السياسية:

بعدما نجحت صنعاء في تثبيت معادلة الحصار بالحصار في البحر الأحمر، وبعدما أصبح باب المندب عقدةً قتالية عالمية ورمزاً للحصار اليمني للاحتلال “الإسرائيلي”، دخل المحيط الهندي، في تصعيدٍ لافت، خطّ المعادلة اليمنية، وبات ضمن دائرة المواجهة.

فمع بداية “طوفان رمضان”، أدخل قائد حركة أنصار الله، السيد عبد الملك الحوثي، في خطابه قبل يومين، المحيط الهندي، وصولاً إلى رأس الرجاء الصالح، ضمن معادلة نصرة اليمن لقطاع غزة، مشيراً في الوقت عينه إلى تنفيذ القوات المسلحة اليمنية 3 عمليات طالت المحيط الهندي.

ولم تكد تمرّ ساعات بعد خطاب السيد الحوثي، حتى خرج المتحدث باسم القوات المسلحة، العميد يحيى سريع، ليعلن تفاصيل العمليات الثلاث، والتي طالت 3 سفنٍ تجارية “إسرائيلية” وأميركية في المحيط الهندي، لتدخل هذه المنطقة البحرية، وللمرة الأولى في التاريخ، في مرمى الصواريخ اليمنية، في إنجازٍ غير مسبوق.

اليمن الذي كسر التوازنات العالمية المتحكّمة في غرب آسيا وشمال أفريقيا منذ الحرب العالمية الثانية، لم يكتفِ بالإنجاز المتحقّق حتى الآن بالحصار الذي فرضه على كيان الاحتلال في البحر الأحمر، بل اختار “خنق إسرائيل” وتعميق المأزق الأميركي، إضافة إلى تشكيل تحدٍّ استراتيجي للهيمنة الأميركية على البحار والمحيطات.

“تل أبيب” تحت الضغط
مسارُ عملياتٍ تصاعدي في المديات وفي المسار وفي الدقة، هكذا لخّص السيد الحوثي، في خطابه الأخير، عمليات القوات المسلحة اليمنية ضد السفن المرتبطة بالاحتلال والداعمة له، مؤكداً أنّ اليمن لن يسكت عن الحصار وعن تجويع الشعب الفلسطيني.

ولا شكّ في أنّ القرار اليمني الأخير باستهداف كلّ السفن المتجهة إلى الموانئ الفلسطينية المحتلة أثناء عبورها بمحاذاة جنوب قارة أفريقيا، يحمل في طيّاته تبعات كثيرة ستضع كيان الاحتلال أمام استحقاقاتٍ صعبة في المرحلة المقبلة. فمن شأن هذا القرار أنّ يزيد الضغط على الاحتلال، كما من شأنه أن ينقل المنطقة إلى مزيدٍ من التصعيد وإلى توسيع دائرة الحرب، في حال استمر العدوان على غزة.

فتصعيد مشاركة صنعاء ضمن معركة “طوفان الأقصى” سيُنهك جبهة الاحتلال بشكلٍ أكبر مما هي عليه، خاصةً في ظل تصاعد الخلافات الداخلية “الإسرائيلية”، وتزايد القناعة بأنّ رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، ينطلق في مواقفه من مصالحه الشخصية والسياسية من دون أي اعتبارات أخرى.

إلى جانب ذلك، تحمل الخطوة اليمنية رسالةً واضحةً إلى الاحتلال “الإسرائيلي” في حال قيامه بالتصعيد في رفح، عبر رفعها درجة المعركة الإسنادية لقطاع غزة شعباً ومقاومة، ولا سيما أنّ صنعاء كانت قد توعّدت الاحتلال في وقتٍ سابق، أنّ جبهتها مرتبطةٌ بالتصعيد في قطاع غزة، وأنّ أيّ اقتحام “إسرائيلي” لمنطقة رفح، سيُقابل بتصعيدٍ وتوسّعٍ في العمليات.

وأمام استمرار العمليات اليمنية وتصاعدها بصورةٍ ملحوظة، ثبّتت صنعاء المعادلة اليمنية ضمن مسارٍ تصاعدي لدعم غزة، وخصوصاً مع تعنّت الاحتلال في المفاوضات القائمة، والإصرار الأميركي “الإسرائيلي” على مواصلة جرائم الإبادة وسياسة التجويع في القطاع.

فرصة لواشنطن لإعادة حساباتها
لم يكتفِ اليمن بفضح عجز واشنطن ولندن وإخفاقهما في مسعاهما لـ “ردع صنعاء” عبر العدوان الأميركي – البريطاني المستمر على اليمن، بل قرّر، عبر توسعة العمليات إلى المحيط الهندي، تعميق المأزق الأميركي وتعقيد حسابات واشنطن، خصوصاً أنّ المنطقة المذكورة تشهد حضوراً متزايداً للقوى الكبرى، ولا سيما الصاعدة منها، مثل الصين والهند وإيران.

وتعيش الإدارة الأميركية وضعاً حرجاً، ولا سيما أنّ فشلها في “توريط” بعض حلفائها الغربيين في عمليات عدوانية ضدّ اليمن ضمن إطار عملية “حارس الازدهار”، أظهر تراجع هيمنتها بشكلٍ واضح. ولعلّها من المرّات النادرة التي تجد فيها واشنطن نفسها، في ظلّ تعقيدات الموقف وتضارب مصالحها مع حلفائها، أمام معضلة تجميع شركاء في الغطاء البحري، في مواجهة اليمن، لكسر حصارٍ بحري فرضه على الاحتلال.

