السياسية:

بعد ما يقرب من 1370 عاماً من معركة “ذي قار”، يوم اجتمع العرب الذين فرّقتهم النزاعات والمؤامرات، على قلب رجل واحد، لأوّل مرّة في تاريخهم، ليحموا وجودهم ويثأروا لكرامتهم ويهزموا عدوّاً خارجيّاً، كان مجرّد الحديث عن مواجهتهم له في ميدان معركة، يُعَدّ ضرباً من ضروب الجنون، فعلها العرب ذواتهم، في لحظة مشابهةٍ من التفرّق والتشرذم، واجتمعوا كتفاً إلى كتف، في السادس من تشرين الأول/أكتوبر من عام 1973، ليقاتلوا عدوهم ثأراً لكرامتهم السليبة في فلسطين، وفي عموم جبهات نكسة عام 1967.

ففي اللحظة التي كان جنود القوات الخاصة السورية يقتحمون موقع مرصد جبل الشيخ المنيع، ويلتحمون بأعدائهم بالسلاح الأبيض من المسافة صفر، كان الضبّاط والجنود في لواء “التجريدة المغربيّة” يقتحمون، بشجاعة عظيمة، تحصينات العدو عند سفوح جبل الشيخ، تظلّلهم طائرات حربيّة عراقية.

وكان الطيار اليمنيّ الباسل، عمر الشرجبي، يُدمّر مراكز تموين العدو في طبريّا، بعد أن أسقط طائرتين معاديتين وهو في طريقه إلى قصف ميناء حيفا.

وفي ساعات لاحقة، وبينما كان ضابط القوات الخاصة السورية الفذّ، علي حيدر، يَسُوق أمامه رتلاً من جنود العدو الأسرى، كان المقدّم سليم شاكر الإمامي، وهو أحد أكفأ ضباط الدرع في الجيش العراقي وأشجعهم، يفتك مع رجاله برتل مدرّعات صهيونية اخترقت أحد خطوط الجبهة واتّجهت إلى العمق السوريّ.

وطوال تلك الساعات العربية الفارقة، كان رئيس الجمهوريّة، القائد العام للقوات المسلحة السورية، الفريق حافظ الأسد، يتّصل بضباطه وجنوده في خطوط القتال الأولى، مخاطباً إياهم بأسمى العبارات الإنسانية والوطنية المحفّزة: يا مقدّم أديب، الوطن يشكرك ويُقدّر شجاعتك (وكان بطل الجمهورية العربية السوريّة، الطيار أديب الجرف، برتبة نقيب، حين تلقى عبر جهاز الاتصال في طائرته، وهو يحلق فوق هضاب الجولان، تلك المكالمةً من الرئيس الأسد في غرفة العمليات، ليُحيّيه ويمنحه رتبة عسكريّة بقِدَم خمسة أعوام، تقديراً لبسالته، وذلك بعد أن تبلّغت قيادة العمليات خبر إسقاط الجرف للطائرة الصهيونية السابعة). وتلقّى ضباط وجنود في الجيش العربي السوريّ اتّصالات مماثلة، ورُفّعوا إلى رُتب أعلى، وهم يقاتلون في الميدان.

تلك لحظة عربيّة تاريخية فاصلة ولامعة بامتياز، من حيث رمزيّتها بالنسبة إلى العرب جميعاً، واعتبارها نموذجاً أصليّاً يصلح للبناء عليه والاقتداء به، كمرجعٍ واقعيّ صلب ورصين وغير قابل للتشكيك في نجاعته، ولناحية تداعياتها على المستقبل العربيّ. اللحظة التي وقف فيها المغربيّ إلى جانب الجزائريّ يقاتلان بشجاعة كبيرة ومسؤولية عالية، في جبهتين عربيّتين تبعدان آلاف الأميال عن الجزائر والرباط، بينما يختلفان بشدّة على بوابات الصحراء هناك. وهي اللحظة التي أعلن فيها المغرب وتونس فتح باب التطوّع على مصراعيه للقتال إلى جانب الإخوة السوريين والمصريين ضد عدو واحد، وفتح فيها بطل حرب التحرير الجزائريّة، الرئيس هواري بو مدين، خزائن الجزائر لتمويل “كل ما يلزم من أدوات للمعركة في الجبهتين” (هكذا خاطب بو مدين القيادات السوفياتية)، بينما خاطب الجنود الجزائريين بالقول: “إنكم تذهبون إلى أشرف معركة؛ معركة الدفاع عن الأرض والعِرض والحق؛ معركة الدفاع عن فلسطين. هذه المعركة من أشرف المعارك، ولن نبكي على من يموت فيها، لكنّنا سنزفّه شهيداً وتزغرد له الأمّهات”.

