السياسية:

بات من الثوابت في التعاطي مع أميركا والعدو الصهيوني والأنظمة الرسمية العربية، أن الوسيلة المثلى للتعاطي معهم تكون من خلال الممارسات العملية والميدانية وليس من خلال التقارير ولا التسريبات ولا حتّى التصريحات.

وتحديدًا بعد طوفان الأقصى، اتّسعت الفجوة بين التصريحات وبين الممارسات العملية، لتتسع معها رقعة الكذب والخداع لتشكل مناخًا سائدًا يلقي بظلال من الشك حول أي تصريح سياسي أو حتّى تعهدات دبلوماسية.

وهذا يفرض على المقاومين مناخًا احترازيًّا مضاعفًّا لأن أروقة السياسة باتت غرفًا عسكرية تمارَس فيها أساليب الحرب النفسية والخداع الاستراتيجي.

ومع الفشل الصهيوني والأميركي في القضاء على أهم ملفّين استراتيجيين تم الحشد العسكري والسياسي لهما، وهما القضاء على خيار المقاومة في فلسطين وتحديدًا غزّة، والقضاء على وحدة الساحات وتدخّل جبهات محور المقاومة في المعركة، فإن الحرب بدأت تأخذ أشكالًا أخرى أكثر خطورة وأكثر احتمالية للانزلاقات والاتجاه بمسار المواجهات الكبرى والشاملة.

ولعل “إسرائيل” بوجهها الحقيقي المتطرف وبقيادة حكومة الحمقى لا تقود الكيان فقط للانتحار، بل تقود أميركا للتورط وتقود الأنظمة الرسمية العربية باتجاه السقوط في الهاوية.

ولعل حدثين متزامنين يشكلان أحد مصاديق ذلك، والأول هو ما يتعلق بالضربة الأخيرة للمقاومة على البرج 22 القريب من قاعدة التنف التي تحتلها أميركا، وما صاحبها من ارتباك رسمي أردني في تناول الحدث وتناقض بين الروايتين الأميركية والأردنية، والثاني هو ما يتعلق بمؤتمر القدس المحتلّة والذي طالب باحتلال غزّة وتهجير الفلسطينيين والذي انعقد بمشاركة أكثر الصهاينة تطرفًا، وهما حدثان يؤكدان خطورة الوضع وبداية مرحلة جديدة تتسم بزوال الأقنعة وينكشف بها المستور وتكثر بها صواعق التفجير.

أولًا: فيما يتعلق بقصف الموقع الأميركي في الأردن:

فللمرة الأولى يتم الإعلان عن قتلى أميركيين وإصابة أكثر من ثلاثين عسكريًّا أميركيًّا، في قصف موقع بدا جديدًا على التقارير الإخبارية رغم قربه من قاعدة التنف التي تحتلها أميركا عند مثلث الحدود السورية الأردنية العراقية.

وهذا الموقع هو البرج 22 والذي لا يُعرف عنه سوى القليل، ولا يعرف على وجه الدقة عدد العسكريين الأميركيين في البرج، ولا يعرف أيضًا نوع الأسلحة والدفاعات الجوية الموجودة بداخله، وغابت أيضًا تفاصيل ما حدث في الهجوم الأخير.

وبالتالي فإن استهداف هذا الموقع يدل على رصد استخباراتي دقيق وعملية نوعية مؤلمة، واللافت أنها جاءت مربكة للحكومة الأردنية التي سارعت بنفي أن الضربة على أراضيها في تناقض مع الإعلان الأميركي الذي أكد أن العملية حدثت داخل الحدود الأردنية!

وعندما تصدر القيادة الوسطى الأميركية بيانًا يؤكد أن القاعدة في الأردن وتصدر تصريحات عن البيت الأبيض تقول إن مستشار الأمن القوميّ ووزيري الخارجية والدفاع ومدير السي آي إي ورئيس الأركان ونائب مستشار الأمن القوميّ وكبير مفوضي البيت الأبيض شاركوا بإحاطة الرئيس بايدن بالهجوم، ويقول بايدن إن الهجوم وقع في الأردن، فإن التفسير الوحيد المقبول للنفي الأردني هو أن الأردن لا يريد الاعتراف بوجود قواعد أميركية على أراضيه لأن التفسير الآخر سيكون مهينًا لأنه سيفيد أن الأردن لا يعرف حدوده أو أن أميركا تبني قواعد في أراضيه دون علمه!

ومن المعلوم والمعلن أن الحكومة الأردنية وقعت اتفاقًا مع الولايات المتحدة في المجال العسكري في كانون الثاني/يناير 2021 يتيح للقوات الأميركية “الوصول دون عوائق” إلى عدة منشآت عسكرية أردنية.

ويستضيف الأردن مئات المدربين الأميركيين وهو واحد من أكبر الحلفاء في المنطقة الذين يجرون تدريبات ممتدة مع القوات الأميركية على مدار العام.

ومنذ بداية الحرب على سورية في العام 2011، أنفقت واشنطن مئات الملايين من الدولارات لمساعدة الأردن في إنشاء نظام مراقبة متطور يعرف باسم برنامج أمن الحدود بهدف رئيسي هو قطع التواصل بين محور المقاومة في الجبهتين السورية والعراقية.

هذا الأمر يعد كشفًا لبعض مما يخبئه الأردن من قواعد، وهو مؤشر إلى أن هناك أنظمة أخرى وخاصة من المتعاونة مع القيادة الوسطى الأميركية لديها ما تخفيه وما سيتكشف تباعًا مع تطوّر الحرب وإصرار العدوّ الإسرائيلي على حماقاته وعدوانه وإصرار أميركا على قيادة هذه الحرب ودعمها ضدّ المقاومة ومحورها.

ثانيًا: ما يتعلّق بمؤتمر القدس المحتلّة:

رغم تصريحات النظامين المصري والأردني برفض التهجير وادعاءات أميركا بأنها ترفض تهجير الفلسطينيين، وتصريحات نتنياهو نفسه بعدم نية احتلال غزّة، إلا أن الممارسات العملية وتطورات الأزمة السياسية الداخلية الناجمة عن تراكم الفشل العسكري، تشي بتنفيذ ممنهج يدفع الفلسطينيين دفعًا للتهجير عبر سياسة الأرض المحروقة وتحويل غزّة لمكان غير قابل للعيش والدفع بأغلبية سكان القطاع باتجاه الحدود المصرية.

ناهيك عن العمليات اليومية الممنهجة في الضفّة ضدّ المخيمات وممارسات حركات الاستيطان المتطرفة بنهب الأراضي والعدوان على أهالي الضفّة.

وقد تم تنظيم المؤتمر الذي حضره 12 وزيرًا من حزب “الليكود”، إلى جانب وزيري الأمن الوطني والمالية، بن غفير وسموتريتش، وشارك بتنظيمه حركة “نحالا” التي تسعى للتوسع الاستيطاني لليهود في الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك الضفّة الغربية.

وافتتح المؤتمر رئيس مجلس مستوطنات شمال الضفّة، يوسي دغان، قائلًا: “اتفاق أوسلو مات، نحن عائدون إلى مستوطنة غوش قطيف”. وأضاف: “لقد ناضلنا معًا لمدة 16 عامًا من أجل تصحيح عار الانفصال والترحيل وتهجير المستوطنات”.

وقال وزير المال الصهيوني ، بتسلئيل سموتريتش، إن العودة إلى المستوطنات في غزّة تعني الأمن، وأشار بن غفير، إلى أن إخلاء المستوطنات اليهودية في غزّة سيتسبب في تزايد الهجمات على المدن الصهيونية الجنوبية.

وطالب مئات المستوطنين الصهاينة في المؤتمر بإعادة بناء المستوطنات في غزّة والجزء الشمالي من الضفّة الغربية المحتلّة.

والأمر هنا ليس بسيطًا بلحاظ أمرين:

1 – ائتلاف نتنياهو الحاكم وسعيه لإرضائه والتورط في مزيد من الحماقات لإنقاذ تحالفه مع سموتريتش وبن غفير

2 – وزير الحرب الحالي كان من الموقعين على تعهد في 5 شباط/فبراير 2019، وقعه عشرات الوزراء وأعضاء الكنيست من الليكود وأحزاب يمينية أخرى بمبادرة من حركة “نحالا” للترويج لخطة تعود إلى عهد رئيس الوزراء السابق يتسحاق شامير، وترمي إلى توطين مليوني يهودي في “يهودا والسامرة” أي الضفّة الغربية.

وكان من ضمن المسؤولين الرئيسيين الذين وقعوا على هذا البيان والتعهد رئيس الكنيست يولي إدلشتين، والوزراء يسرائيل كاتس، وياريف ليفين، وزئيف إلكين، وجلعاد إردان، وأييليت شاكيد، ونفتالي بينيت، وميري ريغيف، وتساحي هنغبي، وأيوب قارا، ويوآف جالانت، وجيلا جمليئيل وأوفير أنوكيس. كما وقعّه أيضًا أعضاء كنيست ومرشحون من الليكود واليمين الجديد والبيت اليهودي.

وقد جاء في هذا البيان والتعهد: “أتعهد بأن أكون مخلصًا لأرض “إسرائيل” وألا أتخلى عن شبر واحد من تراث أجدادنا. أتعهد بالعمل من أجل خطة استيطانية لتوطين مليوني يهودي في يهودا والسامرة، وفقًا لخطة رئيس الوزراء يتسحاق شامير، وتشجيع وقيادة تحرير الأراضي في جميع مناطق يهودا والسامرة. وأتعهد بالعمل على إلغاء إعلان الدولتين لشعبين واستبداله بإعلان رسمي: أرض “إسرائيل” – دولة واحدة لشعب واحد!”.

هنا لا تنتحر “إسرائيل” فقط، والتي تعلم أن المقاومة والشعب الفلسطيني ومحور المقاومة كله لن يسمح بهذه التصفية للقضية وأنه أمر دونه المواجهة الشاملة، بل تورط أيضًا الأنظمة العربية في ضرورة اتّخاذ موقف يبدو من خلال صمتهم على ما مضى من مجازر أنهم عاجزون عن اتّخاذه أو متواطئون، وهو دفع لهم للانتحار والسقوط، ناهيك عن توريط المنطقة كلها في حرب شاملة دامية.

* المصدر: موقع العهد الاخباري
* المادة نقلت حرفيا من المصدر