غزّة.. اختلاف وسائل الإبادة لا يُفسد ودَّ الَقَتَلَة
السياسية:
د. حسن أحمد حسن*
من حق أنصار الحق وعشاق الإنسانية وأحبّاء فلسطين بكليتها وغزّة الصامدة النازفة المتعالية على الجراح أن يبنوا بعض الآمال على إمكان تبدل اللوحة المشكّلة للوعي الجمعي الحامل للرأي العام داخليًا وإقليميًا ودوليًا. وقد لا يجانب الصواب من يركز على هذا الجانب لتمكين المتابعين من رؤية بصيص أمل في نهاية النفق الذي قد تطول سراديبه وتتشعّب تفرعاته جراء التوحش في عدوانية عنصرية لم تعرف لها البشرية مثيلًا على امتداد تاريخها الطويل.
فالقتل المتعمد والممنهج الذي تنفذه سلطات الاحتلال بدم بارد لا يمكن تفسيره إلا باطمئنان حكومة نتنياهو التام ويقينها بعجز المجتمع الدولي عن مساءلتها أو إزعاجها بشكل فعلي جراء سيف الفيتو الأمريكي المسلط فوق عنق المنظمة الدولية، والقادر ــ مع الأسف ـــ على قطع الطريق على كلّ من تؤلمه مناظر أشلاء الأطفال والنساء، وتهديم دور السكن والعبادة والمدارس والمستشفيات فوق رؤوس قاطنيها والملتجئين إليها.
الحديث الأمريكي عن ضرورة تخفيض عداد الضحايا ليس أكثر من تلاعب بالألفاظ وتخدير لمشاعر الغضب التي لم تفلح حتّى الآن في بلورة موقف صالح للبناء عليه لدفع كبير القتلة والسفاحين القابع في البيت الأسود في واشنطن لتبديل سياسته الدموية العدوانية، وإرغامه على اعتماد مقاربات أخرى أفرزها واقع الحرب المفتوحة على غزّة منذ قرابة خمسة أشهر، وهذا لا يقلل من أهمية التبدلات الجوهرية التي تفرض ذاتها على الرأي العام العالمي ومكوناته، كما أن تلك التبدلات لمّا تدخل بعد ـــ مع الأسف ـــ حسابات المسؤولين عن تفاصيل القرار الأمريكي الداعم لزيادة غزارة شلال الدم الفلسطيني المهدور ظلمًا وعدوانًا على أيدي القتلة المجرمين في حكومة نتنياهو التي استمرأت القتل والإجرام والتوحش والإيغال في عدوانية عنصرية ممهورة بالخاتم الأميركي في كلّ صغيرة وكبيرة يقترفها جيش الاحتلال الإسرائيلي أمام بصر العالم وسمعه وبتكرار يومي وعلى مدار الساعة.
لتوضيح مدخلات هذه الصورة المركّبة بعناصرها المتعددة قد يكون من المفيد التوقف عند عدد من العناوين الفرعية والأفكار المهمّة، ومنها:
* جميع أطراف محور المقاومة على يقين تام بأن الدعم الأمريكي للكيان الاحتلالي المؤقت مستمر ولن يتراجع إلا بحالٍ واحدة محصورة بارتفاع الخسائر البشرية في صفوف القوات الأمريكية المشتركة بالإجرام وعلى جميع الجبهات، ويبدو أن تحقيق هذا الأمر ما يزال في حدوده الدنيا لجملة من الحسابات الاستراتيجية التي أثبتت صحتها وجدواها من دون الدخول في تفاصيل إضافية.
* الفاتورة التي دفعها محور المقاومة بجبهاته المتعددة كبيرة، والاستعداد التام لدفع المزيد، وفي الوقت نفسه اليقين مطلق بأن هذه الفاتورة والضريبة مهما ارتفعت تبقى أقل بكثير من فاتورة الخضوع والإذعان لإرادة أعداء الله والإنسانية، كما أن اليقين لا يخالطه شك قط بحتمية النصر النهائي، وإن طال زمنه أو تضاعفت تكاليفه، فالهزيمة النهائية متعلّقة بعامل الإرادة، وكلّ معطيات الواقع تؤكد أن إرادتنا أصلب وأمنع وأحصن من أن تنال منها همجية المجرمين وجنون الوحوش المسعورة التي ما كانت تتوقع أن تعيش مثل هذه الأخطار والتهديدات الوجودية التي فرضها محور المقاومة بجبهاته المتعددة والمتكاملة.
* مهما حاولت حكومة الظل العالمية التي تحرك واشنطن و”تل أبيب” ومن يدور في فلكهما الآسن عبر الامبراطوريات الإعلامية وغيرها من الأدوات والوسائل التعتيم على أهمية ما يتم إنجازه لن تفلح في إغلاق النافذة التي فتحها الأداء المقاوم في مكونات الرأي العام ومدخلاته التي ستظهر بوضوح في المخرجات، وإن حرص الخبث الاستخباراتي المعادي على إطالة زمن التفاعل في فرن الصهر لتأخير موعد المخرجات فهي آتية، وبما لا يتفق أبدًا ونزعة الهيمنة والغطرسة والجبروت التي تعيش تداعيات جوهرية مفروضة بالشكل والمضمون.
* من المهم إثارة التساؤل عن سر تجاهل إدارة بايدن وكلّ أتباعها للتظاهرات الحاشدة التي تشهدها المدن الأميركية والأوروبية وفي بقية دول العالم، وجميعها يعلن مناصرته للحق الفلسطيني، ويدين الوحشية الإسرائيلية، حتّى أن الخارجية الأميركية عبرت كلاميًا عن “عميق عزائها في مقتل أكثر من 100 فلسطيني وإصابة عدد أكبر في شمال غزّة” بعد المجزرة المرتكبة بحق الفلسطينيين الذين كانوا ينتظرون وصول مساعدات الرمق الأخير، فكانت نيران الجيش الإسرائيلي وقذائف الموت التي أمطرهم بها أسرع بكثير من تلك المساعدات الشكلية، ومن المهم هنا التذكير ببعض المحطات الغنية بالدلالات إلا عند إدارة بايدن التي لا يعنيها إلا دعم حكومة نتنياهو المتداعية والمتعثرة، ومنها:
* دعوة منظمة العفو الدولية إلى وجوب “التحقيق فورًا في التقارير المريعة التي تظهر أعدادًا من الفلسطينيين يُقتلون ويُصابون في محاولتهم تلقي المساعدات الغذائية في شمال غزّة”، مع الإشارة إلى إنّ تحقيقات المنظمة جارية في ما حصل كجزء من التوثيق المستمر للانتهاكات بحق المدنيين الفلسطينيين.
* تنديد منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبيّ جوزيب بوريل بالمجزرة الجديدة، بعد مقتل أكثر من 110 فلسطينيّين، خلال عملية توزيع مساعدات في شمال غزّة، وإعرابه عن تخوّفه من التقارير عن مذبحة أخرى بين المدنيين في غزّة، ممن هم بأمس الحاجة للمساعدات الإنسانية.
* التظاهرات الحاشدة التي شهدتها واشنطن ونيويورك وغيرهما من المدن في العديد من الولايات الأميركية، ورفع ولاية تكساس صوتها عاليًا في وجه إدارة بايدن وخروج فرسان تكساس على أحصنتهم وهم يحملون الأعلام الفلسطينية ويصرخون “أوقفوا إبادة غزّة”.
* المواقف المشرّفة والمتقدمة التي اتّخذتها جنوب إفريقيا والبرازيل وكولومبيا وفنزويلا وغيرها من الدول التي عرّت الإجرام الإسرائيلي على حقيقته، ومزّقت ورقة التوت التي كانت تغطي عورة تكامل الأداء الإجرامي بين واشنطن و”تل أبيب”.
* إضافة إلى ما ذكر فقد انشغل الرأي العام بإقدام الجندي الأميركي على إحراق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن وكانت آخر كلماته: “الحرية لفلسطين”، وفي اليوم التالي تظاهر العديد من قدامى العسكريين الأميركيين، وأحرقوا بزاتهم العسكرية وألقوا بميدالياتهم وأوسمتهم في النار احتجاجًا على دعم إدارة بايدن لعدوانية حكومة نتنياهو، وقام آخرون بزرع /13000/ علم فلسطيني في حديقة الكابيتول بجوار الكونغرس في واشنطن، وكلّ هذا وغيره لم يدفع إدارة بايدن لاتّخاذ أي خطوة فعلية تقيم أي وزن أو احترام لكل ما ذكر.
الخلاصة:
عبثية المراهنة على خلافات جوهرية بين حكومة نتنياهو وإدارة بايدن، واختلاف التكتيكات المؤقتة ووسائل التنفيذ لا يفسد ودَّ الطرفين، وتكامل أدوارهما لتحقيق الهدف الرئيس وهو: تصفية القضية الفلسطينية، وتمكين الكيان الإسرائيلي من التحكم بالمنطقة ومصادرة إرادة أبنائها، وبالمقابل على أصحاب ذاك المشروع الشيطاني المفضوح أن يتيقنوا بأن راية النصر الناجز لن تعقد إلا على زنود المقاومين وأصحاب الحق المتجذرين بأرضهم وهويتّهم، والمستعدين لتقديم قوافل الشهداء المتتالية دفاعًا عن المقدسات والكرامة والمؤمنين بأن وعد النصر قد اقترب، وعندها سيتم دخول المسجد الأقصى وتساء وجوه أعداء الحق والإنسانية، وهذا وعد الله وحاشا لله أن يخلف الميعاد.
* المصدر: موقع العهد الاخباري
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من المصدر