السياسية:

إشكاليات عدة تحيط بترسيم الحدود البحرية اللبنانية، ولن يتوقف نطاق أي صفقة أممية على الحدود الجنوبية وإنما سينسحب المعيار المعتمد على الحدود الشمالية أيضاً.
فالتراجع من الخط “29” المنطلق من نقطة رأس الناقورة (جنوب) بوصفه الحدود الطبيعية للبنان، إلى الخط “23” المعتمد على نقطة افتراضية في عمق البحر يؤدي إلى انحسار البقعة الخاضعة للسيادة اللبنانية في المياه الاقتصادية، مما ينعكس مستقبلاً على مفاوضات الترسيم بين لبنان وسوريا، لناحية انطلاق خط الترسيم اللبناني من نقطة وسط النهر الكبير، والاتجاه بخط أفقي نحو عمق المياه الإقليمية وما بعدها.

وتتداخل في ملف ترسيم الحدود النزاعات السياسية بالتفاصيل التقنية، وذلك في ضوء الانقسام السياسي في لبنان بين محوري حلفاء سوريا وخصومها. وتعتبر أوساط مشاركة في أعمال ترسيم الحدود مع سوريا، أن “من السابق لأوانه الحديث عن مشكلة حدودية بين البلدين الجارين، وكل شيء يتوقف على ما ستؤول إليه عملية ترسيم الحدود البحرية الجنوبية”، و”يبقى الحوار هو الأسلوب المفضل لحل الخلافات مع الدول الجارة الصديقة”.

وعلى خلاف الترسيم البحري مع تل أبيب، فإن مقاربة الملف مع سوريا يمكن أن يتسم ببعض المودة على رغم العلاقة المتوترة بين البلدين لعقدين من الزمن.

ويقول المؤرخ عصام خليفة إن النهر الكبير يعتبر حد الترسيم بين لبنان وسوريا، وتعتمد نقطة “سرير النهر” أي خط الوسط في مجرى النهر، وتنطلق منها الحدود البحرية اللبنانية وفقاً للقانون الدولي للبحار، منبهاً إلى اعتماد الجانب السوري معياراً مختلفاً عن اللبناني مما يؤدي إلى تداخل بين البلوكات اللبنانية والسورية والقبرصية، ويخلق بالتالي أرضية للخلاف على الملكية.

ويتمسك خليفة بمقولة “الحدود علم”، أي إنها تخضع لقواعد واضحة لحل المشكلات بين الدول المتجاورة. وهي تمر بمرحلة تعيين الحدود، ومن ثم ترسيمها، ووضع علامات لها وتثبيتها وإدارتها.
وعليه فإن ترسيم الحدود هي مرحلة من المراحل. ويتابع خليفة أن الحدود بين لبنان وسوريا مرسمة وفق القرار 318 الصادر عن المفوض السامي الفرنسي هنري غورو في 31 أغسطس (آب) 1920، ومن ثم إعلان دولة لبنان الكبير، و”هناك محاضر مصادقة من قضاة التحديد والتحرير بواسطة قضاة لبنانيين وسوريين، كما تم اعتماد خط القمم لوضع الحدود البرية الفاصلة بين لبنان وسوريا من سلطة الانتداب الفرنسي.

أما في ما يتعلق باتفاق بوليه-نيوكومب فهي التي تحدد الحدود بين لبنان وفلسطين إبان خضوع الأخيرة للمنتدب البريطاني”، مؤكداً أن الترسيم البحري لا بد من أن ينطلق من نقطة الحدود البرية، جازماً “لا يوجد دولة في العالم تضع حدودها البحرية والمنطقة الاقتصادية الخالصة إلا انطلاقاً من الحدود البرية، وفي الحالة اللبنانية لا بد من أن تنطلق الجنوبية من رأس الناقورة، والشمالية من سرير النهر الكبير”.

ويشدد المؤرخ خليفة على أن المادة الخامسة من اتفاق الهدنة بين لبنان وكيان إسرائيل، واتفاق ترسيم الحدود الموقع، في 15 ديسمبر (كانون الأول)، من قبل المندوب الإسرائيلي فريد لاندر والمندوب اللبناني إسكندر غانم، يقر بأن رأس الناقورة هو الحدود البرية، وهو النقطة التي احتلتها كيان إسرائيل عند وضع الخط الأزرق، ومؤكداً أن الدستور اللبناني يمنع التنازل عن أي جزء من الأراضي اللبنانية.