إنها اللحظة، التي وقف وقاتل واستشهد فيها المقاتل الكويتيّ، بالقرب من إخوته، السوري والمصري والفلسطينيّ، بالإضافة إلى مقاتلين نعرف أسماء بلدانهم المتعددة والمتناثرة على طول الخريطة العربية، ونعرف فضلهم، ولا نعرف أسماءهم، هناك في طريق التحرّر العربي، وعلى بُعد خطوات قليلةٍ عن فلسطين. وهي اللحظة التي استنفرت فيها الولايات المتحدة الأميركية والحكومات الغربية، من أجل نجدة قاعدتها الاستعمارية المتقدّمة، والتي أقامتها فوق أرضنا في فلسطين، وبدأ الجسر الجويّ الغربيّ نقل كل ما يلزم من أسلحة وذخائر وطائرات حربية ومقاتلين، للحؤول دون إسقاط قاعدة القتل والإجرام تلك، ومنع تحرير الأرض العربيّة.

تلك “الهبّة” الاستعمارية، التي أفرزتها لحظة تشرين الخالدة، والتي يجب على كلّ عربي أن يحفظها عن ظهر قلب، وأنْ يتعلّم منها درساً عن الاستعمار والتحرّر، عن التفرّق والوحدة، عن طرائق تعاطي دول الهيمنة مع قضايانا وحقوقنا، عن الفارق بين “حرب التحرير”، التي أرادتها سوريا وأرادها جمال عبد الناصر وخطّط وأعدّ لها، وعن “حرب التحريك” التي أرادها كيسنجر مستخدماً السادات. ولعلّ قراءة مذكّرات الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية حينذاك، وأحد أبرز وأنصع رموز الجندية العربية الحقّة والمشرّفة، واجبة على كلّ عربيّ وعربيّة، من أجل فهم التفاصيل الميدانية التي شكّلت مقدمات المؤامرة الأميركية في أثناء المعركة، وتداعياتها على المستقبل، لجهة اختراع هزيمة من قلب النصر الواضح، وإحباط العرب وتشكيكهم في جدوى أي اجتماع عربي بشأن قضية التحرّر، وبإمكان القتال معاً في هذا الدرب الكفيل وحده بحجز مكان مشرق لهم تحت شمس العالم.

منذ تشرين الأول/أكتوبر 1973 إلى الآن، عملت قوى الاستعمار وأدواتها في المنطقة العربية، وتعمل على تشويه ذاك الفعل العربيّ المشترك والمشرّف، وإفراغه من كل مضمون أو معنى وطنيّ جامع، عن طريق التزوير والتشويه لحقائق كثيرة متعلقة بتلك الحرب، واختراع سيناريوهات تتحدث عن الفشل العربي في أثناء المعركة، وعن ضعف الضباط والجنود العرب، وتحويل الخيانة الساداتية، التي غيّرت مجرى الحرب ومصير المنطقة (كما مصير المحتل الصهيونيي)، إلى مثال على النصر السياسيّ الذي تحبّذه الولايات المتحدة الأميركية وكيان”إسرائيل”.

لذلك، يمكننا إيجاد عشرات الألوف من المواد المنشورة في هذا السياق، ولتلك الغاية، كما في الإمكان ملاحظة حجم التشويه الذي لحق بعقول الأجيال العربية اللاحقة، نتيجة ذاك التزوير الاستعماري والرجعيّ المتعمّد، من خلال متابعة تعليقات عدد من العرب في ذكرى الحرب. فالغرب وأتباعه لا يريدون ترك أيّ مثال عربيّ تحرري وجامع حيّاً وماثلاً أمام الأجيال العربيّة، مخافةَ مطالبة الجماهير العربية بالاقتداء به والسير في دربه من أجل تحقيق أهداف الأمة في التحرير والنهضة.

لذلك، لم تتوقف الولايات المتحدة الأميركية، ولا حكومات الغرب الأخرى، وتوابعها من العرب، منذ ذلك الحين، عن العمل على منع تكرار تلك المأثرة العربيّة. وإذا كان العمل الاستعماريّ أخرج مصر “السادات” عن هذا الطريق، وارتاح من جهدٍ عربيّ وازنٍ وكبير ومؤثّر، فإنّ سوريا، التي لم تَحِدْ عن ذلك الدرب، لا تزال حتى الساعة تدفع أغلى الأثمان نتيجة ثباتها وسعيها نحو التحرّر والتحرير، متّخذةً من الحدث التشريني العظيم نبراساً ونقطة انطلاق نحو الأهداف الكبرى.

