حسن نافعة*



تختلف الجولة الحالية للصراع مع الكيان الصهيوني عن كل ما سبقها من جولات، سواء من حيث طبيعة ونوعية الأطراف المشاركة فيها، أو من حيث الدوافع والأسباب التي أدت إلى اندلاعها، أو من حيث ما قد تسفر عنه من نتائج وما قد تؤدي إليه من تفاعلات. لذا، يمكن القول إنها ليست حدثاً عابراً في تاريخ الأمة يمكن احتواؤه أو الالتفاف عليه، إنما هو حدث مؤسس لمرحلة تحول كبرى في مسيرة ومسار هذا الصراع الممتد منذ أكثر من قرن.

خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين (1922-1948)، تعين على الشعب الفلسطيني أن يواجه الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني معاً. ورغم ما قام به من ثورات لم تنقطع في مواجهة هذين التهديدين الكبيرين، فإن الشعب الفلسطيني لم يتمكن من القضاء على أي منهما بسبب خلل هائل في موازين القوة.

وحين بدأ العالم العربي يتنبه إلى خطورة ما يحاك للمنطقة، بدأ يتحرك لمد يد العون والمساعدة للشعب الفلسطيني المغلوب على أمره، وخصوصاً عقب تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945، ولم يتردد في خوض سلسلة من الحروب ضد الكيان الصهيوني الذي تمكن من الإعلان عن قيام دولته المستقلة عام 1948، غير أن هذه الحروب التي اندلعت تباعاً خلال الفترة الممتدة من 1948 وحتى 1973 انتهت بكوارث كبرى.

حرب 48 أسفرت عن تمكين الكيان الصهيوني الوليد من السيطرة على 78% من فلسطين التاريخية (بعدما كانت المساحة المقررة له بموجب قرار التقسيم لا تتجاوز 56% من إجمالي مساحة فلسطين تحت الانتداب)، وحرب 1956 أسفرت عن السماح لسفن الكيان بالإبحار في خليج العقبة عبر مضيق تيران.

وحرب 1967 أسفرت عن تمكين الكيان من احتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية، إضافة إلى سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية. أما حرب 1973، ورغم ما حققته من إنجاز عسكري كبير في بدايتها، فقد أسفرت في النهاية عن خروج مصر من معادلة الصراع العسكري مع الكيان، حين قامت بالتوقيع على معاهدة سلام منفردة معه في مقابل تمكينها من استعادة سيناء شبه منزوعة السلاح.

كان خروج مصر من المعادلة العسكرية للصراع، وقبل التوصل إلى تسوية سياسية شاملة للقضية الفلسطينية، معناه استحالة اندلاع حرب نظامية أخرى بين الجيوش العربية وجيش الكيان، ومن ثم أصبحت حرب 73 هي آخر الحروب النظامية بالفعل.

بعدها، انتقل الصراع مع الكيان من أيدي الجيوش إلى أيدي فصائل المقاومة، وخصوصاً بعدما تمكن الكيان الصهيوني من إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عقب اجتياح بيروت عام 1982، غير أن ظهور حزب الله، عقب هذا الاجتياح بفترة وجيزة، أسهم في إعادة الاعتبار إلى المقاومة المسلحة وفي ترسيخ الاعتقاد بأنها الوسيلة الوحيدة لتحرير الأرض العربية المحتلة ومواجهة ما يفرضه المشروع الصهيوني من تحديات.

وعندما نجح حزب الله عام 2000 في تحرير جنوب لبنان من دون قيد أو شرط، في وقت بدت اتفاقية أوسلو على وشك أن تنهار تماماً، شكل هذا النجاح دفعة معنوية قوية لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، وخصوصاً في قطاع غزة، إذ راحت ضرباتها تتصاعد هناك إلى الحد الذي اضطر معه جيش الاحتلال الصهيوني إلى الإعلان عن انسحابه أحادي الجانب من القطاع عام 2005، ما أدى إلى تكريس صورة الصراع العربي الصهيوني باعتباره صراعاً يدور بين جيش نظامي صهيوني محتل وفصائل مقاومة شعبية تسعى لتحرير أرضها المحتلة على الجبهتين اللبنانية والفلسطينية. وفي سياق هذا التحول، بدأ الكيان الصهيوني يفقد تدريجياً زمام المبادأة ويعجز عن تحقيق أي نصر استراتيجي.

