السياسية :

يُروى أنه من عادات الطعام عند العرب أنهم يقللون من الأكل، ويقولون “البطنة تذهب الفطنة”، إذ كانوا يعيبون الرجل الأكول الجشع، ويرون أن “الأزم” أي قلة الأكل أفضل دواء لصحة الأبدان، فهل ما زال العرب أبناء الأزم أم سمحوا لثقافات دخيلة أن تغير ملامح ثقافة الطعام لديهم بالتالي تغيرت أجسادهم؟ وهل يتبع العرب عادات غذائية صحية؟ وما الذي يقف عائقاً في تطبيقها وممارستها؟ وكيف أثرت وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار صور الطعام في عاداتهم؟

تاريخ الطعام عند العرب

روى بعضهم على ألسنة الحكماء العرب أنهم يعالجون البطنة بالحمية، لأن المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء، فهم يرون أن الشبع والامتلاء يضعف الفطنة أي الشبعان لا يكون فطناً لبيباً، فللأكل علاقة كبيرة بالفطنة والعقل والذكاء.

ولما كان الإكثار من الأكل معيباً عندهم وضعوا ألفاظاً في هؤلاء الذين كانوا يسرفون في الأكل، فإذا دعوا أحدهم إلى وليمة أسرفوا في الأكل وأقدموا عليه وكأنهم جاءوا من سني قحط وعابوهم، ومدحوا من اعتدل في أكله وتوسط فيه وأظهر نظافة وأدباً في تعاطيه.

ومن عادات العرب أنهم كانوا يبكرون في الغداء، إذ يرون أن ذلك أقرب إلى راحة البدن وصحته ويؤخرون العشاء، ولقد كان للفتوح الإسلامية لبلاد الشام والعراق وما تبعها من احتكاك بالحضارات القديمة أثر كبير في ثقافة الطعام وطرق الطبخ لدى العرب، إذ قيل إن العربي فتح فمه بعد فتحه لهذه الأمصار ليطعم من طيبات ما فيها، وأخذت تتنامى ظاهرة جديدة هي الشره في الطعام.

ويقول كمال الدين الدميري (808هـ) في كتابه “حياة الحيوان الكبرى”، “لقد أخذوا بأطراف الحضارة منذ أيام بني أمية، وأول من قلد الأعاجم بأسباب الترف والنعيم معاوية بن أبي سفيان (60هـ)، فقد تنعم في ما تنعم بمأكله ومشربه، واحتذى به خلفاؤه من بعده”.

وفي كتاب مروج الذهب للمسعودي (346هـ) نقل أن “معاوية كان يأكل في كل يوم خمس مرات وآخرهن أغلظهن، ثم يقول يا غلام ارفع فوالله ما شبعت ولكن مللت”.

وقد ألحقت هذه الشهية ضرراً بصاحبها وغيرت من عاداته، فكان معاوية أول من يخطب جالساً لزيادة وزنه، كما أنه أول من استحضر الأطباء على مائدته للإشراف الطبي عليها وتقديم المشورة الصحية، إذ كان طبيبه الخاص يقف بين يديه ويعاين الطعام وينهاه عما فيه مضرة له، لكن شهية معاوية لم تكن تحب الالتزام بالتعليمات الطبية باستمرار.

وانتقل المطبخ العربي مع انتقال الخلافة للعباسيين الذين حافظوا على قوة شهية بني أمية للطعام، إلا أنهم بدأوا بمقاربة الطعام طبياً بعد أن رأوا ما فعله الطعام بغيرهم، وعليه فقد استكتبوا الأطباء وقد كان من أوائل الكتب الشاملة التي تناولت علاقة الأغذية بصحة الجسم كتاب “منافع الأغذية ودفع مضارها” للرازي الذي لم يكن راضياً عن إنتاج كل من سبقه من المؤلفين في هذا الباب.

ثقافة العالم العربي

تقسم الدول العربية من ناحية بيئاتها إلى بيئتين واضحتين حتى داخل الدولة الواحدة وهي البحرية والصحراوية، وبما أن البيئة هي السبب الأول في تكوين صفات شعب من الشعوب وخلق عاداته وتراثه وثقافته، كان لبيئة حوض المتوسط مع وجود ثماني دول عربية تطل عليه ثقافة عامة اشتركت في مفاصل عدة وأبرزها الطعام الذي تشترك بسماته مع بعض الدول الأوروبية التي تطل عليه.