ويمكن القول، بثقة، إنّ الحرب التي شُنّت على سوريا منذ عام 2011، بهدف تدميرها وإخراجها بالقوة عن مسار التحرير، هي أيضاً أحد تداعيات حرب تشرين التحريرية. فالمستعمر لا ينسى ولا يغفر ولا يسامح من يثور في وجهه مطالباً بحقوقه، وهو ما خاطب به الثائر والرئيس الكوبي، راؤول كاسترو، رفيقه الثائر الأممي تشي غيفارا في عام 1959، بالقول: “إنّ من شهر السلاح مرّة واحدة في وجه الإمبريالية، لا يمكن أنْ يُسقطه من يده. فإنْ فعل، فستحفر الإمبريالية قبره”.

وعند الحديث عن كوبا وحرب تشرين، يجب أنْ يتذكّر السوريون والعرب دائماً أنّ إخوةً ورفاقاً لهم من كوبا (بعض الوثائق تشير إلى خمسة آلاف) وكوريا الشمالية قاتلوا ببسالة في الجبهة السوريّة، بينما دعت وزارة الدفاع الأميركية قيادةَ جيش العدو الإسرائيليّ إلى وجوب القيام بكل ما يمكن فعله لإبادة هؤلاء وعدم السماح لمقاتل واحدٍ منهم بالعودة سالماً إلى بلاده (وهو ما فشل فيه جيش العدو).

وهذا درس آخر تعلّمنا إياه تلك الحرب المجيدة؛ درس عن تعاضد كل أحرار العالم وتكاتفهم وتآخيهم في وجه قوى الظلم والاحتلال، وإمكان وقوفهم معاً كإخوة سلاح في جبهات الحقّ على امتداد العالم، وهو ما حدث فعلاً في جبهات حرب تشرين. ومن جهة أخرى، يكشف لنا هذا الدرس التشرينيّ البليغ أنْ تلك القوى ترى كلَّ ثوار العالم أعداءً يجب قتلهم، حتى لو ذهبوا إلى آخر الأرض.

إنّ إصرار السوريين على الاحتفال بذكرى حرب تشرين التحريرية، خلال كلّ أعوام الحرب الأخيرة، عبر الروح الوطنية العالية ذاتها والشعور بالعزّة والفخر، يكشف دلالة أخرى يُضيفها هؤلاء السوريون إلى دلالات حرب تشرين، وهي أنّ هؤلاء الناس، الذين أثقلتهم حرب “الربيع الاستعماريّ” وأنهكهم الحصار، بلغوا درجات متقدّمة من الوعي بحقيقة صراعهم مع المستعمر، وبواقع مفاده أنّ أمثولة حرب تشرين أظهرت بوضوح أنّ وحدة البندقية العربية المقاوِمة هي من يُحقّق النصر والتفوّق على العدو المدجّج بكل أسلحة “العالم المتقدم”، وهي الجملة الأولى التي يمكن اعتمادها عنواناً للعمل التحرري في مستقبل المنطقة.

لذلك، انخرط هؤلاء في قلب “محور المقاومة”، وباتوا ركناً أساسيّاً فيه، وهم مدركون أنّ اجتماع أحرار المنطقة، ووحدتهم العمليّة، وقتالهم معاً في معركة واحدة من أجل تحرّرهم جميعاً، هي السبيل الوحيد الذي يُوصلهم إلى هدفهم التحرري والنهضويّ الأسمى. وإنْ كانت عدة أنظمة عربية، ممّن شارك أبناؤها بشرفٍ في تلك الحرب، ذهبت بعيداً في تبعيّتها وتذلّلها للمستعمر، وعملها على تنفيذ مشاريعه الهادفة إلى تفرقة العرب وإضعافهم لمصلحة كيان الاحتلال الموقّت، والسير بعكس كلّ المعاني المشرّفة التي أفرزتها اللحظة العربية في تشرين، فإنّ الانتصارات المتتابعة لمحور المقاومة الموحّد على امتداد أعوام الحرب الأخيرة، وبلوغه الآن مرحلة إحداث التهديد الوجوديّ الفعليّ لكيان الاحتلال، هي الدرس المُكمّل لتشرين 1973 في نظر هؤلاء السوريين، بل هي تتمّة الخطة الأصلية التي وضعتها قيادة الجيش السوريّ لحرب تشرين حينذاك، وهي تصحيح للتاريخ الذي زوّره بعض العرب، وحاولوا كتابته باللغة التي أرادها المستعمر.

المصدر : موقع الميادين نت
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع