجه قوى شريرة وغير متحضرة تهدّد الحضارة الإنسانية المعاصرة ويقترض بكل القوى أن تقف إلى جانبها؛ لأَنَّها تحارب بالنيابة عن الإنسان المتحضر من قوى تستهدفه -حسب زعمها- واستطاعت أن تهدم الصورة المتوحشة للحرب في غزة وجرها إلى مسار آخر وهو زرع الخوف والقلق والتوجس، وحتى تثبت توجّـهها هذا ذهبت إلى حركة الاغتيالات لرموز المقاومة بدءاً من فؤاد شكر ولن نقول انتهاء بهنية فالقائمة ربما تطول وقد نشهد في قابل الأيّام الكثير من ذلك حتى تثبت للعالم والرأي العام العالمي أنها تحارب رموز الشر.

حمل خطاب نتنياهو الكثير من الإشارات والتوجّـهات وقد سبق لنا القول إنه صيغ بعناية وأشرف عليه خبراء وعلماء في العلوم والمعارف المختلفة وقيل –وفق التداولات الإعلامية– إن الخطاب عدل عشرات المرات، ولذلك ينبغي قراءة سياق المرحلة من مضامين هذا الخطاب، فـ “إسرائيل” لا تحارب العرب والمسلمين بمنطق العلميات العسكرية ولكن تحارب بقوة المعرفة، والمعرفة سلاح غائب لا تستخدمه المقاومة الفلسطينية ولا جبهات الإسناد لمحور المقاومة إلا في حالات نادرة لا نظن إلا أنها توافق عفوي مع المعرفة وهذا أمر يفترض العناية به، فالعدوّ الإسرائيلي وفق الكثير من النصوص القرآنية ووفق السياق التاريخي العام لا يقاتل في الجبهات بقدر حرصه على خوض معاركه الوجودية من خلف جدر أَو من بروج مشيدة، وهو ما يقوم به اليوم لكن وفق منطق العصر وتطورات التقنية الحديثة التي وصلت إليها الحضارة الإنسانية المعاصرة.

أمين عام حزب الله في لبنان كان مدركاً للأبعاد تلك -وفق مضمون خطابه الأخير- ولذلك لم يخض حرباً مباشرة منذ انطلاق (طوفان الأقصى) في أُكتوبر الماضي واقتصر على التعامل مع المعركة بحذر شديد حتى خلقت له “إسرائيل” مبرّراً أخلاقياً، فالتعقيدات في المجتمع اللبناني تفرض قيوداً على الحزب، وقد سارعت بعض القوى إلى إعلان مواقف إيجابية جعلت أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله يقول مطمئنا: إن مسار المعركة قد تغير من الإسناد إلى الحرب الشاملة، وقد أعلن ذلك في خطابه الأخير في تشييع قائده الميداني الشهيد فؤاد شكر، وهذا الإعلان أربك حسابات الكيان الصهيوني وربما حشره في زاوية ضيقة، وقد تظافر الإعلان مع تأكيد إيران على الرد القاسي على اغتيال هنية في أرضها مما جعل الصحف الأمريكية تخرج بمعلومات مربكة، حَيثُ قالت إن هنية استشهد بعبوة ناسفة كانت مزروعة منذ شهرين في المكان، وهو تعليل خارج منطق الأشياء لكنه في مضمونه يتهم الجهاز الأمني الإيراني بالتقصير، وفي السياق ذاته يعزز من مبدأ القوة عند العدوّ في التصور الذهني للرأي العام العالمي، ويترك مساحات لأعداء محور المقاومة من العرب والمسلمين في تفكيك مبدأ الثقة وزرع الشكوك، فالتفكيك من ضرورات المعركة عند العدوّ وهو يشتغل عليه وفق منهج علمي ومعرفي حديث يعتمد النظريات في علم النفس الاجتماعي والسياسي.

نحن اليوم في مسار مختلف وهذا المسار لا يعني الثبات، بل يعني تغيير الأدوات والأساليب إن أردنا انتصاراً على عدو غير شريف ومتوحش ويحاربنا في مستويات متعددة.

* المصدر : موقع أنصار الله
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه