معاناة غزة بالأرقام
فاطمة سلامة*
حين تنتهي الحرب على قطاع غزّة، سينجلي الكثير من القصص والحكايات عن الشعب الفلسطيني. شعبٌ من حديد تستحق تجربته أن تُوثّق وأن تُدرّس لأجلنا لا لأجله. فكيف يُمكن لهذا الشعب الذي تعرّض لكل ما تعرّض إليه أن يبقى يتحدّث أمام عدسات الكاميرات بكلّ هذه الروحية والشجاعة والقوّة، وكأنّ شيئًا لم يكن؟ ما يجري في غزّة اليوم، باعتراف مختلف المراقبين وأهل العلم والاختصاص، غير مسبوق وسريالي. الواقع فوق الوصف، لا يُمكن لكافة التقارير والأرقام والتقديرات والقصص المتداولة أن ترسم الصورة كما هي. ثمّة ما هو أفظع مما يُقال ويُنقل، حتّى أنّ عدسات الكاميرا التي توثّق الأحداث لا تفي مئة بالمئة بالغرض. يكفي أن يتخيّل المرء أنّ في غزّة، أكثر من مليوني فلسطيني يعيشون في مساحة لا تتعدّى الـ365 كم2، يتعرضون لإبادة جماعية بكلّ ما تعني هذه الكلمة من معنى. فكيف يُمكن لمنطقة بهذا الحجم الصغير نسبيًا أن تتحمّل كلّ ما تتحمّله من حصار وتجويع وقتل، وإلى ما هنالك من حقل معجمي تشتمل عليه الإبادة المذكورة؟.
أوبئة وأمراض بالجُملة
على وقع الحال المأساوي، يُعاني الفلسطينيون في غزّة من كلّ ما يخطر ولا يخطر على البال من أزمات صحية، واجتماعية، ونفسية، واقتصادية وغيرها. على الصعيد الصحي، تشير اختصاصية الأمراض الجرثومية الدكتورة ندى شمس الدين إلى أنّ الوضع في غزّة مأساوي على كلّ الأصعدة، نظرًا لتداخل الأحداث الحاصل بين الظروف المختلفة والحالة الصحية. انقطاع الكهرباء، ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية وتوقف المستشفيات عن العمل، أدت كلها إلى غياب بيئة صحية مناسبة، ما أثّر سلبًا على الوضع الصحي وأدى إلى انتشار الأوبئة والأمراض المُعدية. وفي هذا السياق، تتحدّث شمس الدين لموقع “العهد” الإخباري عن أبرز أنواع الأمراض والأوبئة التي تنتشر بين الغزاويين، مُدرجة الآتي:
– التهاب الكبد الفيروسي الذي حصد عشرات الآلاف من المصابين، وقد سجّلت نسبة إصابة لا بأس بها بين الأطفال واليافعين في العمر. عادة ما يتفشّى التهاب الكبد الفيروسي عبر العدوى بواسطة المياه الملوثة أو الأطعمة الملوثة، وبالتالي فإنّ عدم وجود كهرباء ومياه نظيفة للشرب يُحدث تفشيًا لهذه الحالات.
– تفشٍّ لحالات الحصبة، التي كانت إحدى نتائج الحرب بسبب الاكتظاظ البشري حيث تتجمّع الناس مع بعضها البعض في مسافات قريبة جدًا، وبالتالي فإنّ أي حالات أمراض تنفسية من الممكن أن تنتقل من خلال النفَس أو الرذاذ، ما سجّل انتشارًا كبيرًا لحالات الحصبة. وفق شمس الدين، صحيح أنّ الحصبة لا تشكّل رعبًا على الصغار، ولكنها تشكّل خطرًا كبيرًا إذا أصابت الكبار في العمر أو النساء الحوامل، وأدت إلى عدد كبير من الإصابات.
– تسجيل حالات كثيرة من “الجرب”، الذي يتكاثر عبر العدوى بسبب الاحتكاك المباشر، نتيجة عدم وجود بيئة تُطبّق فيها معايير النظافة والمياه النظيفة والاستحمام بالطريقة الصحيحة.
– تسجيل حالات الإسهال الحاد التي احتلت رقمًا كبيرًا في إصابات الأمراض المُعدية، إذ إنّ أكثر من 50 بالمئة من المصابين كانوا من الأطفال تحت عمر 5 سنوات.
– تسجيل حالات “صفيرة” بسبب انتشار الأمراض المُعدية التي تصيب الكبد وتسبب هذا النوع من الأمراض.
وتشدّد شمس الدين على أنّ هناك مجموعة من الأمراض المُعدية والأوبئة انتشرت في قطاع غزّة، والسبب الأساسي تمثّل بعدم القدرة على الحفاظ على معايير النظافة، فضلًا عن أسباب أخرى لا تقل أهمية كانقطاع الكهرباء، إقفال الكثير من المستشفيات سواء كليًا أو جزئيًا، وهذا ساهم في أن كثرًا من النازحين لم يتمكّنوا من تلقّي العلاج اللازم الذي يمنع الانتشار ويُحافظ على معايير العزل. وفق شمس الدين، كلّ هذه الأمراض تحتاج إلى العزل بأنواعه المختلفة، وهذا لم يكن متوفّرًا ما أدى إلى زيادة الأعداد والانتشار.
ولا تُخفي شمس الدين قلقها من أنّ المستقبل قد يحمل انتشار المزيد من الأمراض نظرًا للأوضاع السيئة والصعبة جدًّا التي تمر بها غزّة، فهناك الكثير من الأمراض الوبائية التي تتأثر بدرجة الحرارة، ما يجعلنا نخاف كثيرًا إذا استمرت الحرب ــ لا سمح الله ــ وأتى فصل الصيف أن تنتشر أمراض أخرى بسبب الظروف السيئة الموجودة، مثل “السالمونيلا”، و”التيفوئيد”، وهي أمراض تكثر في فصل الصيف، خاصة وسط اكتظاظ سكاني غير مسبوق. كما ثمّة قلق من وجود أمراض أخرى حاليًّا لم تسنح الفرصة لتشخيصها وإجراء اللازم لذلك، كمرض “السل” الذي من الممكن أن ينتشر كثيرًا في حال وجود إصابة واحدة عند شخص ما يعيش مع مجموعة كبيرة من النازحين، وبالتالي قد يسبب انتشارًا كبيرًا للمرض بأعداد كبيرة وبفترة زمنية قصيرة. وفيما تتمنّى شمس الدين انتهاء الحرب لإجراء معالجة سريعة لكل الظروف السيئة التي يعاني منها الغزاويون، ترجّح زيادة الأمراض الوبائية نظرًا للظروف السيئة والتغير المناخي الذي سيحصل في الأشهر القادمة.
أرقام “باهتة” أمام الواقع
يُفصّل الباحث في دراسات اللاجئين الدكتور جابر سليمان الواقع الاجتماعي والاقتصادي بالأرقام، مستندًا إلى أبرز الدراسات التي قاربت الواقع الغزاوي. لكنّ سليمان الذي يتحدّث بشفافية مطلقة يقول بداية: “إنه في ضوء ما يجري من إبادة جماعية في قطاع غزّة، يصعب الحديث عن مجرد أزمة إنسانية أو تداعيات اجتماعية للحرب، لأن هذه الحرب ليست كأي حرب أخرى شهدناها منذ الحرب العالمية الأولى حتّى الآن”. وفق قناعاته، هي ليست مجرد أزمة إنسانية كالأزمات التي شهدناها في القرن العشرين. والمفارقة أنّ الحديث عن وقف إطلاق النار في غزّة بات إشكالية رغم أنه في كلّ الحروب يُعتبر مسألة بديهية، حيث تسارع الأطراف والمجتمع الدولي لوقف إطلاق النار بين المتحاربين، أضف إلى أنّ مسألة إدخال المساعدات الإنسانية أصبحت تفاوضًا مع أنها واجب قانوني والتزام قانوني سواء على الكيان المحتل أو المجتمع الدولي، بحسب التزامات ومبادئ القانون الدولي.
لكن ما يجري ــ وفق سليمان ــ هو محاولة لاستخدام الأزمة الإنسانية كسلاح واستخدام المدنيين للضغط على المقاومة، وهذا يُحيلنا إلى قرار محكمة “العدل” الدولية الأخير، والأوامر الستة التي أظهرتها المحكمة وخاصة ذلك المتعلّق بإلزام “إسرائيل” بتسهيل دخول المساعدات منعًا لحصول الإبادة الجماعية، لكن المجتمع الدولي و”إسرائيل” لا يوليان أي اهتمام بهذا الأمر ويضربان عرض الحائط بكلّ قرارات ومبادئ القانون الدولي.
وعليه، فإنّ ما حصل هو قتل كلّ مقوّمات الحياة، وإبادة السكان والمكان، وتدمير المنازل وكلّ البنى التحتية، لذلك فإنّ أي حديث عن تداعيات الأزمة والأرقام التي تطرحها المنظمات الدولية المعنية مثل البنك الدولي وبرنامج الغذاء العالمي وغيرهما، كلها أرقام لا تعكس نبض وحقيقة الواقع أمام جريمة الإبادة الجماعية، ليصبح الرقم هنا باهتًا غير محمّل بالمعاني التي يحملها الواقع فعلًا.
ورغم أنّ الأرقام لا تُحاكي كما أسلفنا الواقع الذي يفوقها كمًا وتقديرًا، إلا أنه من المفيد إدراجها لتقريب الصورة قدر الإمكان. وفي هذا السياق، يوجز سليمان ما يجري بالإشارة الى الآتي:
– من الناحية الاجتماعية، بلغ التهجير وتدمير البنى التحتية مستوى خطيرًا. وبحسب معطيات “اليونيسيف”، فإنّ نحو 20 ألف طفل وُلدوا في قطاع غزة في ظل الحرب. وقد عبّرت المتحدّثة باسم المنظمة تيس إنغرام عن حجم المعاناة لافتة الى أن الأمومة يجب أن تكون مناسبة للاحتفال لكنها في غزة تعني أن طفلًا آخر يخرج الى الجحيم، وأن هناك طفلًا يولد كل 10 دقائق وسط الحرب المروعة. وتقدّر “اليونيسيف” أن 1.09 مليون شخص هجروا داخليًا، نصفهم من الأطفال ومعظهم من هُجّر إلى أكثر من منطقة. بالأساس، سكان غزة هم لاجئون منذ العام 1948، والآن هم نازحون من الشمال الى الجنوب، ومن الجنوب الى الوسط الى الشمال ويتعرضون للقصف.
كما تشير تقديرات “الأونروا” في تقرير لشهر شباط 2024 إلى أنّه “حتى 5 شباط نزح أكثر من 1.7 مليون شخص أي أكثر من 75 بالمئة من السكان، وبعضهم نزح أكثر من مرة”.
وقد أفادت اللجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات الأممية المعنية بالعمل الإنساني، في تقرير لها في شهر شباط أنّ أكثر من ثلاثة أرباع السكان أجبروا على ترك منازلهم عدة مرات، وهذا يتقاطع مع تقرير “الأونروا” و”اليونيسيف”، كما يواجهون نقصًا حادًا في المياه والغذاء والصرف الصحي والرعاية الصحية، وهي الضرورات الأساسية للبقاء على قيد الحياة. وهنا، يكرّر سليمان أنّ ما يجري أكثر من الأرقام والمعطيات، وما يجري إبادة تصبح إزاءها الأرقام “باهتة” ولا تعبر حقيقة عما يحصل في غزة.
