"انظروا إلى تل أبيب إنها تحترق". هل اقتربت؟
السيد شبل*
لا أحد يريد الحرب في المنطقة، وجميع أطراف محور المقاومة، رغم تشبّثها المبدئي بالموقف الرافض لوجود "إسرائيل"، فإنها تربط مواصلة عملياتها بالعدوان الصهيوني المستمر على قطاع غزة، سواء أكانت تلك العمليات موجّهة ضد الأراضي المحتلة أو تستهدف المصالح الاقتصادية والعسكرية لواشنطن و"تل أبيب".
ولطالما أعلنت قيادات المقاومة أن الصواريخ والطائرات المسيّرة والعمليات العسكرية ستتوقّف في اللحظة التي يعلن فيها بنيامين نتنياهو انتهاء مغامرته العسكرية داخل غزة، والعودة إلى الأوضاع ما قبل تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والامتناع عن تنفيذ أيّ عمليات تستهدف عرقلة عودة الحياة إلى طبيعتها داخل القطاع.
وعليه، فإن نزع فتيل الأزمة المتصاعدة في منطقة الشرق الأوسط مُعلّقٌ في عُنق حكومة الاحتلال، ولا يحقّ للعالم أن يلوم أيّ طرف سوى أعضاء تلك الحكومة. هذا إن كانت عواصم "العالم المتحضّر" تبحث بالفعل عن السلام وعن تسوية جادة للمأزق الحاصل الآن، والذي يتحدّث عنه الجميع بشغف في وسائل الإعلام، بينما لا يبحث أحد عن حلّ لتجاوزه.
في المقابل لا يتوقّف قادة الاحتلال عن إعلان نواياهم بخصوص توسيع الحرب في لبنان، لكنهم ربما يتناسون أنهم على وشك مواجهة خصم مسلّح بشكل كبير ومختلف تماماً عن الفصائل المسلحة داخل قطاع غزة، والتي عجز "الجيش" الصهيوني عن الانتصار عليها حتى الآن.
فحزب الله، باعتباره دُرّة تاج محور المقاومة على الصعيد العربي، يملك العدد الأكبر من المقاتلين، بالإضافة إلى ترسانة ضخمة من الصواريخ والطائرات من دون طيار، والتي يمكن لها أن تطغى على دفاعات القبة الحديدية الصهيونية، وقد اختبر المستوطنون في المناطق الشمالية هذا الأمر بالفعل لشهور عديدة.
الإشكال الأكبر اليوم هو أن "إسرائيل" مُصرّة على التصرّف بحُمق وبلاهة، ولا صوت يعلو فوق أصوات اليمين المتطرف هناك، ونتنياهو متشبّث بالتحالف مع بن غفير وسموتريتش، حتى لا تنهار حكومته وتخيب تجربته السياسية، فيتمّ وصمه بالفشل!
هذا التعنّت الصهيوني سيؤدي حتماً إلى كارثة في المنطقة، لكنّ القسط الأكبر من تلك الكارثة سيكون من نصيب "إسرائيل"، التي ستبتلع النيران "عاصمتها".
الدعم الأميركي اللا محدود
مهما حاولت "تل أبيب" التقليل من حجم اعتمادها على واشنطن، فإن قادتها يدركون أن بقاء كيانهم ذاته متوقّف على الدعم الغربي عموماً والأميركي بشكلٍ خاص، وأنه من دون الأسلحة الأميركية والحماية الدبلوماسية التي يقدّمها البيت الأبيض فإنه لا يمكن أن تصمد "إسرائيل" في وجه المقاومة ساعةً أخرى.
تقول إدارة جو بايدن إنها تسعى إلى تجنّب حدوث حرب بين "إسرائيل" وحزب الله، وقد خصّصت الموارد الدبلوماسية لمنع اندلاعها، لكن المشكلة أنّ أيّ جهد تبذله واشنطن لن يفلح في كبح جماح المتطرّفين الذين يقودون "إسرائيل" اليوم، لسببين:
الأول، أن "تل أبيب" تدرك أنها صاحبة القرار، وأنه لا يمكن لأيّ طرف خارجي إرغامها على اتخاذ قرار يخالف ما استقرّ أمر إدارتها عليه. والثاني، أنها مطمئنة للدعم الأميركي، وأنها في أحلك الظروف، ستحظى بدعم عسكري وسياسي من قِبل البيت الأبيض، الذي لا يمكن أن يسمح لها بالهزيمة أمام خصومها.
فوفقاً للتقارير الإخبارية التي تناولت لقاء كبار مسؤولي الأمن القومي من الولايات المتحدة و"إسرائيل" في أواخر حزيران/يونيو، "فإن المسؤولين الأميركيين أوضحوا أن واشنطن ستقدّم لـ "إسرائيل" المساعدة الأمنية التي تحتاجها، على الرغم من أن الولايات المتحدة قد لا تنشر قوات على الأرض عند حصول هذا السيناريو".
من يشاهد المناظرة الانتخابية بين المتنافسَين على رئاسة الولايات المتحدة، بايدن وترامب، لا بدّ أن يستوقفه حجم الرعاية التي تحظى بها "إسرائيل" من قِبل الإدارة الأميركية، فعندما يعرج الحديث إلى الصراع العربي الصهيوني أو الحرب في غزة، يتبارى السياسيّان المُسنّان في المزايدة على بعضهما في مجال دعم "تل أبيب".
دونالد ترامب، على سبيل المثال، لم يجد حرجاً في أن يتهم بايدن بأنه يتصرّف "مثل فلسطيني"، لأنه برأيه لم يقف في وجه طهران ودعمها لحركات المقاومة بالشكل الكافي منذ تولّيه منصبه، في المقابل بايدن، الذي يعاني آثار الشيخوخة ويتلعثم في معظم كلماته، ركّز دفاعه على "أن إدارته تقدّم لإسرائيل كل ما تحتاجه، وأن حماس هي التي ترفض إنهاء الحرب، وأنه حشد العالم في مواجهة إيران"!
لذا، فإن نتنياهو مهما علا صوته واشتدّ غضبه أثناء حديثه عن الدعم الأميركي، فإنه مطمئن إلى تدخّل الولايات المتحدة في حال تصاعدت عمليات تبادل إطلاق النار المستمرة عبر الحدود اللبنانية وتكبّد "الإسرائيليون" خسائر بشرية كبيرة.
وبالفعل، هناك تقرير يشير إلى أن الحظر الذي فرضته إدارة بايدن على تسليم القنابل التي يبلغ وزنها ألفين رطل إلى "إسرائيل"، والذي أثار شكاوى صاخبة من القيادات الصهيونية، على وشك الرفع. ومن المحتمل أن قوات الاحتلال تريد هذه القنابل لاستخدامها ضد حزب الله. ومهما كان الأمر، فإن رفع هذا القيد الضئيل يُظهر أن "تل أبيب" لا تزال تحصل على ما تريده من واشنطن.
الأزمة داخل "البيت الصهيوني"
لا شكّ أن عجز "جيش" الاحتلال عن تحقيق أهدافه حتى اليوم داخل قطاع غزة، وإدراكه ضعف قدراته أمام المقاومة اللبنانية وعموم ساحات المحور، هي أمور سيصاحبها مردود سلبي داخل المجتمع الصهيوني، الذي يعاني أزمات بنيوية صاحبته منذ لحظة "التأسيس".
الجدل الذي يحتدم حول تجنيد اليهود المتشدّدين "الحريديم" هو أحد دلالات الارتباك الذي تعيشه "إسرائيل"، خاصة بعد قرار المحكمة العليا الصهيونية إنهاء إعفائهم من الخدمة العسكرية. وهو القرار الذي حظي بتأييد قطاع واسع من "الإسرائيليين"، الذين يرون "ضرورة المساواة بين المواطنين في خدمة الجيش"، كما حظي بدعم معارضين مثل يائير لابيد وأفيغدور ليبرمان.
لكنْ القرار ذاته أثار غضب الأحزاب الدينية، مثل حزبي شاس و"يهدوت هتوراة"، واللذين يمثّلان ركناً أساسياً في الحكومة الائتلافية الحالية، كما انتقد حزب الليكود الصهيوني بزعامة نتنياهو توقيت صدور القرار، أما كبير الحاخامات السفارديم، يتسحاق يوسف، فقد هدّد بإمكانية مغادرة الحريديم "إسرائيل" بشكل جماعي إذا أجبرتهم الحكومة على الالتحاق بـ "الجيش".
ويرفض الحريديم، الذين يمثّلون اليوم نحو 13% من ا"لإسرائيليين"، الانخراط مع القوات القتالية، بزعم تفرّغهم للدراسة الدينية، أو لأسباب تتعلّق بتحفّظهم على الممارسات الليبرالية داخل "الجيش"، مثل الاختلاط بين الجنسين وعدم الالتزام بالتعاليم الدينية فيما يتعلّق بالطعام أو الإجازات، أو أمور شبيهة.
المهم في هذا السياق، هو أن المعارضة الصهيونية اشتد ضغطها لدمج الحريديم في "الجيش" نتيجة الوعي بصعوبة الحرب في غزة، وحجم ما يمثّله الخطر المقبل على "إسرائيل" في حال اندلعت الحرب مع حزب الله. صحيح أن اليهود العلمانيين طالما ضغطوا في هذا الاتجاه، لكن اليوم، وبسبب الحرب، تصاعدت الدعوات من قِبل فئات متنوعة من "الإسرائيليين" بهدف زيادة أعداد الجنود والضباط لمواجهة الأخطار التي تحاوطهم.
كل هذا التطاحن داخل "المجتمع" الصهيوني ، يدلّ على حجم التهديد الذي يشعر به "الإسرائيليون"، وإذا تمّ عقد مقارنة بين الحال منذ سنوات قليلة، عندما كانت حكومة الاحتلال توقّع الاتفاقيات مع الأنظمة العربية لتطبيع العلاقات، وتتطلّع للمزيد، وبين حالها اليوم، وهي تسعى لرأب الصدع بين الأطراف المتنازعة في الداخل، والتصدّي لتهديد المقاومة من الخارج، لأدركنا حجم الإنجاز الذي صنعته عملية "طوفان الأقصى"، رغم الضريبة القاسية التي دفعها الشعب الفلسطيني.
اللافت هنا، أنه رغم كل تلك المعوّقات يبحث نتنياهو عن إشعال حرب جديدة في لبنان، معتقداً أن ذلك قد يوفّر له دعماً شعبياً أكبر، لكنه لا يدرك أن الحرب المُفترضة ستقضي على الأخضر واليابس من تاريخه السياسي، وستجرّ الكيان بأكمله إلى خسارة حتمية.
طهران.. واشتداد عود محور المقاومة
في نهاية الشهر الماضي، حذّرت بعثة إيران لدى الأمم المتحدة من أنه إذا بدأت "إسرائيل" عدواناً عسكرياً واسعاً على لبنان، فسوف تقع "حرب إبادة"، ورغم وعي طهران أن دعاية النظام الصهيوني حول مهاجمة لبنان بمثابة حرب نفسية، إلا أنها أكدت أن شروع "إسرائيل" في عدوان عسكري، سوف يجعل كلّ الخيارات مطروحة على الطاولة، بما في ذلك المشاركة الكاملة لمحور المقاومة.
لم تختبر "تل أبيب" قوة محور المقاومة بعد، ورغم أنها أدركت استعداد المحور للتصعيد وتأديب حكومة الاحتلال على مدار التسعة أشهر الماضية، إلا أن ساحات المقاومة لم تعمل إلى الآن بكامل طاقاتها، وثمة الكثير من الأسلحة والخبرات القتالية التي يمكن أن تتسبّب للكيان الصهيوني بأزمات لم يعايشها من قبل.
في هذا السياق، يجب عدم التعامل بشكل عارض مع القصف الذي قامت به إيران ضد "إسرائيل" خلال شهر نيسان/أبريل الماضي، ثمّة فعل استثنائي قد حدث يومها، وزلزل الأساسات التي استقرّت عليها المنطقة لنصف قرن مضى، وهو كفيل بتغيير تاريخها وجغرافيّتها أيضاً.
ورغم استعداد طهران للتصعيد، وإعلانها الصريح دعم وتسليح المقاومة، إلا أنّها لا تبادر للحرب. فقط، تلجأ إلى العصا عندما يُجاوز نتنياهو حدّه، ويريد اختبار صلابة المحور، فلدى إيران، بطبيعة الحال، وضع اقتصادي يحتاج إلى التنمية والدعم، ليكون دليلاً على إمكانية النجاح رغم العقوبات الغربية، كما لديها انتخابات رئاسية لتحديد خليفة الرئيس الشهيد إبراهيم رئيسي.
بالتالي لدى إيران مخططاتها ومشاريعها، وهي أحرص الأطراف على عدم إشعال الحرب، لكن إن أرادتها حكومة الاحتلال، فلتكن! خاصة وأن الساحات العديدة التي باتت تطوّق "إسرائيل" وحلفاءها من الجهات كافة، قد أثبتت كفاءتها القتالية طوال الفترة الماضية.
ولا شكّ أن الخبراء في "تل أبيب" وواشنطن قد تابعوا الانتخابات الرئاسية داخل إيران، وأذهلهم حجم النزاهة التي أحاطت بها، بالإضافة إلى سلاسة العملية برمّتها، رغم المخاطر كافة التي تحيط بالبلاد من كل جانب، فكانت العملية الانتخابية دليلاً على قوة الثورة والدولة في آنٍ واحد.
ومن المؤكد أنه يتملّكهم الحذر اليوم أكثر، بعد اتحاد المعسكر المحافظ حول المرشّح سعيد جليلي، وبالتالي تزايدت فرص نجاحه في الوصول إلى منصب الرئيس في إيران، وهو الأستاذ الجامعي الذي ينتمي إلى معسكر المبدئيين، ويعلم الغرب صلابته، ورفضه للتدخّلات الخارجية، منذ أن كان مفاوضاً سابقاً في المشروع النووي.
وأياً تكن النتائج، فإن طهران قد نجحت منذ ثورتها في 1979 في تأسيس جبهة مقاومة لا تقتصر فقط على منطقة الشرق الأوسط، بل تتخطاها لتكون جزءاً من جبهة عالمية، تمتد من عواصم أميركا اللاتينية حتى بيونغ يانغ، شعارها هو رفض الهيمنة الأميركية، ورفض الممارسات الصهيونية العدوانية بحقّ الفلسطينيين.
الفرصة الأخيرة أمام نتنياهو وبايدن
كلّ ما سبق يفترض أن يدفع "جيش" الاحتلال للحذر مرات عديدة قبل أن يفكّر في توسيع نطاق الحرب ضد لبنان، وأن يعي الجميع أن مفتاح منع تدحرج كرة الثلج العسكرية في المنطقة، هو وقف العدوان الصهيوني على قطاع غزة.
تنصح الصحف العبرية نتنياهو بأن يستمع إلى قادة "جيشه"، إذ يهمس بعضهم إليه، بعدم القدرة على إشعال حرب جديدة مع المقاومة اللبنانية، بالشكل الذي يعني التورّط في حرب شاملة مع محور كامل، هو في أفضل حالاته بينما القوات الصهيونية منهكة بفعل الحرب في غزة، ولهذا السبب تتجادل تلك القيادات العسكرية مع نتنياهو خلف الكواليس لإنهاء القتال في غزة. لكنه لن يفعل ذلك، ويفوّت آخر فرصه للنجاة!
في المقابل لا تريد واشنطن أن تفعل شيئاً على الأرض لردع "إسرائيل"، وبحسب مسؤول كبير في وزارة الدفاع الأميركية: "فإنه طالما أدركت تل أبيب أنها لن تواجه عواقب لتجاوزها كلّ الخطوط الحمر في غزة، وطالما ظلّت تصريحات الرئيس الأميركي تؤكد الاستعداد للدعم، فإن الأمور لن تتغيّر".
إن ما تفعله الإدارة الأميركية اليوم في الحقيقة هو أنها تمنح الضوء الأخضر لحكومة الاحتلال لتوسيع عدوانها، ودفع المنطقة كلّها لتعيش أياماً صعبة، لكنها ستكون أصعب على متطرّفي "إسرائيل"، وهذا ما ستؤكّده الأيام.
* المصدر: موقع الميادين نت
* المقال يعبر عن رأي الكاتب