كما كان للبيئة الصحراوية وشبه الصحراوية صفات وثقافة مختلفة اندمجت في ما بعد هي والمتوسطية مع بعضهم بعضاً، وخلقت تمازجاً ثقافياً وتراثياً، والطعام كان أهمه.

وأثبتت بعض الدراسات أن فوائد طعام البحر المتوسط كثيرة لصحة الإنسان، إذ تقيه من الإصابة بعدد من الأمراض لاعتبار عناصره صحية ومهمة للجسم، وأهمها الخضراوات والحبوب والفواكه وزيت الزيتون الصحي بامتياز، فهو يمنح الجسد معظم العناصر التي يحتاج إليها مع قليل من اللحوم.

أما أهل الصحراء فلهم ثقافة مختلفة خلقتها بيئتهم، فقد كانوا يعرفون بقلة طعامهم لكن إذا أكلوا كانوا يكثرون من اللحوم والدهون والعصائد التي تعتبر زاداً مهماً للجسد في هذه البيئة وتمده بعناصر يحتاج إليها.

يقول ابن خلدون “وأما أهل البادية فمأكولهم قليل في الغالب، والجوع عليهم أغلب لقلة الحبوب حتى صار لهم ذلك عادة، وربما يظن أنه جبلة لاستمرارها وعلاج الطبخ بالتوابل والفواكه، إنما يدعو إليه ترف الحضارة الذين هم بمعزل عنه”.

هذا الاختلاف في البيئة منح أجساد أبناء العالم العربي سمات مختلفة في وقت مضى، لكن اليوم ومع امتزاج الحضارات والثقافات واجتياح ثقافات أخرى للعالم العربي أخلا بمفهوم الطعام وأساساته، وأين نشأ كل نوع وهل يوائم أهل البيئة التي حل فيها، فمع اختلاط ثقافة البحر المتوسط والصحراء في الطعام أنتجت ثقافة جديدة له ورغم اختلاف البيئات إلا أنها ظلت في نطاق حدود ثقافة سهلت التمازج والابتكار السليم.

لكن مع دخول أنواع طعام من خارج حدود العالم العربي اختلطت المفاهيم وأنتجت ثقافة الطعام السريع fast food أجساداً ممتلئة وخمولة، وشيئاً فشيئاً داهمتها الأمراض من كل حدب وصوب من دون توجيه أصابع الاتهام للطعام الدخيل أو العادات الصحية السيئة، فطعام العرب مشهور بعنصري البروتين والدهون الثقيلة والذي قد يؤدي في حال الشره إلى التخمة، لكنه لم يكن يؤدي بالناس إلى الإدمان.

طعام العرب العاطفي

وفي وقت سابق كان إنسان العالم العربي قد تعرض لاحتلالات وضغوط وحروب جعلت من التوتر عنواناً رئيساً لحياته، وهذه التبدلات القاسية التي غيرت وبدلت في أساسات وثقافة وحياة العرب أدت إلى خلل في حياتهم عموماً، ومن البديهي أن يتأثر طعامهم بهذه التبدلات.

إن فتح أهل البلاد العربية المجال للطعام الغربي بما فيه المكتنز بعناصر تؤدي للإدمان مع عيشه لحالات توتر مرتفعة أدى إلى دخوله في دوامة من عدم الإشباع والالتجاء إلى الطعام كنتيجة نفسية عميقة في الشعور بالأمان والامتلاء، وفي هذه اللحظة كان لا بد من ظهور اختصاصي التغذية الذين حاولوا من دون فهم البيئة وتاريخها إعطاء حلول أساسها قائم في معظمه على أبحاث أجنبية قد لا تتلاءم مع بيئاتنا وتنوعها وكيف يتفاعل الجسم معها، لكنهم حاولوا جاهدين تقليل الضرر الذي أنشأته عادات طعام غير صحية ومبنية على قرارات عاطفية بمعظمها.

ومن هذه القرارات ما هو مبني على المشاعر السلبية التي تخلق إحساساً بما يعرف بالفراغ العاطفي، إذ يعتقد الشخص أن الطعام وسيلة لملء فراغ يشعر به، فهو يخلق شعوراً زائفاً بالامتلاء.