– من الناحية الاقتصادية، صدر عن قسم الإحصاءات الاقتصادية في الجهاز المركزي الفلسطيني تقرير يفيد أنّ 90 بالمئة من المنشآت الاقتصادية توقف عن العمل بسبب التدمير أو عدم توافر المقومات للعمل، وتجاوز معدل البطالة الـ75 بالمئة بعد أن كان 45 بالمئة قبل الحرب. 148 ألف عامل توقفوا عن العمل بسبب تدمير البنى التحتية وتوقف الإنتاج. ومن المتوقّع أن ترتفع نسبة الفقر الى حوالى 90 بالمئة. وفي الشهر الأول من الحرب قُدّرت خسائر البنى التحتية والمنشآت بما يزيد عن 3 مليارات دولار، كما أن 50 بالمئة من الوحدات السكنية والمباني جرى تدميرها بشكل كامل أي نحو 200 ألف وحدة وذلك خلال الشهر الأول من الحرب، فما بالنا بالوضع اليوم؟ يسأل سليمان.
– من الناحية الغذائية، يشير تقرير شباط لبرنامج الغذاء العالمي الذي أتى تحت عنوان “الهشاشة الغذائية” إلى أنّ الوضع خطير على نحو خاص في شمال غزة، وأن المساعدات لم تصل منذ عدة أسابيع وأن 15.6 بالمئة أي واحد من كل ستة أطفال دون سن الثانية يُعانون من سوء التغذية الحادة، ومن بين هؤلاء الأطفال يعاني ثلاثة بالمئة من “الهزال الشديد” أي من أكثر أشكال سوء التغذية تهديدًا للحياة. وفق سليمان، كانت نسبة “الهزال الشديد” في قطاع غزة قبل الحرب نادرة أي أقل من 1 بالمئة بين الأطفال دون سن الخامسة. أما اليوم، فيُواجه نحو 90 بالمئة من الأطفال دون سن الثانية، و95 بالمئة من الحوامل والمُرضعات فقرًا غذائيًا حادًا، كما أنّ 95 بالمئة من الأسر تحدّ من عدد وجبات الطعام وحجمها، حيث تتناول 64 بالمئة من الأسر وجبة واحدة في اليوم، كما أنّ 95 بالمئة من الأسر قللت كمية الطعام التي يتلقاها البالغون لضمان حصول الأطفال على الغذاء، كما أنّ 90 بالمئة من الأطفال دون سن الخامسة يُصابون بمرض معدٍ واحد أو أكثر.
– من الناحية النفسية، ثمّة الكثير من الآثار النفسية التي تُحيط بالأسر خصوصًا أنّ هناك أطفالًا فقدوا أسرهم بالكامل، وباتوا بلا أسرة ما أدى الى تشتتهم، ومعظم الأطفال في غزة يُعانون من صدمات نفسية توثّقها الحكايات التي يتم تداولها أكثر من الأرقام، كما أنّ هناك آثارًا نفسية على الحوامل.
وفي معرض حديثه، يشدّد سليمان على أنّ هذه الحرب غير مسبوقة، فالمأساة الإنسانية بلغت حدًا لم نشهده في أي أزمة، لا في الحرب العالمية الأولى ولا الثانية، لا في البوسنة ولا الهرسك ولا إفريقيا. وبحسب سليمان، فإنّ ما هو غير مسبوق أيضًا هو صمت المنظمات الدولية وعجزها، فهذه المنظمات لا تقوم بالدور الواجب عليها، وما يجري هو محاولة لخلق نكبة ثانية للفلسطينيين، إذ إنّ هناك قانونًا دوليًا يُطبق على كل العالم وآخر فقط للكيان الصهيوني. وفي ختام مقاربته، يُعيد سليمان ويؤكّد أنّ التقارير والأرقام لا تعكس الواقع الذي هو أكثر مأساوية وتفاقمًا، ولكن صمود أهل غزة أسطوريًا، فهو شعب جبار، وهنا يأمل سليمان أن يكون التحرير بلا ثمن وأن تزهر دماء شهداء أهل غزة وشهداء الجنوب اللبناني حرية، وأن تنتصر المقاومة في فلسطين ولبنان.
* المصدر: موقع العهد الإخباري
* المادة نقلت حرفيا من المصدر