وتجدر الإشارة إلى أنّ السيد عبد الملك الحوثي لم يشمل في خطابه الأخير السفن والبوارج الأميركية والبريطانية، وإنما حصر الأمر بالسفن الإسرائيلية، وهذا ما يتيح لواشنطن ولندن إعادة حساباتهما، وبحث خياراتهما من جديد قبل المجازفة في مواجهة اليمن هنا أيضاً، حتى لا تكون سفنهما هي الأخرى في المصيدة.

وتدرك الإدارتان الأميركية والبريطانية ماذا يعني ضرب هدفٍ متحرّك في البحر، وتعلمان الدقة العالية للأسلحة التي تستخدمها القوات المسلحة اليمنية، على الرغم من الانتشار العسكري الواسع، أميركياً وبريطانياً وأوروبياً، وعلى الرغم من التعقيدات الفنية والتقنية والجغرافية في ميدانٍ بحري واسع.

هكذا، وضعت صنعاء واشنطن تحت خيارات صعبة، بين الذهاب إلى حربٍ كبرى، وبين التعايش مع حرب استنزاف تُسقط هيبة الولايات المتحدة وصورة الردع التي تحرص على إبرازها، أو الدّفع نحو الإسراع في الخطوات التي تضمن إنهاء العدوان والحصار على غزة.

ضغوط اقتصادية
يفرض التصعيد اليمني لعزل كيان الاحتلال عن شرق الخارطة، زيادةً في الضغط الدولي على “إسرائيل” لتدهور الأوضاع في البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي. كما تبرز أهمية هذا القرار في أنه يوفّر مجالاً واسعاً في القدرة على الإضرار بالاقتصاد “الإسرائيلي”، عبر إمساكه بثلاثة ممرّات تستفيد منها السفن “الإسرائيلية” أو تلك المرتبطة بالاحتلال.

الممر الأول، هو رأس الرجاء الصالح، إذ يمكّن القرار اليمن من منع الصادرات إلى “إسرائيل” من الصين والهند ودول الخليج. أما الممر الثاني، فمن المحيط الهندي إلى بحر العرب وخليج عدن، عبر باب المندب في البحر الأحمر، والذي يُعتبر حالياً متوقّفاً بسبب الاستهدافات اليمنية. أما الممرّ الثالث، فهو من المحيط الهندي إلى دول الخليج، ولا سيما الإمارات والبحرين، عبر مضيق هرمز، وهو ما يعني فعلياً إفشال الممر البري الذي اعتمدت عليه “إسرائيل” بعد الـ7 من أكتوبر لإيصال المساعدات إليها.

والجدير بالذكر أنّ المحيط الهندي، الذي تمتد مساحته بين ثلاث قارات هي آسيا وأفريقيا وأستراليا، يُعتبر ثالث أكبر كتلة مائية بعد المحيطين الهادي والأطلسي، وهو إلى ذلك شريان رئيسي من شرايين شبكة العولمة. فعبر مياهه ومضائقه الدولية يمرّ نحو 80% من منتجات العالم من الطاقة والنفط والسلع المختلفة، و50% من حركة النقل البحري بالحاويات، ونصف إجمالي البترول المنقول في العالم أجمع.

كما تحوي أعماقه وكتل اليابسة من حوله ما يقدّر بثلثي الاحتياطي العالمي من النفط، و40% من احتياطي الذهب، ونحو 60% من اليورانيوم، و90% من الماس، والأهم من هذا كله، أنّ المسالك البترولية في المحيط الهندي تعتبر شرايين الحياة الاستراتيجية للعديد من الدول المتطورة والنامية، خاصةً دول شرق آسيا التي لا مفرّ لأساطيلها من المرور عبر شبه القارة الهندية عند نقلها لبترول الشرق الأوسط وأفريقيا عائدة إلى بلدانها.

هكذا، تصعّد صنعاء بعزمٍ حصارها البحري للاحتلال، حيث بات التهديد الذي تشكّله “مشكلةً للأمن القومي “الإسرائيلي”، بحسب قادة عسكريين “إسرائيليين”. ومع تأكيد السيد الحوثي أنّ القوات المسلحة اليمنية ستوسّع عملياتها إلى أماكن لا يتوقّعها الأعداء، وتشديده على أنّ لديها الكثير من المفاجآت، فالباب مفتوحٌ على مصراعيه للمزيد من تسخين الجبهات، وقد تكون هناك معادلات أخرى تفرضها صنعاء، تنكشف مع مرور الوقت.

يدرك الثلاثي “الإسرائيلي” والأميركي والبريطاني أنّ تهديدات قائد حركة أنصار الله ليست خطابات للاستهلاك الإعلامي، وإنما هي حقائق يتم فرضها على أرض الواقع، وما أنجزته صنعاء خلال الأشهر الماضية في البحرين الأحمر والعربي خيرُ دليلٍ على ذلك.

“نقول للأعداء إنّ القادم أعظم بكلّ ما تعنيه الكلمة.. ونترك المجال للفعل ثم نعقّب عليه بالقول”. (السيد عبد الملك الحوثي، 7 آذار/ مارس 2024).

*المصدر: موقع الميادين نت
* المادة نقلت حرفيا من المصدر