السياسية:

لكل حرب بعدان متكاملان ومتوازيان: أولهما ما يجري في ساحة القتال العسكري وميادينه، والثاني هو النتائج والتداعيات السياسية التي يسفر عنها القتال والعمل الميداني. هكذا هي الحروب، في المعنى الواسع للكلمة، ينطبق عليها منذ خلق الله الأرض ومن عليها وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وحينما تكون معارك الصدام بالدم والنار جارية بين أطرافها وفي مسارح العمليات، ينشغل العقل السياسي والاستراتيجي بالبحث في الجوانب التي سوف تُنتجها الحرب مع وضع كل الاحتمالات والسيناريوهات الممكنة موضع الاعتبار والتقدير، وخصوصا إذا كانت مجريات القتال في الميدان تبدو غير حاسمة أو يشوبها كثير من الغموض والالتباس.

من هنا، تأتي أهمية تحليل هذه الاحتمالات (السيناريوهات) وبناء التقديرات، وإماطة اللثام عما يكتنفها من غموض. ويخضع أسلوب السيناريوهات ومنهجها لما أصبح يسمى الدراسات المستقبلية، أو علم المستقبليات Futurology، التي تعرف بأنها الاتجاهات التحليلية المجمعة باستخدام وسائل مهنية متخصصة لوضع ملامح للتوقعات الاستراتيجية والمستقبل المحتمل.

فدراسات المستقبل هي محاولة لامتلاك نظرة منهجية منظمة systemic تستند إلي الوقائع والمعطيات المباشرة، وتأخذ في الحسبان العوامل الاجتماعية والتكنولوجية والاقتصادية والبيئية والسياسية للتنبؤ بملامح المستقبل. وتزداد صعوبة الدراسات المستقبلية في ظل الصراعات العسكرية والاقتصادية والسياسية المركَّبة، والتي تشارك فيها أطراف متعددة (بعضها بصورة مباشرة، وبعضها الآخر غير مباشر)، الأمر الذي يجعل عملية بناء السيناريوهات والاحتمالات من أصعب الدراسات وأكثرها تعقيداً.

وهنا يجب أن نشير إلى ملاحظتين منهجيتين في التعامل مع أسلوب السيناريوهات:

الملاحظة الأولى: أن السيناريوهات هي في طبيعتها أساليب تُتَّبَع في ظل:

1- نقص كبير في بعض المعلومات الحيوية.

2- تعدد الأطراف المشارِكة في الظاهرة، وتفاوت أوزانها النسبية، على نحو يؤدي إلى تعدد الاحتمالات.

3- عدم اليقين بنيّات بعض الأطراف أو الخصوم.

4- مراعاة عنصر المفاجآت الذي يغلب أحيانا في حالة الدولة غير المؤسسية والمجموعات غير النظامية.

الملاحظة الثانية: في عملية بناء السيناريوهات وتحليل المسار والمستقبل للصراعات الدامية – كتلك التي نشهدها في المسرح الأوروبي حالياً، أو في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلين – يجب أن نراعي عدة عناصر أساسية، مثل:

أ- عنصر الزمن أو الوقت، والذي من المقدَّر أن تستغرقه الأزمة.

ب_ عامل المساحة التي تجري فيها الحرب أو الصراع متعدد الأوجه، واحتمالات توسُّعه.

ج- الأساليب والأدوات المستخدَمة في الصراع وتأثيراتها (العسكرية – الاقتصادية – الإعلامية – السياسية – الثقافية… إلخ).

د- عامل التنظيمات المشاركة في الصراع وتفاوت فعّاليتها: دول وحكومات، تنظيمات غير نظامية مقاومة، تجمعات شعبية ودوائر رأي عام عالمي، صحافة ووسائل إعلام ووسائل تواصل اجتماعي، تنظيمات أممية… إلخ.

مع ملاحظة منهجية ضرورية، هي الحذر من اتباع واستسهال المقارنات في الأحداث والوقائع التاريخية كتطبيق نتائج صراعات مماثلة من حيث الشكل: من قبيل الصراع في فيتنام في منتصف الستينيات، أو الصراع في أفغانستان في مطلع الألفية الثالثة، أو الغزو والاحتلال الأطلسي والأميركي للعراق عام 2003… وهكذا.

ما السيناريوهات والاحتمالات القائمة لمسار هذا الصراع في المدَيَين: القريب والبعيد؟
الحقيقة أن هذا الصراع الدموي المعقَّد – في أبعاده المتعددة – يسير في أحد الاحتمالات أو السيناريوهات scenarios الأربعة التالية:

السيناريو الأول: الحرب الطويلة والاستنزاف المتبادل
الحقيقة أن هذا السيناريو مرهون تحقيقه بتوافر عدة عناصر: أولها استمرار هذه الحكومة اليمينية النازية العنصرية الحاكمة في “تل أبيب”، برئاسة بنيامين نتنياهو، وشركائه النازيين الجدد (بن غفير – سموترتش – غالانت)، وتماسك التشكيلة الحكومية تلك لأسباب داخلية، وغلبة التيار اليميني العنصري المتطرف على التركيبتين السياسية والاجتماعية في هذا الكيان.

ثم، فإن قرار الحرب والاستمرار فيها هما، في الوقت نفسه، استمرار لهذه الحكومة وتماسك موقفها. من هنا، حتى لو تزايدت ضغوط الرأي العام العالمي وتصاعدت الأصوات الرسمية في بعض الدول الأوروبية (إسبانيا – بلجيكا – النرويج – الدنمارك… إلخ)، أو قضت محكمة العدل الدولية بضرورة وقف تلك المذبحة وسرعة تقديم المساعدات الإغاثية إلى سكان قطاع غزة، فسيظل الموقف الأميركي معانداً وثابتاً عند تأييد الكيان الإسرائيلي لأسباب متعددة، بعضها داخلي وبعضها الآخر له علاقة بالصراع العالمي الدائر حالياً وتديره أميركا، سواء في أوكرانيا أو الشرق الأوسط أو المحيطين الهندي والباسيفيكي.

كما أن المؤسسة العسكرية، التي ذاقت هزيمة من نوع جديد ومغاير في تاريخها، ترغب في استرداد جزء من هذه الهيبة وصورة الردع التي تأكّلت يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر. وما دامت هذه المؤسسة لم تفتح عليها الجبهة الشمالية من جنوبي لبنان، فإنها تستطيع تحمل هذه الخسائر الفادحة في الأفراد والآليات التي تسببت بها فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة لفترة من الزمن قد تطول عدة أشهر، وخلالها تتحول غزة إلى ركام ومقبرة جماعية كبرى مع استمرار قوى المقاومة وفصائلها ثابتة وقادرة على تكبيد العدو خسائر يومية مؤلمة.

السيناريو الثاني: الحرب الإقليمية
هذا السيناريو مرتبط ظهوره وتحقيقه بشرط واحد، هو دخول حزب الله الحرب بكامل قوته، وسائر فصائل المقاومة العراقية، وصلابة الموقف اليمني واستمراره في حصار “إسرائيل” بحرياً، من باب المندب.

وهنا، لن تستطيع “إسرائيل” تحمل قصف مكثف يتجاوز عدة آلاف من الصواريخ يومياً على كل مدن فلسطين المحتلة، مع عمليات عسكرية ميدانية في الجليل الأعلى ومستعمرات شمالي فلسطين.

وعلى رغم التهديدات الأميركية والغربية فإن المؤكد أن آلة العمل الدولي، سياسياً ودبلوماسياً، سوف تتحرك بكثافة من أجل وقف شامل لإطلاق النار في كل الجبهات، والبحث عن صيغة لتسوية سياسية موقتة، إلا إذا نجح تحالف محور المقاومة في الضغط أكثر من أجل دفع الأطراف الغربية المساندة لـ”إسرائيل” – وخصوصاً الولايات المتحدة – إلى إيجاد حل سياسي مقبول للقضية الفلسطينية، ولو في صيغة ما يسمى الدولتين.

السيناريو الثالث: الهزيمة السياسية بطعم العسكرية
يرتبط هذا الاحتمال أو السيناريو بمدى قدرة المجتمع الإسرائيلي ومكوناته المتعددة على تحمل قدْر غير محتمل من الخسائر البشرية من جراء عمليات المقاومة الفلسطينية الباسلة، والتي أبدت بطولة غير مسبوقة من قبلُ في الصراع العربي الصهيوني، والفلسطيني الصهيوني.

وهذا سوف ينعكس على تفجر حدة الخلافات والانقسامات في الشارع الإسرائيلي، وخصوصاً أن هذه الحكومة اليمينية العنصرية النازية (التي لم يُشهد لها مثيلٌ في تاريخ هذا الكيان) ليست محل قبول عام حتى قبل هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، بحيث شهد هذا الكيان انقساماً حاداً وعمودياً، استمر أكثر من ستة وثلاثين أسبوعاً متواصلة منذ كانون الثاني/ يناير حتى قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر في مظاهرات واحتجاجات ضد خطة التغييرات والانقلابات القضائية التي قدمتها هذه الحكومة إلى الكنيست، وجرت قراءتها مرتين تمهيداً لإقرارها في القراءة الثالثة، التي لم تكتمل بسبب هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر.

وعلى رغم أن الرغبة في الثأر والانتقام من حماس وفصائل المقاومة هي التي أعادت لحمة هذا الشارع العنصري الاستيطاني، فإن قدرته على تحمل هذا النوع من الصراع القاتل والطويل الأمد محل شك كبير. من هنا، فإن الاحتمال يظل قائماً في تفجر هذا التشكيل الحكومي النازي، وتحديد موعد جديد للانتخابات التشريعية.

صحيح أن هذا لن يوقف حرب الإبادة التي تمارسها “الدولة” النازية، عبر مؤسساتها السياسية والعسكرية، بيد أنه قد يفتح الطريق لنوع جديد من المفاوضات والتسوية السياسية، وخصوصاً مع تصاعد الضغوط الدولية والشعبية، وتفكك الموقف الأوروبي الموحَّد تجاه الحرب، والنظرة السلبية الشديدة، والتي تنظر وفقاً لها قطاعاتٌ واسعة جداً من الرأي العام العالمي ضد “إسرائيل”.

في كل الأحوال، فإن قضية إعادة إعمار غزة، في المعنى الإنساني والسكاني والإسكاني، وبالنسبة إلى البنية التحتية، سوف تكون إحدى قضايا الصراع، دولياً وإقليمياً، ليس على صعيد التكاليف المادية والمالية فحسب، وإنما على النطاق الزمني، والذي من المقدر أن يستغرق من عشرة أعوام إلى خمسة عشر عاما كاملة.

وسوف نشهد فيها كثيراً من المناورات المؤلمة، خليجياً وأوروبياً وأميركياً، من أجل انتزاع مواقف سياسية قد تكون الجرائم العسكرية لم تفلح بعد في تحقيقها، وخصوصاً ما يتعلق منها بموقع منظمة حماس وسائر فصائل المقاومة في البنية السياسية الفلسطينية مستقبلاً.

في أيّ حال، إنها محاولة أولية للقراءة وسط الغيوم وركام الدمار ورائحة الموت والخراب، وأيضاً من بين بطولات أسطورية لشعب عانى الاحتلال والظلم والتهجير طوال أكثر من مئة عام، وتكالبت عليه المؤامرات من القريب والشقيق قبل البعيد والغريب، علها تفتح أفقاً لنقاش وتفكير واسعين بين النخب الوطنية المتخصصة بمثل تلك الدراسات.

إن هذه السيناريوهات أو الاحتمالات، أو بعضها بالطبع، مجرد محاولات فكرية للوصول إلى تصور مستقبلي لأفق تسوية لصراع له انعكاسات عالمية، وستكون معالم المشهد العالمي وملامحه بعده مغايرةً تماماً لما قبله.

* المصدر: الميادين نت
* المادة نقلت حرفيا من المصدر