ويتمسك خليفة بمندرجات القانون الدولي لناحية اعتماد الحدود البرية منطلقاً لترسيم الحدود البحرية، وهو ما ينطبق على البلوكات الشمالية وربطها بالنهر الكبير، بالتالي فإن اعتماد أي معيار آخر سيؤدي إلى حرمان لبنان من حصته. ويطالب المفاوض اللبناني بالتمسك بحقوق البلاد والأجيال المقبلة والقوانين الدولية، لأن “خسارة كبيرة تطاول حقوق لبنان في الترسيم مع كل من قبرص وإسرائيل ولاحقاً مع سوريا”، مشيراً إلى وجود أساليب مختلفة لإعادة حقوق لبنان بدءاً من التفاوض وصولاً إلى محكمة العدل الدولية.

البلوكات المتداخلة

يتداخل البلوك رقم “1” السوري مع البلوكين “1” و”2″ اللبنانيين، وكان الجانب السوري قد صادق على تلزيم البلوك “1” لصالح شركة “كابيتال” الروسية بموجب القانون رقم 10 بتاريخ التاسع من مارس (آذار) 2021.

وأشارت الخبيرة النفطية ديانا القيسي إلى أن مساحة البلوك “1” اللبناني تبلغ 1928 كيلومتراً مربعاً، أما البلوك “2” فمساحته 1798 كيلومتراً مربعاً، أما المساحة المتداخلة بين لبنان وسوريا فتتراوح بين 750 و1000 كيلومتر مربع، وهي ستتسبب في نزاع بين البلدين، لأنه في عام 2011 أصدر لبنان المرسوم 6433 وأعلن حدوده البحرية، وقد أودعت سوريا اعتراضها لدى الأمم المتحدة في عام 2014 على الموقف اللبناني وترسيم البلوكات “1” و”2″، بسبب الاختلاف في طرق الترسيم، لافتة إلى أن لبنان اعتمد في ترسيمه المعايير التي تقرها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، على خلاف سوريا التي لم توقع الاتفاقية. وقالت القيسي إن سوريا إلى جانب كيان إسرائيل وتركيا لم تنضم إلى الاتفاقية.

ونوهت القيسي بأن سوريا لزمت شركة “كابيتال” الروسية في عام 2021 التنقيب عن الغاز في البلوك رقم “1” السوري، وهو في المنطقة المتنازع عليها مع لبنان، كما أن لبنان سبق له أن لزم أيضاً البلوك رقم “9” المتضمن ثمانية في المئة في منطقة متنازع عليها، و”لبنان لم يقدم اعتراضاً رسمياً على تلزيم البلوك رقم 1 السوري، مما قد يتسبب في حرمانه بعض حقوقه مستقبلاً في حال عدم الوصول إلى حل على المنطقة المتنازع عليها”.

وقالت القيسي إن هناك إمكانية لحل الاختلافات بوجهات النظر من خلال المفاوضات، مضيفة أن “المختلف بين النزاع اللبناني – السوري عن اللبناني – الإسرائيلي أن هناك إمكانية للتواصل المباشر مع دمشق، ولا حاجة إلى وسيط”.

الترسيم لا يعني الثروة

و”عند الحديث عن البلوكات فإننا نشير إلى مساحات افتراضية في البحر، ولا بد من بدء عملية التنقيب والاستكشاف لمعرفة حجم الثروة”، ولا ترى القيسي أن مجرد إتمام الترسيم سيؤدي إلى حل مشكلات لبنان وبدء حقبة الازدهار، لافتة إلى أن ما يجري في الجنوب يؤكد إمكانية ترسيم الحدود البحرية بصورة مستقلة عن الترسيم النهائي للحدود البرية، مشددة على ضرورة مبادرة لبنان إلى الاعتراض على أعمال التلزيم للشركات الأجنبية التي تمس بثرواته المحتملة.

وختمت القيسي أنه “في حال الدول التي تمتلك قنوات تواصل لا حاجة إلى الأمم المتحدة، ولا بد من إطلاق جولة مفاوضات مباشرة، ويتم العمل من خلال لجان لوضع الإطار التفاوضي، ووضع الأسس المتفق عليها، والبدء بتفكيك النقاط الخلافية. ولا بد من اعتماد ثلاثة أمور: الشق التقني والشق القانوني والسوابق المتبعة في حل الخلافات المشابهة بين الدول، من أجل اعتماد الإجراءات المتبعة في حل الأزمات السابقة”، مضيفة “في حال التوصل إلى الاتفاق ينطلق مسار الترسيم وترسيخ الحدود، أما في حال استمرت الخلافات، إما يتم اللجوء إلى الأمم المتحدة، أو وساطة دولة ثالثة، أو اللجوء إلى نظام التحكيم الدولي”.

المصدر : موقع اندبندنت
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع