السياسية:

حينما يردد البعض أن معركة “طوفان الأقصى” قد أسقطت كل الأقنعة، وأظهرت حقيقة الوجوه والأهداف، فإن هذا يردّنا إلى ضرورة التأسيس النظري لما تعارف عليه المجتمع البشري الحديث بما يسمّى المشروعات التي ترتكز عليها الدول والحكومات في عالمنا المعاصر، وخصوصاً في عالمينا العربي والإسلامي.

فمنذ أن انتقلت التجمعات البشرية من العلاقات التي تحكمها حقائق القوة وغلبة العنف والسلاح (سواء بين القبائل أو المجموعات أو التجمعات البشرية المتجاورة، أو حتى داخل القبيلة الواحدة أو العشيرة الواحدة) إلى حالة المجتمعات التي تحكمها الحكومات الحديثة بالمعنييْن القانوني والسياسي، تغيرت الأسس التي ترتكز عليها هذه الدول والحكومات والمجتمعات، وباتت ترتكز على ثلاثة أسس فيما أطلق عليه المشروعية Legislation التي هي:

أولاً: المشروعية الدستورية أو القانونية (Constitutional Legislation).

ثانياً: المشروعية السياسية (Political Legislation).

ثالثاً: المشروعية الأخلاقية. (Ethics Legislation)

فالأولى هي تلك التي تحترم فيها العلاقة التعاقدية بين الحكام والمحكومين، والتي يُعبّر عنها بالدستور أو القوانين التي تنظم إدارة شؤون المجتمع الدولي، فتضمن للأفراد والجماعات حقوقهم، وتلزم الحكومات بالانتقال السلس والسلمي للسلطة في ظل قواعد متعارف عليها ومحل قبول عام.

وبصرف النظر عن نوع سلطة الحكم (جمهورية كانت أم ملكية)، فإن وجود تلك القواعد واحترامها والقبول بها من الغالبية الساحقة من أفراد وجماعات ذلك المجتمع تضمن لهذا المجتمع والدولة درجة كبيرة من الاستقرار والسلام الداخلي.

وبقدر ما يلتزم الحاكم والحكومات بهذه القواعد بقدر ما يضمن سلامة المسار ويحفظ التوازن، خصوصاً حينما يشمل هذا المجتمع مكوّنات عرقية أو ثقافية أو طبقات اجتماعية مختلفة.

بيد أن خروج هذا الحاكم أو هذه الحكومة عن هذه القواعد والتلاعب بأحكام الدستور من أجل تحقيق أغراض ضيقة: مثل إطالة أمد فترات الحكم، أو الانتقاص من حقوق فئات أو أعراق لصالح فئات أو أعراق أخرى؛ كل ذلك يؤدي مباشرة إلى سقوط إحدى ركائز استقرار هذه الدولة وهذا الحاكم، ومن شأنه أن يدخل هذا المجتمع في حالة من الاضطرابات، وأحياناً التمرد والثورة.

أما الثانية (المشروعية السياسية) فهي تتحدد في شكل وطريقة إدارة هذه الدولة أو هذا المجتمع، ومدى كفاءة هذه الإدارة التنفيذية والسياسية مثل: نظم الانتخابات الدورية (الرئاسية أو التشريعية أو البلدية المحلية)، ونزولاً إلى انتخابات منظمات المجتمع المدني (اتحادات الطلاب والاتحادات الفلاحية والنقابات العمالية).

ومن شأن التلاعب في هذه القواعد التي غالباً ما ينظمها الدستور والقوانين نزولاً إلى اللوائح والقرارات الإدارية بمستوياتها كافة (قرارات جمهورية أو مراسم ملكية – قرارات وزارية – لوائح تنفيذية) أن يصيب في مقتل أحد أسس شرعية هذا الحاكم ونظامه.

وأخيراً، فإن المشروعية الأخلاقية هي التي -غالباً -لا تكتب في وثائق، ولا تصدر في صورة قوانين أو لوائح، وإنما تستمد من حالة قبول ورضا عام Satisfaction من أفراد المجتمع عن هذا الحكم وهذه الحكومة وهؤلاء الحكام، وبرغم أن هذه المشروعية الأخلاقية لا تحفظها قوانين ولا دساتير فإنها تعد الأهم والأخطر.

فحالة الرضا العام Public Satisfaction هي وليدة الثقافة العامة السائدة والضمير الجمعي لأفراد المجتمع، والقبول العام بالأهداف والأغراض العليا المنظمة لقطاعات الشعب بكافة مكوناته مثل: ضرورة احترام القوانين وعدم الخروج عنها، وكذا مكافحة الفساد ونهب المال العام أو إهدار الحكام لثروته، وكذلك احترام رغبات الناس وقيمهم العليا مثل الدفاع عن الأمة والتضامن مع المظلومين والمجاهدين من أجل استرداد حقوقهم أو استقلال بلدانهم. ويزيد الأمر تعقيداً وتركيباً وتداخلاً حينما يركز في الضمير الجمعي لهذا الشعب أن مصالح هذه الشعوب المظلومة أو المستعمرة – مثلما هي حالة فلسطين حالياً أو الجزائر فيما مضى… وغيرهما – هي جزء لا يتجزأ من أمن هذا الشعب واستقلاله.

ومن هنا، فإن قضية تحرير فلسطين – ومن قبلها الجزائر واليمن والسودان وتونس والمغرب.. إلخ – قد استقرت في ضمير ووجدان كل الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم في شرق الدنيا وغربها، وقد باتت واحدة من أسس المشروعية الأخلاقية لحكام هذه الشعوب وحكوماتهم، والخروج عليها والمساس بها – كما فعل ويفعل بعض الحكام العرب منذ اتفاقيات “كامب ديفيد” و”وادي عربة” و”أوسلو” حتى ما يسمّى “الاتفاقيات الإبراهمية” – هو في الجوهر والعمق مساس بمشروعية هذه الحكومات الأخلاقية في نظر العقل الجمعي والضمير الحيّ لهذه الشعوب العربية والإسلامية، حتى لو بدا على السطح أن هناك هدوءاً بما يوحي بالقبول، أو صمتاً بما ينحني أمام عنف السلطة وأدواتها القمعية الشديدة.

منذ تلك اللحظة، ينقطع الخيط الرفيع بين هذه الحكومات والحكام وبين شعوبهم، أو فلنقل الغالبية الساحقة من شعوبهم. وغالباً ما تعمى بصيرة هؤلاء الحكام وبصر هذه الحكومات عن رؤية هذا الانقطاع الذي يتحول يوماً بعد يوم وشهراً وراء شهر إلى قطيعة كاملة بين الشعوب وحكامهم، تنتظر لحظة استثنائية لتنفجر في صورة تمرد اجتماعي أو ثورة سياسية تماماً كما حدث في “ثورات الربيع العربي النبيلة”.

“طوفان الأقصى”.. وأزمة المشروعية الأخلاقية العربية والغربية
صحيح أن أزمة المشروعية الأخلاقية في معظم أنظمتنا السياسية العربية قد سقطت منذ زمن بعيد -ناهيك بالمشروعيات الدستورية والسياسية -بيد أن الجديد أن كل المشروعيات الأخلاقية للغرب الأوروبي والأميركي المتلطية بشعارات “حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير وحقوق الطفل وحقوق المرأة ومواثيق جنيف الأربعة والقانون الدولي الإنساني” قد سقطت دفعة واحدة في وحل العنصرية البغيضة التي كشفت عنها أزمتا الحرب الروسية في أوكرانيا (فبراير/شباط 2022) وحرب الإبادة الصهيونية في غزة والضفة الغربية وفي فلسطين عموماً.

هذا السقوط جاء بسبب حقائق عديدة:

الحقيقة الأولى: أن جريمة الإبادة ضد الإنسان الفلسطيني كانت على الهواء مباشرة بالصوت والصورة، في كل ساعة، وفي كل ثانية، بل وفي كل لحظة؛ بحيث لن يكون من الممكن الدفع بالإنكار أو عدم العلم بما جرى ويجري.

الحقيقة الثانية: أن هذا الغرب الأوروبي والأميركي قد شارك مباشرة فيها؛ بتقديم أفظع وأقوى الأسلحة والمقذوفات والقنابل والصواريخ إلى الكيان الإسرائيلي ليمارس القتل من دون هوادة، وخصوصاً الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا، أو من خلال التعمية والتغطية الإعلامية الغربية عن هذه الجرائم اليومية، بل وأحياناً توفير الغطاء والدعم الإعلامي لهذه الجريمة الموصوفة، وكذلك من خلال الدعم المالي بعشرات المليارات من الدولارات واليوروات إلى “إسرائيل” القاتلة، وأخيراً عبر توفير المظلة السياسية والدبلوماسية لجرائم القتل والإبادة باستخدام حق النقض ( الفيتو ) الأميركي في مجلس الأمن لمنع إصدار قرار بوقف إطلاق النار أو المذبحة فوراً.

الحقيقة الثالثة: أن هذه الجريمة لم تشمل البشر فقط، وقد بلغوا حتى تاريخ كتابة هذه السطور في 21/2/2024 نحو 29 ألف شهيد (بينهم نحو أربعة عشرة ألف طفل، وتسعة آلاف من النساء)، وأكثر من 68 ألف مصاب وجريح مقدر للكثيرين منهم الموت، ومن بين هؤلاء وأولئك عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، وزاد عليها تدمير المستشفيات إذ لم يبق من أصل 36 مستشفى في قطاع غزة سوى ثلاثة عشر فقط تعمل بصورة جزئية، وإعدام كثير من المرضى والجرحى، وطرد النازحين بمئات الآلاف إلى حضن هذه المؤسسات الصحية للحماية، فإذا بهم أصبحوا مطرودين منها ومطاردين بعد تدميرها واقتحامها من جانب قوات “الجيش” البربري النازي، ويضاف إلى ذلك تدمير عشرات المدارس التي ترفع راية الأمم المتحدة ( الأونروا ) على من فيها من النازحين والهاربين من جحيم القتل الوحشي والقصف الجوي غير المسبوق في تاريخ الحروب.

هذا علاوة على قتل أكثر من 400 شخص من كوادر الأطقم الطبية، واعتقال أكثر من 130 آخرين منهم، وقتل عشرات المسعفين، واستهداف وتدمير نحو 150 سيارة إسعاف وتحويلها إلى ركام ومقبرة لراكبيها.

وإخراج 53 مركزاً صحياً عن الخدمة، كما استهدف “جيش” الاحتلال النازي 150 مؤسسة صحية خاصة بشكل جزئي، واغتيال أكثر من 145 صحفياً وعائلاتهم.

نسبة هؤلاء الضحايا الفلسطينيين قياساً على عدد سكان قطاع غزة البالغ أقل من 2.5 مليون نسمة تبلغ (1.16% شهداء و 2.72% جرحى ومصابين ) إذا حسبناهم بالنسبة والتناسب فهذا يعادل قتل أكثر من 750 ألف ضحية في فرنسا ( البالغ عدد سكانها 64.7 مليون نسمة ) والجرحى 1.76 مليون جريح، أو يعادل سقوط 1.7 مليون ضحية في روسيا ( البالغ عدد سكانها 144.7 مليون نسمة ) وإصابة 3.9 مليون مصاب أو جريح، أما الولايات المتحدة فإن هذه النسبة تعادل قتل 3.9 مليون ضحية ( البالغ عدد سكانها 331.9 مليون نسمة ) وإصابة 9.0 مليون جريح، أما في مصر فهذه النسبة تكاد تعادل 1.2 مليون قتيل، ونحو 2.9 مليون جريح ( لعدد سكانها البالغ 105.0 مليون نسمة ).

الحقيقة الرابعة : وإذا أضفنا إلى كل هؤلاء الضحايا وجود نحو 13 ألف جريح بحاجة إلى السفر للعلاج إنقاذاً للحياة، وأكثر من 10 آلاف مريض سرطان يواجهون خطر الموت، علاوة على 400 ألف آخرين مصابين بالأمراض المعدية نتيجة النزوح (منهم ثمانية آلاف حالة عدوى بالتهابات الكبد الوبائي الفيروسي) ونحو 60 ألف سيدة حامل مُعرّضة للخطر لعدم توفر الرعاية الصحية، ونحو 350 ألف مريض مزمن معرضين للخطر بسبب عدم إدخال الأدوية خصوصاً أمراض السكري والضغط والقلب، وإذا أضفنا إلى كل هذا تدميراً شاملاً وكاملاً للبنية التحتية والتعليمية من قبيل تدمير 140 مقراً حكومياً و99 مدرسة وجامعة جرى تدميرها تدميراً كلياً، و295 مدرسة وجامعة جرى تدميرها تدميراً جزئياً، وتدمير 161 مسجداً للعبادة تدميراً كلياً، و253 مسجداً جرى تدميره تدميراً جزئياً، وبالمثل تدمير ثلاث كنائس، وأكثر من 80 ألف وحدة سكنية جرى تدميرها تدميراً شاملاً بحيث لم تعد موجودة، علاوة على 350 ألف وحدة سكنية جرى تدميرها تدميراً جزئياً بحيث لم تعد تصلح للسكن، وتدمير 200 موقع أثري وتراثي، وتهجير أكثر من مليون شخص من أماكن إقامتهم في شمال ووسط قطاع غزة زحفاً إلى الجنوب، حيث حشروا حشراً في مدينة رفح المجاورة للحدود المصرية؛ تمهيداً لعملية الدفع بهم تقتيلاً وتهجيراً إلى خارج حدود قطاع غزة.

لقد بلغ إجمالي ما أسقط من قنابل وصواريخ على هذه المساحة المحدودة والكثيفة بالسكان أكثر من 80 ألف طن من المتفجرات، أي بما يكاد يعادل أربعة أضعاف القنبلة الذرية التي ألقتها القوات الأميركية على هيروشيما في نهاية الحرب العالمية الثانية.

الحقيقة الخامسة: أن هذه الحكومات الغربية الاستعمارية لم تكتفِ بهذا الدور الإجرامي المشارك في جريمة إبادة العصر ومحرقة غزة، بل زاد عليها أنها ضغطت أو طلبت من أنظمة حكم عربية محيطة بفلسطين أن تتوقف عن تقديم المساعدة ومرور شاحنات الإغاثة، وفرضت نظاماً غريباً وغير موصوف (فيما يسمى القانون الدولي وقانون الحروب) بأن تقوم هذه الدول والحكومات العربية بإرسال شحنات الإغاثة بعد موافقة مضنية إلى الجانب الإسرائيلي ليتولى التفتيش والتعطيل واستكمال حرب التجويع والتعطيش والحرمان من الأدوية والعلاج، بل زاد عليها أن تلزم هذه الدول والحكومات بأن ترسل قوائم الجرحى المطلوب إخراجهم من قطاع غزة للعلاج في الخارج إلى الاستخبارات الإسرائيلية لمراجعة تلك الأسماء والموافقة على القليل منها بعد مماطلة ورفض آلاف الجرحى الآخرين ليُترَكوا للموت البطيء!

كل هذا كان يجري على مسمع ومرأى من الشعوب العربية والشعوب الإسلامية وأحرار العالم في آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية وغيرها فسقطت كل المشروعيات الأخلاقية هنا وهناك، ولم يعد من الممكن الدفع بعدم العلم أو عدم القدرة، وإنما كانت المشاركة بالفعل الإجرامي أو المشاركة بالصمت والقبول.

هكذا سقطت المشروعيات الأخلاقية لحكومات وبرلمانات الغرب الاستعماري وكذا للحكومات العربية والإسلامية التي شاهدت وسمعت ولم تتحرك وتغيث.

وهنا، على العقل العربي أن يفكر من الآن فصاعداً في إجابة عن السؤال التالي: ماذا لو انفجرت الساحات العربية التي صمتت حكوماتها أو تآمرت أنظمتها مع حرب الإبادة في غزة بثورات الشعوب من جديد؟

علينا أن نفكر بعمق وضمير.

* المصدر: الميادين نت
* المادة نقلت حرفيا من المصدر