خلال العقدين السابقين، خاض "جيش" الكيان الصهيوني عدة حروب ضد كل من حزب الله اللبناني (2006) وفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة (2008/2009 و2012 و2014 و2021 و2022)، لكنه لم يتمكن خلالها من احتلال أي أراض عربية جديدة أو تحقيق انتصار حاسم.

صحيح أنه استطاع أن يلحق دماراً هائلاً في البنية التحتية للجنوب اللبناني ولقطاع غزة، لكن فصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية كانت تخرج من هذه المواجهات أقوى مما كانت عليه قبلها. وبعدما كانت هذه المواجهات تتم بشكل منفصل، ودون أي تنسيق بين الجبهتين اللبنانية والفلسطينية، إذا بها تدخل مرحلة نوعية جديدة وغير مسبوقة بعد عملية "طوفان الأقصى"؛ ففي 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، شنت فصائل المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس هجوماً خاطفاً على القواعد العسكرية وعلى المستوطنات الصهيونية الواقعة في "غلاف غزة"، تمكنت خلاله من قتل ما لا يقل عن 1200 جندي ومستوطن، وأسر ما لا يقل عن 250 آخرين.

ولأن حزب الله اللبناني أدرك على الفور الأهمية الاستراتيجية الكبرى لهذه العملية النوعية وغير المسبوقة في تاريخ الصراع، كما أدرك في الوقت نفسه قسوة رد الفعل المتوقع من جانب جيش الكيان الصهيوني، فقد قرر على الفور التدخل عسكرياً لإسناد المقاومة الفلسطينية، لكن في سياق عملية محسوبة بدقة هدفها تخفيف الضغط على الجبهة الفلسطينية ومنع جيش الكيان من تحقيق نصر سريع أو حاسم.

وبعد عدة أسابيع، حدث تطور مماثل حين قررت جماعة "أنصار الله" اليمنية الدخول على خط المواجهة العسكرية والقيام بعمليات تستهدف إسناد حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى، وذلك من خلال ضرب السفن المتجهة إلى ميناء إيلات، ثم لحقت بهما بعض فصائل المقاومة العراقية.

وبهذا، تحولت الحرب على غزة إلى صراع مسلح يدور بين جيش الكيان الصهيوني من ناحية، ومحور المقاومة في المنطقة من ناحية أخرى. ولم يكن لذلك سوى معنى واحد، هو أن الجولة الحالية من جولات الصراع المسلح مع الكيان الصهيوني أصبحت تدار بعيداً عن مشاركة الجيوش العربية، ومن خلال عملية منسقة يشارك فيها محور يضم، إلى جانب الفصائل الفلسطينية المسلحة، فصائل لبنانية ويمنية وعراقية، وذلك في تطور نوعي غير مسبوق في تاريخ الصراع.

يلفت النظر هنا أنَّ الأنظمة الحاكمة في العالم العربي لم تكتفِ بدور المتفرج على ما يدور في المنطقة أو بدور الوسيط أحياناً، إنما ذهب بعضها أيضاً إلى حد مد يد العون والمساعدة إلى جيش الكيان الصهيوني نفسه؛ فبعد قيام "إسرائيل" بشن هجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق، أسفر عن تدميرها بالكامل وقتل عدد من المستشارين العسكريين، قررت إيران أن ترد على هذا العدوان بشكل مباشر، وقامت بتوجيه ضربة إلى الكيان الصهيوني ليلة 14 نيسان/أبريل الماضي، مستخدمة مئات المسيرات والصواريخ الباليستية.

وقد كشفت مصادر إعلامية، وتبيَّن في ما بعد، أن القوات الأميركية الموجودة في المنطقة هي التي تولت بنفسها تنسيق العمليات الرامية لصدّ هذه الضربة، وأن دولاً عربية شاركت فيها، إما مباشرة، باستخدام دفاعاتها أو قواتها الجوية، وإما بشكل غير مباشر، من خلال فتح مجالاتها الجوية أو تقديم معلومات استخباراتية.

لكن الأمر لم يقتصر عند هذا الحد، فقد كشف موقع إكسيوس الأميركي منذ عدة أيام عن اجتماع سري عقد في المنامة، وشارك فيه رئيس أركان الجيش الصهيوني هيرتسي هليفي بنفسه، وحضره مسؤولون عرب من مصر والإمارات والبحرين والأردن، ما يدل على أن التنسيق الأمني بين الكيان الصهيوني ودول عربية بعينها يسير على قدم وساق، ويؤكد أن التعاون الذي جرى بين الدول التي شاركت في صد الهجوم الإيراني على الكيان لم يكن حدثاً عارضاً، وإنما كان تعبيراً عن جهد متواصل تقوده إدارة بايدن، ويستهدف إيجاد نظام مؤسسي للأمن الجماعي في المنطقة تشارك فيه "إسرائيل". وحين يحدث مثل هذا التنسيق الأمني في وقت يقوم الكيان الصهيوني بتدمير قطاع غزة وتجويع شعبه وقتل وجرح ما يقارب 500 ألف من سكانه، فمن الطبيعي أن يثير ذلك تساؤلات حائرة وقلقة لدى الشعوب العربية التي بدأت تشعر بالغضب.

أخلص مما تقدم إلى أن تخلّي أنظمة الحكم العربية عن السلاح في صراعها الممتد مع المشروع الصهيوني وعجزها في الوقت نفسه عن التوصل إلى تسوية بالوسائل السياسية تؤدي إلى تحرير الأرض العربية المحتلة، وتستجيب في الوقت نفسه للحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية والعربية المشروعة، ساهم في انتقال إدارة الصراع المسلح مع الكيان من أيدي الجيوش النظامية العربية إلى فصائل المقاومة الشعبية التي نجحت في تحقيق إنجازات أكبر بكثير مما حققته الجيوش العربية النظامية.

ولا جدال في أن من شأن هذا الوضع الجديد أن يؤدي إلى انقسام العالم العربي إلى فسطاطين أحدهما يرى بوضوح أن المشروع الصهيوني في المنطقة يشكل مصدر التهديد الرئيسي للأمن القومي العربي، ومن ثم ينبغي مواجهته بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك القوة المسلحة، ألا وهو الفسطاط المؤيد والداعم لفصائل المقاومة المسلحة.

أما الفسطاط الآخر، فيرى أن إيران هي الخطر الأساسي على الأمن القومي العربي، وأن فصائل المقاومة المسلحة ما هي إلا أدوات تستخدمها إيران لتحقيق المزيد من التغلل في الشؤون الداخلية للعالم العربي. وأظن أن الأوان آن لتجاوز هذا الانقسام، وخصوصاً بعد الأداء المعجز لمحور المقاومة ككل، وللشعب الفلسطيني على وجه الخصوص.

قد يكون من السابق لأوانه التكهن بما ستسفر عنه الجولة الحالية من الصراع، لكنني على يقين بأن محور المقاومة لن يسمح بإلحاق الهزيمة بفصائل المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس، حتى لو تطلب الأمر الدخول في حرب إقليمية شاملة.

لذا، لا يخامرني أي شك في أن هذه الجولة لن تكون أبداً مجرد حدث عابر في حياة الأمة، ولكنها ستحدد مستقبلها ومصيرها لسنوات طويلة قادمة. وفي تقديري أن أمتنا العربية لن تنهض وتلحق بركب الدول المتقدمة إلا إذا تمكنت من هزيمة المشروع الصهيوني أولاً.

* المصدر: موقع الميادين نت
* المقال يعبر عن رأي الكاتب