هذا السلوك اللا واعي تنتج منه دورة كاملة من الأكل العاطفي الذي ينتج بدوره من التوتر والضغط ارتفاع هرمون الكورتيزول الذي يؤدي إلى الشعور بالرغبة الشديدة في الأكل، والأهم من هذا أن عدم القدرة على التمييز بين الجوع الجسدي الحقيقي والجوع العاطفي سيكون أحد الدوافع الرئيسة للأكل، ولذلك غالباً ما تفشل الأنظمة الغذائية في حالات الأكل العاطفي لأنها تقدم نصائح غذائية منطقية، وهذه النصائح لا تعمل إلا إذا كان لدى الإنسان سيطرة واعية على عاداته الغذائية ومعرفة الفرق بين الجوع الواعي واللاواعي العاطفي.

دوافع العرب للأكل الصحي

إن أبرز دافعين حثا خطى العرب بالعموم على اتباع ثقافة الطعام الصحي هما حال المرض القصوى ومحاولة التشبه بأجسام المشاهير، خصوصاً بعد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي أسهمت في الترويج لنمط الحياة الصحي في نوعية الطعام وشكل الأجساد.

ففي الحالة الأولى ورغم أن عدداً من اختصاصيي التغذية الذين غصت شاشات التلفزيون بهم لمدة سنوات قدموا نصائحهم لحياة صحية للإنسان، لكن معظم الناس كانت منذ أيام التلفزيون ولا تزال في عصر وسائل التواصل الاجتماعي تشاهد وتؤيد وتتحمس، لكن في النهاية وعندما يأتي وقت التطبيق تظهر الحجج القابعة خلف العادات الغذائية صعبة التغيير.

فعلى سبيل المثال هناك بعض الأشخاص من الرجال كبار السن كانوا يخضعون لعمليات القلب المفتوح، ولا يمتثلون لنصائح الأطباء، إذ كانوا يعودون إلى عاداتهم السيئة مثل التدخين أو تناول الطعام المؤذي لأجسادهم بعد العملية مباشرة.

وفي ناحية أخرى فهناك من أخذوا خطوات نحو عادات صحية في لحظة معرفتهم بوجود مرض معين معهم، إذ اصطدموا بحقيقة أنهم على شفير الهاوية إذا لم يغيروا ويعدلوا في غذائهم وطبيعة حياتهم.

أما حياة ما بعد وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي فقد اتخذت مناحي عدة متطرفة في الترويج للطعام الصحي والآخر غير الصحي والمشبع بالمكونات المؤذية، التي تسبب إدماناً للإنسان، إذ أسهمت وسائل التواصل في حث مستخدميها على استهلاك ما تقع عليه أعينهم والمقدمة بطريقة جذابة، وبخاصة تلك غير الصحية التي يتعرض لها الشخص بصورة أكبر من الصحية لانتشار مطاعم الأكل السريع، مثل النار في الهشيم بالمجتمع العربي، ومحاولة تقليد الغرب كنوع من مواكبة العصر ولكن بطريقة خاطئة.

كما يتعرض المستخدمون لمحتوى الطعام الصحي، لكن هذا المحتوى يحتاج إلى تحفيز، لذلك يرفق بصور لأجسام تمارس اللياقة البدنية، وتظهر نتيجة هذا النظام عليها، لكن عند التحفز لتطبيق هذه الأنظمة الصحية قد يصطدم كثيرون أنها غالباً ما تعتبر قاسية وصارمة، وبالتالي فتطبيقها يعتبر صعباً مما قد يولد مشاعر متدنية من الإحباط والغضب لعدم القدرة على تحقيق هذه المعايير، بخاصة أنهم يتعجلون ويريدون أن تكون بأقل كلفة وأسرع وقت.

الكرم يساوي الطعام

إن العالم العربي اليوم يتغنى بعدد الفنادق والمطاعم التي أصبحت لا تعد ولا تحصى، وكل منها يتنافس في العرض والتقديم ومحاولة كسب زبائن تستهلك ما لديهم، ومع وسائل التواصل أصبح التعرض لهذا المحتوى أسرع وفي كل الأوقات، فلا حاجة إلى أن تكون جائعاً لتأكل، ولا يهم إن كان لديك السكر أو أي مرض آخر ليعرض لك أطايب الطعام والحلويات، فالمهم أن تستهلك.

وفي المقابل لا يقلق العربي على نفسه من الاستهلاك، فقد انتشر إلى جانب كل ما يخص الأطعمة والحلويات صالات الأندية الرياضية التي تعد الجميع بالجسم المثالي والرشيق، لكن بعض العرب اتخذ له ثقافة الغذاء الصحي كنمط حياة واستمر فيه، فدائماً هناك هدف وغاية لاتباعه ويرافقه شعور بالحنين لعادات الطعام اللامسؤولة التي تعتبر متعة من متع الحياة وأساساً من أساساتها عند العرب بخاصة، فالعربي الكريم الشهم هو من أطعم ضيوفه وقدم لهم موائد عامرة في الحل والترحال والأفراح والأتراح واجتماعات العمل، لأن الطعام عند العربي دليل حاسم على أصالة الإنسان ومعدنه، إذ من خلاله تؤلف القلوب، وتزول الحواجز بين المتخاصمين، وتخلق حالاً من المودة والألفة بين المتشاركين في الطعام مما يؤسس لحال اجتماعية طيبة، فأعز الأصدقاء عند العرب هو من شاركهم الخبز والملح، وجلس إلى موائدهم.

العودة للأصل

في ظل عالم متسارع ونهم للمعلومات من كل حدب وصوب، تقف صحة الإنسان على مفترق طرق بخاصة في عالمنا العربي الذي يتلقف جميع الثقافات ومنتجاتها من دون إدراك ما يجب أخذه وما عليه رفضه، فليس كل طعام يلائم بيئتنا العربية المنوعة أساساً، فالجسد مثل التربة وما يصلح زراعته في بيئة استوائية لا يصلح في أخرى بحرية أو صحراوية، وقد خرج عدد من الأطباء والمتخصصين في كثير من القنوات على “يوتيوب” وكأنهم جنود مجندة يقدمون النصح والإرشادات، وبغض النظر على أن منهم من هو حقيقي ويعلم وآخرون دجالون ويسترزقون إلا أن بحر المعلومات أضاع العرب أكثر مما هداهم إلى بر أمان صحي يتبعونه، ففي كل يوم تخرج دراسة جديدة تهدم ما قبلها وتبني شيئاً جديداً، وما كان صحيحاً أصبح خاطئاً وهذا ما يزيد الطين بلة.

لكن بعودة بسيطة لتاريخ العرب نجد أن لديهم مراجع لا تعد ولا تحصى من العلماء الأوائل الذين خطوا لهم، ولنا طرق وأساليب وكتب عن الطعام الصحي وأسلوب الحياة الجيد من الرازي وصولاً إلى النصيحة التي طلبها الحجاج بن يوسف من تياذوق، الطبيب العربي الشهير بالأعشاب قائلاً، “صف لي صفة آخذ بها في نفسي”، فأجابه تياذوق “لا تأكل من اللحم إلا فتياً ولا تأكله حتى يتم طبخه ولا تشربن دواء إلا من محله ولا تأكل من الفاكهة إلا نضيجها، ولا تأكل طعاماً إلا أجدت مضغه وكل ما أحببت من الطعام واشرب عليه، وإذا  شربت فلا تأكل عليه شيئاً ولا تحبس الغائط والبول، وإذا أكلت في النهار فنم وإذا  أكلت في الليل فتمش ولو 100 خطوة”.

هذا ما ذكره الكاتب السعودي خليفة الإسماعيل في كتابه “أجدادنا والغذاء”، إذ عرض فيه لأنواع من المآكل وللتعامل مع الطعام بما يحوله إلى عامل صحي ويبعد الآكلين عن الأضرار التي قد تنشأ عن سوء استخدامه، وقد جاء في الكتاب أن “المداواة بالغذاء ترجع للعصور التاريخية الأولى بل وإلى ما قبل حكماء اليونان الذين برعوا في التداوي بالأعشاب حتى أخذها العرب وقاموا بتطويرها، وقد أوضح أجدادنا في كثير من مؤلفاتهم أن كل غذاء هو دواء إذا تم تناوله بالطريقة الصحيحة والكميات المناسبة”.

سنا الشامي صحفية وكاتبة سورية

المصدر : الاندبندنت