تغير الأدوار: لماذا قد تكون دول الشرق الأوسط الوسيط الأنسب للمستقبل؟
بقلم: أليكسي كليبنيكوف
ترجمة: انيسة معيض، الإدارة العامة للترجمة والتحرير الأجنبي “سبأ”
لقد دخل عالم اليوم، ببنائه الحالي للعلاقات الدولية، في مرحلة جديدة من التحول، مرحلة ستستغرق سنوات.
كقاعدة عامة، تظهر مثل هذه التطورات من خلال إصلاح شامل للنظام القديم مع إنشاء نظام جديد بدلاً من ذلك، وهي عملية مؤلمة عادةً.
يعد الشرق الأوسط إلى حد كبير محكاً للتغيرات في العالم، وقد دخل مرحلة التحول منذ حوالي 10 سنوات، التغيرات العالمية متوقعة في النظام الدولي ككل.
وكقائد عالمي رائد في عدد من النزاعات والأزمات المحتملة، تعرف دول الشرق الأوسط ثمن التغييرات الحالية وتسعى جاهدة لاستخدام الدبلوماسية والوساطة والسبل العملية للتخفيف من الأزمات، بما في ذلك الصراع في أوكرانيا.
الوسطاء:
في 21 و22 سبتمبر، تبادلت روسيا وأوكرانيا أكبر عدد من أسرى الحرب منذ تصاعد الصراع في فبراير 2022، وأبرم الطرفان اتفاقاً في يوليو لفتح الموانئ الأوكرانية أمام صادرات الحبوب.
وقد تحقق التقدم الدبلوماسي بفضل المساعي الحميدة التي قدمتها جهات فاعلة خارج الصراع.
على وجه الخصوص، شاركت تركيا والمملكة العربية السعودية في حدوث تبادل أسرى الحرب، بينما عملت تركيا إلى جانب الأمم المتحدة، كوسيط في إبرام صفقة الحبوب.
في 11 أكتوبر، قام رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد آل نهيان بأول زيارة رسمية له إلى روسيا منذ ثلاث سنوات للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وخلال المفاوضات، شكر بوتين نظيره على جهود الوساطة التي يبذلها و “مساهمته في حل جميع القضايا الخلافية، بما في ذلك الأزمة الحالية في أوكرانيا”.
في 13 أكتوبر، التقى الرئيسان الروسي والتركي في أستانا، حيث كان من المتوقع أن يناقش القادة، من بين قضايا ثنائية أخرى، الأمور المتعلقة بالصراع المستمر في أوكرانيا، بما في ذلك وساطة أنقرة.
توضح هذه التفاعلات رفيعة المستوى الاهتمام الشديد لدول الشرق الأوسط بالعمل كوسيط في التصعيد الخطير بين روسيا والغرب على خلفية الصراع في أوكرانيا.
بشكل عام، تجدر الإشارة إلى أن دول الشرق الأوسط تشارك بشكل استباقي في العملية الدبلوماسية، وتعرض قدراتها على الوساطة لموسكو وكييف مع الحفاظ على حيادها والتفكير العملي.
يبدو من الواضح انهم مهتمون بشكل متزايد أكثر بالإسراع بحل للنزاع – أو على أقل تقدير، بعدم إطالة أمده – من نظرائهم الغربيين.
الوحيد الذي برز من بين الدول الغربية هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي لم ينجح في تقديم جهود الوساطة.
منذ بدء تصعيد النزاع في أوكرانيا في أواخر فبراير 2022، قدمت عدة دول في الشرق الأوسط نفسها كوسطاء: إيران وتركيا والسعودية والإمارات وقطر ومصر…. كما قامت جامعة الدول العربية، أيضاً باقتراح نفسها كوسيط، ما الذي يكمن وراء موقفهم الايجابي؟
النهج العملي والحيادية
قبل كل شيء، من المهم تسليط الضوء على أن دول الشرق الأوسط تستخدم مؤخراً البراغماتية بشكل متزايد في سياساتها الخارجية لأنها تنوع حقائبها الدبلوماسية، الأمر الذي يؤتي ثماره بالتأكيد.
على سبيل المثال، تتمتع قوى الشرق الأوسط مثل السعودية وتركيا وإيران (قبل التقارير المتعلقة بتزويد روسيا بطائرات بدون طيار) ومصر بعلاقات عمل جيدة مع كل من موسكو وكييف وكذلك مع الدول التي تقدم مساعدات عسكرية مباشرة لأوكرانيا.
وحتى الآن، لم يختار أي منهم الاصطفاف مع الغرب لإرضائه، وهو الذي كان يمارس ضغوطاً للانضمام إلى فرض العقوبات و”وضع قيود مشددة” على العلاقات مع روسيا، إن لم يكن قطعها تماماً.
من الواضح أن دول الشرق الأوسط تدرك أن اختيار الاصطفاف مع الغرب لن يعرض علاقاتها الثنائية المتطورة مع روسيا للخطر فحسب، بل يستبعد أيضاً إمكانية العمل كوسيط في المفاوضات، وبالتالي المساهمة في حل الأزمة الأوكرانية.
إلى جانب ذلك، من المؤكد أن هذا سيلقي بظلاله على قدراتهم بشأن الوساطة في المستقبل: لن يكون هناك أي شخص على استعداد للتحول إلى وسيط يدعم صراحة طرفاً معيناً في النزاع.
من خلال اتباع سياسات براغماتية، سيكون لدى دول الشرق الأوسط المزيد من الفرص للعمل كوسطاء، وتعزيز الحل السلمي وتعزيز مصالحهم باستمرار.
وهذا هو السبب في أن موسكو لا تعتبر الدول الغربية وسطاء محتملين: لقد أساءوا بوضوح إلى حيادهم من خلال أن أصبحوا طرفاً بحكم الواقع في الصراع بفرض عقوبات وإرسال أسلحة ومدربين ومرتزقة إلى أوكرانيا.
في ظل هذه الظروف، فإن الحياد المستمر لدول الشرق الأوسط (مثل تركيا، والسعودية ومصر وما إلى ذلك) حيث يعد هذا ميزة لهم، لأن موقفهم يبدو متوازناً ومستقلاً ومتسقاً مع مصالحهم بشكل كبير على عكس النهج الذي يفضله الغرب.
يستمرون في كونهم شركاء للغرب، وفي نفس الوقت يطورون التعاون مع روسيا والصين، وهما المركزان الآخران لعالم اليوم.
ومن جانبها، تنظر موسكو إلى هذا النهج باعتباره عملياً ويؤدي إلى تعزيز الحوار.
روسيا وتركيا، على سبيل المثال، لديهما علاقات عملية قائمة على الاحترام المتبادل، مما سمح للدولتين مؤخرا ًبالتغلب بنجاح على العديد من الأزمات على الرغم من خلافاتهما (أسقاط Su-24 في سوريا عام 2015 والمواجهة في سوريا وليبيا، مبيعات المعدات العسكرية لأوكرانيا) وهذا يجعل تركيا وسيطاً أكثر قبولًا لدى موسكو.
ينطبق الشيء نفسه على العلاقات الروسية السعودية التي تستمر في التطور على الرغم من خلافات الدولتين في سوريا أو صراع السعودية مع إيران، الدولة التي تربط روسيا علاقات ودية معها.
تفتقر معظم دول الشرق الأوسط إلى الثقة تجاه الغرب وبرأيهم، يثبت الصراع في أوكرانيا أن الغرب يلجأ إلى المعايير المزدوجة التي يتم تطبيقها على قضية المهاجرين والنزاعات المسلحة الأخرى (على غرار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني) أو توزيع الأسلحة.
يمكن القول إن دول الشرق الأوسط تفضل عالماً متعدد الأقطاب/ متعدد المراكز على عالم أحادي القطب لأنها تفضل عالماً به طرق عديدة للحماية من المخاطر – وكما يقال عدم وضع كل البيض في سلة واحدة والاستفادة من الحفاظ على التوازن:
الحصول على أسلحة وضمانات أمنية من الولايات المتحدة، واستثمارات من الصين، وتعاون في الطاقة والأمن من روسيا.
أصبحت السياسة متعددة التوجه واحدة من الركائز الجديدة لعلاقاتهم الخارجية، بهذه الطريقة، تضمن هذه الدول ظروفاً مريحة لتنميتها وإعطاء الأولوية لمصالحها الخاصة بدلاً من مصالح أي شخص آخر.
اليوم، تتمتع منطقة الشرق الأوسط ككل، وكذلك كل دولة من دول المنطقة، بفرصة فريدة لتصبح منصة حوار محايدة، حيث يمكن أن تلتقي مختلف الأطراف المتصارعة.
يمكنهم أيضاً البدء في إعداد مبادرات الخبراء المختلفة التي تجمع العلماء من الأحزاب المتعارضة.
نظراً لأن الدول الأوروبية التي كانت ذات يوم محايدة لم تعد كذلك (النمسا وسويسرا والسويد وفنلندا)، سيكون هناك نمو ملموس في الطلب على الدول المحايدة حقاً والقادرة على إنشاء أماكن إقليمية جديدة مع مراعاة الفروق الدقيقة في صراع معين.
في النهاية، قد يظهر شيء مشابه لحركة عدم الانحياز التي تشمل دولاً محايدة تمتلك رأيها الخاص بها.
وقد يصبح هذا أيضاً عاملاً قادراً على توحيد دول المنطقة لمساعدتها على التغلب على مشكلاتها الخاصة.
الأمن الغذائي والطاقة والسياحة
إلى جانب أشياء أخرى، تسعى دول الشرق الأوسط إلى تحقيق مصالحها الخاصة، وهو أمر طبيعي فقط في خضم صراع تؤثر عواقبه عليها بشكل مباشر.
التأثير السلبي للأزمة على الأمن الغذائي هو دافع واضح لهذه البلدان ليكون لها مصلحة في حل الصراع والحفاظ على العلاقات مع موسكو.
نظراً لأن روسيا وأوكرانيا من بين أكبر مصدري السلع الزراعية (الحبوب والذرة وزيت عباد الشمس) والأسمدة، فإن الصراع يؤثر بشكل ملموس على الإنتاج والتوزيع الآمن ونقل البضائع.
تركيا ومصر وإيران والسعودية ليست فقط أكبر دول الشرق الأوسط ولكنها أيضاً أكبر المشترين الإقليميين للسلع الزراعية الروسية.
لذلك ليس من المستغرب أن يكونوا قلقين من احتمال توقف النقل، وبالتالي، فهم مهتمون بشكل مباشر بتأمين إمدادات السلع الزراعية من كل من روسيا وأوكرانيا.
التنسيق داخل أوبك بلس، عامل مهم بنفس القدر، يساعد الدول المنتجة للنفط على الحفاظ على استقرار أسعار النفط، وبالتالي ملء خزائنها.
يعترف جميع المشاركين بالدور الذي تلعبه روسيا، أحد أكبر المنتجين في العالم، في هذا الخصوص، مما يشير إلى أن التنسيق سيستمر.
ونظراً للتغير اللوجيستي لتزويد موارد الطاقة فضلاً عن الأسعار شديدة التقلب جنباً إلى جنب مع الوضع الجيوسياسي، تحتاج دول الشرق الأوسط إلى قدر أكبر من اليقين، وهو ما تسعى جاهدةً لتحقيقه من خلال الحوار مع روسيا، وهي سياسة أكدها القرار الذي اتخذته منظمة أوبك بلس في 5 أكتوبر، لخفض انتاج النفط بمقدار 2 مليون برميل يوميا.
كما أن تدفق السياح إلى تركيا ومصر والإمارات له أهمية كبيرة حيث أصبحت هذه الدول الثلاث الوجهات الأكثر شعبية للروس في عام 2022.
وهذا يترجم إلى ملايين السياح الذين يسافرون إلى هذه الدول وتوريد المليارات إلى خزائنهم.
إلى جانب ذلك، تم تسجيل أكثر من 4000 مستثمر وشركة روسية في الإمارات العربية المتحدة ويعيش هناك أكثر من 40 ألف روسي.
قيــــــود:
عند التفكير في كل هذا، من المهم جداً الإشارة إلى أنه بغض النظر عن نواياها وروحها العملية، فإن دول الشرق الأوسط ليس لديها النفوذ لجعل روسيا وأوكرانيا والغرب يجلسون على طاولة المفاوضات وفرض السلام.
ومع ذلك، فإن دورهم الرئيسي مختلف، وهو يكمن في الإعداد والحفاظ على عملية تفاوض مناسبة بمجرد أن يحين الوقت والظروف.
ومع ذلك، فإن تركيا والمملكة العربية السعودية على استعداد لتقديم نفسيهما كمحاورين في الأمور الفردية المتعلقة بصفقة الحبوب أو تبادل أسرى الحرب.
قد يتم حل المشكلة المتعلقة بأمن محطة زابوروجييه للطاقة النووية، من بين أمور أخرى، من خلال وسطاء.
يسمح ذلك للبلدان بالتوصل إلى نتائج تفيدها (ضمانات إمدادات الحبوب، وضمان سوق مستقر لموارد الطاقة وما إلى ذلك) والحفاظ على قناة اتصال بين موسكو وكييف.
الاختيار بين روسيا وأوكرانيا والغرب لا يجلب لهذه الدول أي مزايا، تسترشد كل منها بمصالحها الخاصة وستواصل الاستفادة من الفرص الجديدة.
لذلك، تظل سياسات دول الشرق الأوسط تجاه روسيا في خضم الصراع في أوكرانيا براغماتية ومتوازنة حتى على الرغم من الضغوط التي يمارسها الغرب.
في الوقت نفسه، لا ينبغي أن يُتوقع من الغرب التخلي عن محاولاته للضغط على شركائه في الشرق الأوسط لإجبارهم على الانضمام إلى العقوبات ضد روسيا.
إذا نجحت دول الشرق الأوسط في الحفاظ على نهجها البراغماتي تجاه الأزمة الأوكرانية، والمواجهة بين روسيا والغرب، وفي مواصلة سياساتها متعددة التوجه، فستكون هناك المزيد من الفرص لتسوية بناءة وانتقال أكثر سلاسة إلى بناء علاقات دولية وامنية جديدة.
إن تعزيز العلاقات مع الجميع يجعل من الممكن الحفاظ على التوازن وكبح التجاوزات.
يبدو أن السياسة متعددة التوجه والمسارات هي إحدى السمات المستقبلية الرئيسية للنظام الجديد.
ومع ذلك، يجب أن نضع في اعتبارنا أن دول الشرق الأوسط لا تزال تعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة وأوروبا، مما يجعل سيناريو قطع العلاقات تماما مع شركائها أمرا غير واقعي.
- صحيفة ” مودرن ديبلوماسي-Modern Diplomacy “البريطانية
- المادة الصحفية تم ترجمتها حرفياً من المصدر و بالضرورة لا تعبر عن رأي الموقع